وجها لوجه

تشارلز سيميك: نحن في عصر الجنون

 

 

 

يُعدّ تشارلز سيميك أحد أكثر الشعراء الأميركيين أهميّة في الزمن الراهن. فاز كتابه “العالم لا ينتهي” بجائزة البوليتزر للعام 1990؛ وكان بذلك أوّل ديوان قصائد نثر يفوز بهذه الجائزة المرموقة. كما ترشّح ضمن القائمة القصيرة للجائزة ذاتها في العام 1986، عن كتاب قصائده المختارة (1963-1983)؛ وفي العام 1987 عن مجموعته “أغنياتُ شجنٍ لا تنتهي”. يحصل في العام 2005 على جائزة غريفين العالمية في الشعر، وفي العام 2011 على ميدالية فروست التي تمنحها أكاديمية الشعراء الأميركيين. وفي العام 2014، تتوّجه مؤسسة الشاعر البولندي زبيغنيف هيربرت بجائزتها الأدبية العالميّة.

تشارلز سيميك: أميركا بلد عنيف يمور بالضغينة

ولد سيميك (واسمه الحقيقي دوجان سيمتش) في بلغراد سنة 1938. غادر مسقط رأسه إلى باريس، وهو في الخامسة عشرة من عمره، صحبة أمّه وأخيه، قبل أن يلتحقا، بعد بضعة أشهر، بأبيه الذي كان يعمل في الولايات المتحدة منذ نحو ستّ سنين. تستقر العائلة، بدايةً، في نيويورك، ثم ما تلبث أن تغادر إلى شيكاغو حتى العام 1958، ثم تعود إلى نيويورك مرّة أخرى، فيعمل تشارلز في النهار بوظائف مختلفة حتى يكمل دراسته في المساء. ثم يتحقق الحدث الأدبي الأول في حياته، حين تنشر مجلة “شيكاغو ريفيو” في العام 1959 بعض قصائده التي كتبها في أثناء إقامته القصيرة بشيكاغو. بيد أنّ مفاهيمه الشعرية ونظرته الجمالية إلى الأدب تشهد تحولًا جذريًّا خلال سنتي خدمته العسكرية، فيعمد إلى تمزيق قصائده المبكرة، لأنها لم تكن، على حدّ قوله، سوى “قيء أدبي”. ثم، وبعد سنة من حصوله على درجة البكالوريس من جامعة نيويورك، تنشر دار “كاياك” بسان فرانسيسكو، مجموعته الشعرية الأولى “ما يقوله العشب” في العام 1967.

أصدر سيميك نحو 36 كتابًا شعريّا، منها: “تفكيك الصمت” (1971)، و”العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب” (1974)، و”مدرسة للأفكار الشريرة” (1978)، و”قسوات” (1982)، و”تنبؤات جويّة للمدينة الفاضلة وما جاورها” (1983)، و”كتاب الآلهة والشياطين” (1990)، و”فندق الأرق” (1992)، و”زواج في الجحيم” (1994)، و”نزهة ليلية” (2001)، و”الصوت في الثالثة صباحًا” (2003)، و”حاشيتي الصامتة” (2005)، و”قرد في الجوار” (2006)، و”ذلك الشيء الصغير” (2008)، و”سيّد التخفّي” (2010)، و”المعتوه” (2014).

الفصل بين الإلهام والصنعة

وله في النثر: “اليقين الملتبس″ (1985)، و”عوالم رائعة وحقيقة صامتة” (1990)، و”خيمياء متجر السلع الرخيصة” (1992)، و”عرّاف عاطل عن العمل” (1994)، و”مصنع الأيتام” (1997)، و”ذبابة في الحساء” (2000)، و”الميتافيزيقي في الظلام” (2003)، و”المارق” (2008)، و”حياة في الصور” (2014).

وله في الترجمة أكثر من 14 عملًا، منها: “حدائق النار” لإيفان لاليتش (1970)، و”الصندوق الصغير” لفاسكو بوبا (1970)، و”تحية إلى الذئب الأعرج” لفاسكو بوبا (1979)، و”قصائد مختارة” لتوماش سالامون (1978)، و”بعض نبيذ آخر أو ضياء” لألكساندر ريستوفيتش (1989)، و”صحوة من أجل الأحياء” لرادميلّا لازيتش (2003).

اختارته مكتبة الكونغرس في العام 2007 ليكون “شاعر أميركا الرسمي” الخامس عشر. كما حصل في العام نفسه على جائزة والاس ستيفنز “لبراعته الفريدة والمتحققه في فنّ الشعر”. يعمل الآن أستاذا متقاعدًا للأدب الأميركي والكتابة الإبداعية في جامعة نيوهامشاير، حيث يقيم.

◄الجديد: أودّ سؤالك عن الفوضى السياسية الحالية في الولايات المتحدة. هل تعتقد بأن العالم ينحدر صوب “زمن ترامب”؟

تشارلز سيميك: ترامب لن يكون وحده أنه سوف يكون آخرون على شاكلته؛ أكثر ذكاءً، وأكثر مكرًا، وأشدّ شرًّا، ليس في هذا البلد فحسب، وإنما في كل مكان. أعتقد بأنّ أكثر الأوهام التي تسيطر على كثير منّا هو إيمانهم بالتطور الإنسانيّ؛ الجزم بأنّ الحياة، وعلى الرّغم من الانتكاسات الكثيرة، سوف تكون أفضل في المستقبل. يعتريني ذهول وأنا أقرّ بأنّه حتى بالنسبة إلى شخص مُتطيِّر مثلي، ذي معرفة راسخة بالتاريخ، قد انطلت عليه الحيلة. أما بالنسبة إلى أسباب هلاكنا، فثمة أطراف مذنبة كثيرة، ولكنّ النزعة العسكرية المغامرة للولايات المتحدة قد تكون في أغلب الظنّ أحد الآثام الجوهرية.

◄ الجديد: فهل نحن محشورون بين “شرّين”؟ وهل يجد المرء نفسه مجبرًا على أن يختار “أهون الشرّين”؟ أثمّةَ بديل “منطقيّ”؟

تشارلز سيميك: تبدو المسألة كمن يختار بين الذبحة القلبية والسرطان، مثلما قال أحدهم. نحن أمام مرشحين فظيعين لحزبين سياسيين فاسدين؛ الأوّل متعصب وجاهل، فيما المرشحة الأخرى مشعلة حروب معتوهة. أعرف أناسًا لن يصوّتوا لكليهما، على الرغم من أنّ سياسات هيلاري المحلية سوف تكون أفضل، وتتفوق درجات من الناحية الاقتصادية، بالنسبة إلى أغلبية الأميركيّين.

مشكلة عنصرية في الولايات المتحدة، ولقد كانت كذلك دائما. فحين صوت نحو ستين مليونا من الأميركيين لأوباما في الانتخابات الأخيرة، فإننا كنا نتحدث عن مجتمع ما بعد عنصري، ولكننا ندرك اليوم مع تنامي شعبية ترامب، بأننا كنا نخدع أنفسنا

◄ الجديد: لقد قيل كلام كثير، وسال حبر وفير، حول “العنف العنصري الذي تغلغل في نسيج الثقافة الأميركية”، خاصة بعد اضطرابات فيرغسن التي أعقبت مقتل مايكل براون برصاص دارين ويلسن، الشرطي الأبيض، في أغسطس 2014، وفي إثر احتجاجات بالتيمور في العام 2015 ضد مقتل فريدي غراي، الفتى ذي الخمسة والعشرين عامًا، على أيدي الشرطة البيض. لم تقتصر الاحتجاجات على السود العاديين في الشارع، بل قفزت المسألة بقوّة إلى واجهة الأدب؛ فعلى سبيل المثال، تناولت الشاعرة كلوديا رانكين، في مجموعتها “مواطن: أنشودة أميركية” (2014) -والتي حصدت عدّة جوائز مرموقة وكانت مثابة حدث أدبيّ فريد-مسائلَ تتعلق باللغة العنصرية، والذاكرة، والهويّة الفردية، والتجريحات المقولبة التي يطلقها البيض ضدّ السود. حتى أنّ تاناهاسي كوتس، في كتابه “بين العالم وبيني” الذي فاز بجائزة الكتاب القومي في العام 2015، قد تحدث عن “المشاعر، والرمزية، والوقائع اليومية التي تصاحب المرء، بوصفه أسود، في الولايات المتحدة”. وليس بعيدًا عن ذلك كلّه، رأينا كيف عالج بول بيتي، بتهكمية لاذعة، الهويةَ الأفريقية والمساواة العرقية، في روايته “الخيانة” التي فازت بجائزة المان بوكر لهذا العام، لدرجة أنه قد قال في مقابلة أجريت معه مؤخرًا “إنني أسمع بين الحين والآخر الأميركيين من أصول أفريقيّة يقولون بأنّ أحوالهم كانت أفضل أيّام الفصل العنصري، وهو أمر يسحقني تمامًا”. فهل تعتقد بوجود مشكلة عنصرية “حقيقيّة” في الولايات المتحدة اليوم؟ وهل ثمّة “فجوة ثقافية” -مستعيرين كلمات توني موريسن- بين تجليات خطاب عنصري مهيمن و”اختصار تاريخ العنف الأميركي ضدّ السود” في مثل تلك الكتابات؟

تشارلز سيميك: ثمّة -بالطّبع- مشكلة عنصرية في الولايات المتحدة، ولقد كانت كذلك دائمًا. فحين صوّت نحو ستين مليونًا من الأميركيين لأوباما في الانتخابات الأخيرة، فإننا كنّا نتحدث عن مجتمع ما بعد عنصري، ولكننا ندرك اليوم مع تنامي شعبية ترامب، بأننا كنّا نخدع أنفسنا. أما بالنسبة إلى العنف العنصري الذي تسرّب إلى نسيج الثقافة الأميركية، فلستُ أعرف ما التصور الذي في ذهن رانكين عن كلمة “ثقافة”. هذه المقولة صحيحة، بدون شك، في الجنوب ودوائر الشرطة في الكثير من المدن الكبيرة وفي بعض الأماكن الأخرى، بيد أنني أجدُ تعميمًا جامعًا وكاسحًا، مثل هذا، يعزو السبب إلى ذنب جماعيّ، أجده عدوانيًّا لأنه بكل بساطة ليس صحيحًا. إننا بلد مستقطب عنيف يمور بالضغينة، بيد أنّه لو كنا جميعًا كذلك في الحقيقة، فإنّ الملايين لم تكن لتنتخب رجلًا أسود رئيسًا للبلاد مرتين.

◄الجديد: لقد تفاجأ العالم الأدبيّ تمامًا بمنح جائزة نوبل في الأدب لهذا العام إلى بوب ديلان! هل تعتقد بأنّ “التروبادور الأميركي” جدير بهذا التتويج؟

تشارلز سيميك: كلّا، بالطّبع. كلنا يحب ديلان، بيد أنّ كلمات أغنياته ليست شعرًا عظيمًا ولا أدبًا عظيمًا. يبدو أن السويديين لا يفكرون كثيرًا بخصوص القَصّ الأميركي والشعر الأميركي، حتى أنهم لم يمنحوا الجائزة لأيّ أميركي منذ العام 19933، حين فازت توني موريسن بالجائزة، لذا فإنهم كانوا يرزحون تحت بعض الضغط لمنحنا إيّاها، ولهذا فعلوا، قائلين لنا، نتيجة لذلك، بأن ديلان هو أفضل ما لدينا.

◄ الجديد: ما هو الأدب العظيم؟

تشارلز سيميك: الروايات، والقصص القصيرة، والقصائد والمسرحيات التي تصمد وتبقى بسبب الصنعة الماهرة التي كتبت بها وجدّة رؤيتها حول مأزقنا الإنسانيّ. بعبارة أخرى، ما يجعل تلك الأعمال عظيمة هو ما تنطوي عليه فحسب. عن الكيفيّة التي دارت فيها الكتابة حول شيء ما. فإن قاومت امتحان الزمن ضمن ثقافة معيّنة وأصبحت تقرأ على نطاق كونيّ، كحكايات ألف ليلة وليلة، فإننا نطلق عليها اسم كلاسيكيّات. إنّني أمقت التعميمات الخيالية الوهميّة، بيد أنّ ذلك ما خطر ببالي حين استخدمت تلك العبارة في الحديث عن ديلان.

◄الجديد: ما الذي جعلك تقرر أن تصبح شاعرًا؟ ولمّا لم تكن كذلك، فأيّ وظيفة كنت ستختار؟

تشارلز سيميك: لم أقرّر البتّة؛ لقد حدث الأمر فحسب. رغبت في أن أكون رسّامًا مذ كنت في الخامسة عشرة من عمري وحتى بلغت الثلاثين، بيد أنني كنت أتسكع في تلك الأوقات مع شعراء ورسّامين وأكتب بعض القصائد على هامش ذلك كلّه، وصدف أن نشرت بعضًا منها في مجلات أدبية إلى أن اقترح عليّ أحد محرّري تلك المجلات أن أجمع تلك القصائد في كتاب. كنت في التاسعة والعشرين وأعمل في مجلة متخصصة في التصوير الفوتوغرافي في مدينة نيويورك،، متزوجًا، وسعيدًا، ولا خطط للمستقبل لديّ، سوى أن أفعل ما كنت قد بدأت في فعله، العمل بين خمس إلى تسع ساعات من أجل لقمة العيش، وأكتب قصائد في آخر الليل. وها أنا ذا، بعد خمسين سنة، لا أزال أعمل في هذا العمر الذي وصلت إليه، وأكتب في وقت فراغي.

العنف العنصري تسرّب إلى نسيج الثقافة الأميركية

◄الجديد: إذن، أنت شاعر بالصّدفة! فأيّ شعراء جذبتك أعمالهم في تلك الفترة؟ أيّ نوع من الشعر؟

تشارلز سيميك: كان جميع أفراد عائلتي يقرأون الكتب، لذا فإنني بدأت في سنّ مبكرة قراءة أيّ شيء تقع عليه يداي. كان أغلب ما قرأته في مراهقتي القَصّ الأوروبي والأميركي المكتوب في القرنين التاسع عشر والعشرين، بيد أنني وبعد أن كتبت قصائدي الأولى في سنّ الثامنة عشرة، اقتصرت قراءاتي على الشعر. قرأت تي. إس. إليوت، وباوند، ودبليو. سي. وليامز، وشعراء حداثيين آخرين، ولكنّ عشقي الأول كانت قصائد هارت كرين، وهو شاعر من عشرينات القرن العشرين، أصيل على نحو مذهل وغنائيّ وذائع الصيت لأنه كتب قصائد ملتبسة وغامضة. بيد أنني كنت، بدون شك، مهتمًا بالشعر الفرنسي منذ بودلير وحتى السوريالية، وقرأت بعضًا من شعر ريلكه وغارثيا لوركا. وكانت ثمّة مجلات أدبية أيضًا، كبيرة وصغيرة، تساعدني على تثقيف نفسي، حيث صادفت أعمال شعراء أميركيين وبريطانيين معاصرين.

◄الجديد: لقد سعى هارت كرين إلى تحويل “الغنائيّ” إلى “ملحمة عصريّة” -ملحمة تكون، كما في قصيدته ذائعة الصيت “الجسر”، أكثر “تفاؤلًا” و”تنبع من الديناميكا الوجدانية الكامنة”. هل تؤمن برؤية مثل هذه؟

تشارلز سيميك: كلّا، ولا حتى هو. لقد رغب في معارضة تشاؤميّة قصيدة إليوت “الأرض الخراب” التي رآها البعض ملحمةً عصريّة لا يشق لها غبار، بقصيدة أميركية طويلة قادرة على تصوير أهوال هذه الأرض وجمالياتها على حدّ سواء، وتحتفي بمثاليّتها. إنّ الرؤية الوعظية الكامنة في مشروع كهذا، مثلما تعرف، تمضي ضدّ كل ما ينطوي عليه الشعر الغنائيّ، لذا فقد توجّب عليه أن يلزم نفسه فأنجز متوالية من خمس عشرة قصيدة، بعضها من أفضل ما كتب، بيد أن المشروع برمته كان قد أخفق، وسرعان ما أدرك هو بنفسه ذلك.

◄ الجديد: هلّا حدثتنا عن الطقوس التي تمارسها في الكتابة؟ وهل مازلت تكتب في السرير؟

تشارلز سيميك: لا طقوس لديّ البتّة. أنزع حاليًّا إلى الكتابة في الصباح، فيما اعتدت الكتابةَ في شبابي آناء آخر الليل، ولكن ليس في مكان معيّن. فقد أكتب وأنا جالس في كرسيّ أو على مكتبي، وفي السرير لأنني في غاية الكسل كي أنهض، أو في المطبخ وزوجتي تعدّ العشاء. أكتب في كراريس صغيرة بقلم حبر جاف أو بقلم رصاص، لذا فإنني أكتب في أيّ مكان. بيد أنني حين أكتب النثر، فإنني أجلس إلى حاسوبي وأطبع.

◄ الجديد: طفولتك في بلغراد متجذرة عميقًا في معظم كتاباتك. كما لو أنك ما زلت تحيا هناك. كما لو أنّ القصيدة في حدّ ذاتها “فردوس مفقود” أو، بالأخرى، رحلة إلى “إيثاكا” تحرص دومًا على “إبقائها في ذهنك”، كأنّه قد “كُتبَ عليك أن تصل إلى هناك”، كما يقول كفافيس في قصيدته ذائعة الصيت؟

تشارلز سيميك: سؤال رائع. وكل ما ورد فيه حقيقي جدًّا، ولكنني لم أعد أفكر في طفولتي إلّا نادرًا، إلّا حين أُسأل عنها. فإن كانت تظهر في قصائدي، فذاك لأنّ هويتي قد تشكّلت من سنوات ترعرعي في بلغراد المحتلة، المقصوفة بالقنابل. وليست ذكريات “فردوسي المفقود” سوى عن الانفجارات والبنايات التي تشتعل فيها النيران، علاوة على رعب ومسرّة التسلل إلى الشوارع والركض في أرجاء المدينة المقصوفة مع الصبية الآخرين. كانت والدتي لا تكفّ عن قول “سأقتلك لو ضبطتك تفعل ذلك ثانية”، ولكنني كنت بالنسبة إليها عنيدًا ومتبجّحًا. وفي اليوم الذي انتهت فيه الحرب “لن يكون مزيد من اللهو الآن”.

◄ الجديد: هل ما زلت ذلك “المتشائم المرح”؟

تشارلز سيميك: نعم، بالطّبع، لأنّ تلك طبيعتي، وآمل أن أحتفظ بها حتى النهاية، مثلما فعل والدي. لقد كان يطلق النّكات وهو على سرير موته.

◄ الجديد: دائمًا ما يحتفى بك بوصفك “سيّد العبثي والمباغت”. فهل تشتغل على صورك الشعرية، أم تتركها تتدفق ملثما تحدث، بدون أيّ تدخل من طرفك؟ وهل تعتقد بأنّه يتوجب على القصائد أن تترك كما “هبطت على الشاعر .. وأن نجعلها تتشكّل بدون جهد واعٍ”، مثلما يقول كوليريدج في قصيدته “قبلاي خان”؟ أم علّك تعتقد، مثلما قال شيللي في “دفاع عن الشعر”، بأنّ “أفضل الفقرات الشعرية هي تلك التي تتحقق بالكدّ والتأمل”؟ هل الشعر “إلهام” أم “صنعة”؟

تشارلز سيميك: لا أتدبّر قصائدي عن سبق إصرار وترصّد. إنها مزيجُ حدسٍ ورويّة وتبصّر، ولكن ليس بطريقة نظامية. الحقيقة أنْ لا ذاكرة لديّ عن الكيفيّة التي كتبت فيها معظم قصائدي لأنها متوالية من أفعال فطرية/بديهية تعتمد على كل ما كنت أفكّر فيه، وأشعر به، أو أتخيّله في تلك اللحظة التي كنت أكتب فيها. إنّني أحبّ شيللي ومقالته تلك، بيد أنّه يتوجب ألّا نعتقد بأنّه كان يشتغل على قصائده بالطريقة التي قال إنه قد فعل. لا يمكن، من وجهة نظري، الفصل بين الإلهام والصنعة.

ظهور ترامب بداية لترامبات كثيرة

◄ الجديد: ماذا تقرأ هذه الأيّام؟

تشارلز سيميك: حفنة في الكتب في الوقت ذاته، بعضها قديم، وبعضها الآخر جديد. ولأنني أكتب مراجعات لـ “نيويورك ريفيو أف بكس″، فإنّ الكتاب الذي أراجعه يحتم عليّ في الغالب الرجوع إلى كتب قديمة للمؤلف، أو لكتّاب أثّروا فيه، وإعادة قراءتها. لديّ على الطاولة قرب سريري، على سبيل المثال “أرواح ميّتة” لغوغول، و”مقالات شوبنهاور وأقواله المأثورة”، و”يوميّات” غومبروفتش، و”قصص” ليديا ديفيس، وسيرة فيليب ليفاين “شعرائي الضائعون”، والعدد الجديد من مجلة “باريس ريفيو”.

الجديد: ترجمتَ شعراء مختلفين من لغات مختلفة. كم لغة تعرف؟ وهل كتابة قصيدة أشدّ صعوبة من ترجمة واحدة؟

تشارلز سيميك: أعرف الإنكليزية والفرنسية وبعض الروسية، إضافة إلى لغة أمّي الصربيّة وبعض اللهجات المنطوقة الأخرى في يوغسلافيا السابقة. إن كتابة الشعر أو ترجمته شيء صعب على حدّ سواء، بيد أنّ ترجمة قصيدة يمكن أن تكون أشدّ صعوبة. لماذا؟ لأنّه يتوجب عليك، كترجمان، أن تدخل في عقل شخص آخر، أن تشعر بما يشعر به، وأن تتأكد بأنك قد فهمته على وجه صحيح، لتعثر على الكلمات المناسبة في اللغة التي تنقل إليها، وهذه مسألة في بعض الأحيان ليست ممكنة.

◄ الجديد: هل تعتقد بوجود بعض الأعمال التي لا يمكن ترجمتها؟ ما الذي يحثك على ترجمة عمل دون آخر؟ وهل تظنّ بأن الشعراء هم أفضل من يترجم الشعر؟

تشارلز سيميك: نعم، ثمة قصائد معقّدة من الناحية الشكلانية أو تقوم على تعابير اصطلاحية لا يمكن نقلها من لغة إلى أخرى. إنني أترجم القصائد التي أحبها فحسب، والتي أعتقد بضرورة أن يعرفها القراء الأميركيون. إنّ ترجمة الشعر من طرف الشعراء أفضل في العادة، ولكن ليس دائمًا. فكثير من أفضل مترجمينا في السنوات المئة الأخيرة لم يكونوا شعراء.

◄الجديد: العزلة موجودة بقوّة في قصائدك. وشخوص قصائدك وحيدون في الغالب، يلفهم صمت عميق، وتحيط بهم أشياء متوحّدة. بيد أنها ليست “عزلة” الآخر -البعيد والقصيّ والغريب والأجنبيّ- بل هي تلك المرآة الوجودية التي نرغب، نحن القراء، في القفز في أعماقها، ونصبح جزءًا حيويًّا من المشهد كلّه. أن نفكك طبقات الصمت، لنرى وجوهنا تشعّ، بلا أيّ أقنعة، ليس على السطح فحسب، وإنما عميقًا في وجود كينونتها ذاته. لذا، فإننا نرى الكلمات في حدّ ذاتها، والصور الشعرية في مقاماتها، وحتى الاستعارات في تحوّلاتها، وقد أصبحت طريقًا منيرًا تأخذنا في رحلة “جوّانية” لنعثر على “المعنى”؛ معنى وجودنا نحن؟

تشارلز سيميك: أشعر بالسعادة لسماع ذلك. إن لم تكن الأفكار، كما قال ويتمن، أفكار كلّ البشر في العصور جميعها، وإن لم تكن أفكارك بقدر ما هي أفكاري، فإنها لا شيء. أما بالنسبة إلى العزلة، دعني أقتبس من الذاكرة شيئًا من شاعر آخر، الشاعر الإيطالي سلفاتوري كوزيمودو، الذي لديه قصيدة قصيرة تقول “كل امرئ وحيد على وجه الأرض، يحيط به شعاع من نور الشمس، ثم فجأة يعمّ المساء”. لقد قرأت ذلك لأول مرّة حين كنت في أوائل العشرين من عمري، هابطًا في نيويورك وصاعدًا منها، فأدركت على التوّ بأن هذه الرؤية هي التي أؤمن بها أيضًا.

◄ الجديد: السجال المحتدم بشأن طبيعة الشعر والنثر، والحدود التي تفصل بين النوع، ما زال على أشدّه. من وحي تجربتك الشخصية، ما الفارق بين الشعر والنثر؟ وما الذي يجعل قصيدةَ نثر قطعة كتابية جيّدة؟

تشارلز سيميك: إنّ شعر النثر هو الطفل الوحش لنزعتين متناقضتين؛ الأولى ترغب في قَصّ حكاية، فيما ترغب الأخرى، وبقوّة متكافئة، أن تجمّد اللغة قليلًا، من أجل أن نتأمّل ونمعن النظر. تتدفق الجمل، في النثر، وراء بعضها حتى تقول ما يتوجب عليها قوله. بيد أنّ الشعر، في الجهة الأخرى، يعضّ ذيله. وفي اللحظة التي نصل فيها إلى نهاية القصيدة، تعترينا رغبة في الرجوع إلى البداية وإعادة قراءة القصيدة، مرتابين بوجود شيء أكثر ممّا تراه عيوننا. تبدو قصائد النثر كالنثر، ولكنها تقرأ، وتحيل أنفسها إلى الذاكرة، بالطريقة التي يقرأ فيها الشعر. فإن فعلت ذلك، فإنني أعتقد، حينئذ، بأننا نستطيع أن نسمّيها قطعة كتابية جيّدة.

رغبت في أن أكون رساما مذ كنت في الخامسة عشرة من عمري وحتى بلغت الثلاثين، بيد أنني كنت أتسكع في تلك الأوقات مع شعراء ورسّامين وأكتب بعض القصائد على هامش ذلك كلّه، وصدف أن نشرت بعضا منها في مجلات أولا ثم في كتب

◄ الجديد: هل أنت مطّلع على الأدب الذي يصدره الأميركيون من ذوي الأصول العربيّة؟

تشارلز سيميك: أعرف قصائد فادي جودة، ونعومي شهاب ناي، ولورنس جوزيف، وخالد المطاوع، وإيمان مرسال. ولكنني متأكد من وجود شعراء آخرين لا أعرفهم.

◄الجديد: كيف ترى المشهد الشعري الراهن في أميركا اليوم؟

تشارلز سيميك: مزيد من الشعراء ومزيد من الكتب الشعرية أكثر من ذي قبل، لذا فإنه من المستحيل أن تواكب المشهد بالطريقة التي كانت ممكنة في السابق، وأن تصدر قولًا عموميًّا بشأنه، بسبب وجود أنواع شعرية مختلفة كثيرة، وشعراء جيّدين كثر. في هذا البلد حيث كل شيء تقريبًا متشيّئ على نحو مرعب؛ من المدارس العمومية والتعليم إلى الجسور الذي يقود عليها الناس سياراتهم في كل يوم، فإنّ شعرًا جيّدًا على نحو حقيقيّ ينكتب اليوم.

◄ الجديد: في حوار لك مع شاعرة سورية (يوميّة النيويورك ريفيو أف بُكْس على الإنترنت، بتاريخ 16 أكتوبر 2016) سألتَ عن “الصمت الدولي” تجاه المذبحة في سوريا، وتطرقت إلى الحديث عن السياسية الأميركية التي كانت على وجه الخصوص غير فعالة في إيقاف العنف في الشرق الأوسط. من وجهة نظرك -ليس بوصفك شاعرًا فحسب، وإنما كمثقف وجّه نقدًا قاسيًا لمثقفي مسقط رأسه (صربيا) وإلى زعمائهم الذين يؤجّجون الحروب تجاه الأقليات العرقية والدينيّة، فأصابتك سهام نعتك “بالخائن”- ما هو سبب هذا “الصمت الدولي”، ولماذا لا تقوم الولايات المتحدة (القوة العظمى الوحيدة في العالم) بأيّ جهود حقيقية لإيقاف حمّام الدم، ليس في سوريا فحسب، وإنما ببقاع ملتهبة أخرى في المنطقة؟

تشارلز سيميك: يكمن الجواب في الرسالة الإلكترونية التي أرسلتها هيلاري كلينتون من بريدها الشخصي في العام 2014 والتي سربتها “ويكيليكس″ مؤخرًا، حيث تعترف فيها بأن السعودية وقطر تموّلان داعش وجبهة النصرة (إحدى فروع تنظيم القاعدة) كما أنّ جو بايدن -نائب الرئيس- قد صرح، مندفعًا، قبل فترة، أمام طلابٍ بجامعة هارفارد، بأنّ الأتراك والسعوديين وأطرافًا أخرى يقودون حربًا سنيّة-شيعيّة بالوكالة في سوريا. لذا، ما الذي نفعله نحن الأميركيّين؟ إننا نرسل إلى المنطقة أسلحة بمئات البلايين من الدولارات لتسليح حلفائنا الذي هم في الحقيقة أعداؤنا، كي نديم سطوتنا ونفوذنا. بيد أنّ التدخل الروسيّ قد أفسد تلك الحكاية الخرافية، فأصبح لدينا طرف آخر نلومه، إضافة إلى الأسد، على عدم وقف المذبحة. إنها لعبة خسيسة ومتهكمة تلك التي نلعبها، حيث ليس في واردنا، ولا في وارد حلفائنا، لحمام الدم، هذا، أن ينتهي بعد.

◄ الجديد: فمن، إذن، يشهد؛ في الوقت الذي لا أحدَ -كما يقول باول تسيلان- يشهد للشاهد؟

تشارلز سيميك: سؤال وجيه. ثمّة معاناة عظيمة في العالم اليوم، لدرجة أنّ الضحايا يُنسَون بوتيرة أشد سرعة طالما هم يُستبدلون، باستمرار، بضحايا جدد. أعرف بأن البعض يقولون بأنّه يتوجب على الكتاب والشعراء لعب ذلك الدور، ولكنّ قلة سوف تفعل، فيما سيحجم الكثيرون عن ذلك. على أيّ حال، ففي كل مرة يثار فيها ذلك السؤال، فإنني أتذكر مؤتمرات الأحزاب في الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتوصياتهم إلى الكتّاب، كما أتذكّر تلك القصائد التي كتبناها، نحن الأميركيين، ضد الحرب الفيتناميّة، فأنكمشُ ذعرًا من الرداءة التي كتبت بها الكثير من تلك القصائد وكيف أنها قد كانت عبثيّة تمامًا.

◄ الجديد: إذن، هل -في هذه المعاناة العظيمة التي تتحدث عنها- يصبح الحديث عن “الشعر الشاهد”، وعن “القصيدة بوصفها أثرًا، وعن القصيدة بوصفها دليلًا”، وفق عبارات كارولاين فورشيه، ضربًا من العبث.. وفعلًا بربريًّا! لأنّ الحقيقة الشعريّة الوحيدة التي نختبرها، الآن، ليست سوى الموت نفسه؟

تشارلز سيميك: ما أقصده هو أنّ البعض يفكّر بأنه يتوجب على الكتّاب والشعراء أن يلفتوا النظر إلى مأساة هؤلاء الضحايا؛ بيد أنّ قلة قليلة منهم سوف تفعل ذلك، فيما سيمتنع الآخرون. لقد فعلتُ كل ما أستطيع طيلة حياتي، ولكنني لن أجرؤ على محاكمة هؤلاء الذين لا يقولون شيئًا (تجاه هذه المأساة) وإدانتهم. فكما تعرف، فإن معظم كلاسيكيات الأدب الرفيعة كانت عَميّة عن البَغْي والباطل في أزمانها. هكذا كانت المسألة دومًا، بيد أنّ “الشعر الشاهد” قضية نبيلة، ولكنه لن يصبح حركة جماهيرية. لن يكون سوى مدوّنة أو سجلّ من طرف حفنة من البشر.

ينشر الحوار بالاتفاق مع “الجديد” الشهرية الثقافية اللندنية

تحسين الخطيب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى