الناس

زنزانة المهاجر حديث عن المزبلة/ مصطفى علوش

■ هنا تصبح الكتابة صعبة جداً، رغم توافر كل العوامل المساعدة على الكتابة، فهناك في المزبلة كانت الكهرباء تأتي أربع ساعات في اليوم وكنتَ تكتب، وهنا لا تنقطع الكهرباء ولا الماء ولا راتب المساعدات الاجتماعية، هنا يتوفر كل شيء لنا، ولكن ثمة خيط من الحب السري لم يتوفر، وهذا لا يعرفه إلاّ من عرف دلالات ابتسامة المرأة لرجل بعينه.
هناك كان رئيس التحرير يقرأ كل حرف تكتبه، وتشعر بالفخر عندما تمرر مقالة لاذعة وكأنك مررت حظاً سعيداً لقلبك، والآن لا شيء هنا غير الفراغ والأمان وتعلم اللغة الألمانية، هنا لا رئيس تحرير يتابعك ولا عمل ولا رقابة.
غريبة هذه البلاد، مطمئنة إلى درجة الملل، حتى المشردون يعيشون بأمان واطمئنان، ورجل البوليس الذي درس الدستور جيداً يفكر في كل كلمة يقولها لمتسول.
هناك كنتُ أشعر أن كل من حولي بوليس، بمن فيهم بائع الغاز المدعوم من رئيس البلدية والمختار، بائع الغاز كان هناك يتصرف وكأنه ملياردير وجنرال ربح الحرب.
هنا تقول لي جارتي العجوز الألمانية بأني في عمر ابنها الذي يسكن في بلدة تبعد عنها مسافة ستة ساعات بالسيارة، وأنا أحدثها عن السجناء والبراميل المتفجرة التي أنكر وجودها الرئيس وقال أنها غير موجودة في ملفات جيشه. هنا لا امرأة تنتظرني خفية ولا أنا أنتظرها، رغم أن كل شيء متاح وهادئ، ففي الجرائد المجانية يطلب أرمل عجوز التعرفَ إلى امرأة تصغره بخمسة أعوام ويدعي أنه فاتن وجميل ورشيق، وفي الفراش سيكون متزناً جداً.
هنا رغم كل هذا الاخضرار، وما إن أضع رأسي على المخدة حتى يأتيني ذلك الكابوس، فأرى نفسي في سوريا أزور مسقط رأسي، أزور تلك الحارة حيث عشتُ طفولتي، في الحلم الكابوس أعرقُ أفزعُ وأقول: كيف وصلتُ أنا إلى هنا؟ أي جنون جعلني أعود، لابد سأعتقل، لابد من ذلك، لحظات الكابوس تبدو دهراً، يمر في مخيلتي كل سجون «القيادة الحكيمة» وفروعها، وحين أتذكر ملف قيصر أصحو، أتلمس جلدي، أتفقد رعبي الداخلي وحين أستيقظ كلياً، أحمد الله القدير العزيز على نعمة الهجرة. أريد أن أحكي لأحد ما كابوسي هذا، لا أجد أحداً، فالسوريون في هذه المدينة أعداء بعضهم بعضا، أبحث عن شريك حوار فلا أجد سوى وردة الجوري في حديقتي، أحكي لها كابوس البارحة وأبكي طويلاً.
هنا كل شيء مطمئن وهادئ ومرتب، فلا شيء يحدث كمفاجأة، فيمكن أن ترتب موعداً لزيارة صديق بعد عام ونصف العام، وقد تلغيه قبل شهر من حدوثه بسبب هبوب عواصف رعدية أو ما شابه، المهم هنا المواعيد والدقة والزمن.
هناك كنا نعيش في مزبلة عامة، ثكنة عامة وجدت فيها بعض المدن والقرى المتفرقة، وحين استاء العسكر من مزاجنا المناوئ، قاموا بقصف كل المدن التي تحركت في الحلم ضدهم. مزبلة عامة وصفها تلفزيزن المزبلة الرسمي بأنها وطن.
من يبيعني رأساً جديداً غير رأسي وذاكرة جديدة غير ذاكرتي، أريد أن أمحو كل شيء من ذاكرتي، أريد أن أبدأ من جديد كما يبدأ العمل كمبيوتر تم تصليحه من جديد، أريد أن أنسى مبادئ حزب البعث وفروع استخباراته، أريد أن أرى الحياة جميلة وكأنني طفل ولد للتو. أريد أن أحلم بامرأة شقراء تسبح معي في بحر بلا ألغام طائفية أو حربية، لا أريدها سمراء، أريدها بيضاء شقراء تشبه الأمان الذي أشتهيه، أريد أن أحلم بعطلة أسبوعية، من دون البحث عن عمل ثالث من أجل تدعيم راتب الوظيفة، أريد صندوق بريد لي وحدي وبيتاً يتسع لحلمي الصغير بأن أحيا من دون شقاء أو خوف أو رعب.
في المزبلة الرسمية كنتُ أحياناً أكتب في صحيفة رسمية للمزبلة والآن حين أبحث في غوغل وأجد اسمي ومقالاتي هناك أشعر بالعار. في المزبلة الرسمية كان عندنا رئيس تحرير على هئية امرأة تشبه الثعبان، وكنت كلما أراها أمرض وأذهب مذعوراً للبيت، لأنها كانت تطلب مني أن أمدح القائد العام للمزبلة الرسمية. هنا أريد أن أبقى كعصفور أو ككلب لأشعر بإنسانيتي أريد أن أحرس عمري المقبل من كل الخيبات، أريد ورقة بيضاء وقلماً يشبه الغناء لأكتب حتى تنتهي كارثة البشر هناك في بلد المزبلة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى