منوعات

صريحون أم مهذبون: من الأفضل؟

 

بدأ عمود النصائح بشكله الذي نعرفه اليوم بحيلة. في مجلة The Athenian Mercury، وهي مجلة كانت تُنشر في لندن من عام 1690 إلى 1697، قامت الجمعية الأثينية – يُفترض أنها مجموعة تضم 30 خبيراً في عدد من المجالات- بالإجابة عن أسئلة القراء المجهولين. وكان هؤلاء الخبراء يُجيبون عن جميع أنواع الأسئلة، كما تقول جيسيكا وايزبرغ في كتابها الجديد Asking for a friend.

لماذا قتلت المشروبات الكحولية الانتصاب وأهانت الناس، ولماذا فضلات الخيول مربعة، وهل كان الأشخاص الذين يولدون بأجزاء مفقودة من أجسامهم يفتقدون جزءاً من أرواحهم كذلك، وهل كانت الشمس مصنوعة من النار؟

في الواقع، كانت الجمعية الأثينية مجرد مجموعة من الرجال، وهم ناشر يُدعى جون دونتون، وشقيقا زوجته، ورجل كانوا “متأكدين بنسبة 50 في المئة من كونه طبيباً”، على حد قول وايزبرغ.

لكن خبرة الناصحين المشكوك فيها لم توقف أحداً عن تقديم المشورة، ومنذ أيام عطارد، كان الناس يتلقون التوجيهات بغض النظر عن مصدرها. الأميركيون بصفة خاصة متيمون بالنصائح، وفقاً لوايزبرغ، سواء كانت في شكلها التقليدي مثل عمود عزيزتي آبي، أو كتاب في المساعدة الذاتية مثل How to Win Friends and Influence People لديل كارنيجي، أو من أشخاص مجهولين كما في موقعي Quora وReddit.

تقوم وايزبرغ بأخذ عينة واسعة من مقدمي النصائح عبر الزمان ويحلل كل منها بشكل متعمق: بدايةً من بنيامين فرانكلين إلى Miss Manners وحتى جوان كويغلي، المنجمة التي قدمت النصائح إلى نانسي ريغان. وهي تعتبر الكتاب قطعةً من “التاريخ العاطفي”، يحتوي نصائح لكل الأشكال ويعكس المجتمع الذي ينتشر فيه، هي تؤمن بأن الخوض في تفاصيل النصائح المُقدمة عبر القرون (تقريباً) في الولايات المتحدة، يقدم رؤية فريدة عن اهتمامات الأميركيين وقيمهم.

تحدثتُ مع وايزبرغ عبر الهاتف حول العديد من هذه القضايا، وفي ما يلي نسخة منقحة وموجزة من محادثتنا.

جولي بيك: تكتبين أن “أميركا فريدة من نوعها في التوق إلى النصيحة”، متى بدأ هذا الجوع، ولماذا تظنين أنه شغف أميركي بشكل خاص؟

جيسيكا وايزبرغ: بدأ الأمر مباشرةً. أحد أفضل الكتب مبيعاً في أميركا كان كتاباً عن قواعد اللياقة كتبه سياسي بريطاني يُدعى لورد تشيسترفيلد، ولم يكن يُفترض أن يكون عن قواعد اللياقة. كان للورد تشيسترفيلد ابن وُلد خارج نطاق الزواج، ولم يكونا على تواصل إلا أقل القليل، لذا كتب تشيسترفيلد لابنه الكثير من الرسائل محاولاً تعويض هذا النقص في الاتصال البشري. وقد تم تجميع تلك الرسائل من دون علمه من قبل أرملة ابنه.

يقول في رسائله: كن استراتيجياً جداً، لا تصرح أبداً بشعورك، قلد الآخرين، ولا تكن حقيقياً أبداً. كان الناس غاضبون من هذا الكلام، ويقرؤونه بقلق شديد ويتجادلون فيه. ثم بعد ذلك بقليل جاء بنيامين فرانكلين بكتابPoor Richard’s Almanck، والذي كان، مرة أخرى، كتاب نصائح.

كانت تلك الفترة تشهد تغييراً في كل شيء وكان الناس يسعون إلى خلق مجتمع وثقافة لها قيم ومعايير مختلفة عما كان من قبل. كان الناس يفكرون في هذه الأشياء؛ جورج واشنطن كتب عن السلوكيات. بدا الأمر وكأنه جزء أساسي جداً من ثقافتنا منذ وقت مبكر للغاية.

وبمرور الوقت، أخذ الهوس بالنصائح أشكالاً كثيرة مختلفة، وأنا أعتقد أن هذا يعكس بالفعل ميلاً ثقافياً نحو التفاؤل. الحلم الأميركي هو حلم، لكنه في الواقع يلوح في خيالات الكثيرين.

بيك: كان اللورد تشيسترفيلد بريطانياً، وكان جزء كبير من المجتمع الأميركي يتمرد على بريطانيا في ذلك الوقت. هل كان الجميع ضد ما قال، أم كان البعض مجبرين على تلك الأخلاق والآداب البريطانية القديمة؟

وايزبرغ: كان هناك توتر بالتأكيد. أعتقد أن الكثيرين أحبوها، ليس بالضرورة لمحتوى النصائح، ولكن لأنها كانت قدمت قراءة ممتعة– احتوت على الكثير من وصف اللقاءات مع الأثرياء في جميع أنحاء أوروبا. كان الاستنكار من فكرة أن على الناس ألا يكونوا حقيقيين. وكان جون آدامز منزعجاً للغاية من هذه الفكرة؛ من أن الناس قد يقولون أشياء لا تُعبر عما بداخلهم بالفعل. لم تعكس هذه الروح الأميركية الجديدة التي أراد خلقها.

لكن في الجانب الآخر، كان اللورد تشيسترفيلد شديد القلق على ابنه ويريد له أن يندمج. كان يقول: “يجب أن تحترم الجميع؛ عليك دوماً أن تكون الشخصية التي يتطلبها الموقف”. إذا فكرت في ذلك، هناك شيء شديد التحرر في هذه النصيحة، أن تكون قابلاً للتكيف ومرتاحاً في جميع الأوساط الاجتماعية. هناك كذلك شيء أميركي في هذه النصيحة.

بيك: الكتاب مُقسم إلى فصول/ تحليلات لمختلف كتاب أعمدة النصائح، أو مقدميها. عند النظر إليه على نطاق واسع، كيف تطور تقديم النصيحة في أميركا بمرور الوقت؟

وايسبرغ: أولاً، مقدمو النصائح الأوائل في أميركا جميعهم من البيض الذكور ذوي التوجه الجنسي المستقيم. وترى أن هذا يتغير قليلاً بمرور الوقت. ترى بالتأكيد تزايداً للنساء اللاتي يفعلن ذلك في القرن العشرين. واليوم، وعلى رغم أن هناك مساحة واسعة من الوطن يشغلها البيض متوافقو الجنس، هناك فرص أكثر لأشخاص آخرين بينما تتغير ثقافتنا.

وفي ما يتعلق بالضعف الذي يكشفه مقدمو النصائح عن أنفسهم، فقد تغير بدوره كثيراً بمرور الوقت. على سبيل المثال، لا يعترف بنيامين فرانكلين بمعاناته الخاصة مع الولاء. في حين أنك تقرأ لمقدمي النصائح اللاحقين وهم يكشفون عن تحدياتهم الخاصة في زواجهم. نحن الآن لا نثق بالناس ما لم يعترفوا بأخطائهم، ولو قليلاً على الأقل. بينما كان هناك حس بالسلطة والموضوعية حاول مقدمو النصائح القدامى تقديمه.

بيك: يبدو أننا الآن في حقبة نفضل فيها التقارب في النصائح.

ويسبيرغ: لا يزال ذلك التوتر موجوداً. أعتقد أن مقدمي النصائح لا يزالون في حاجة إلى تقديم كلا الجانبين. ما أظنه هو أن الضعف صفة أكثر رواجاً، مما كانت عليه من قبل، وأكثر رواجاً من الخبرة في هذه المرحلة.

بيك: ماذا يقول ذلك عمّا نبحث عنه بالفعل من النصيحة؟ يبدو أنه إذا كان ما نريده هو الإجابة الصحيحة عن سؤالنا، فسنتوجه إلى الخبراء. فهل هذا يعني أننا نتطلع إلى الشعور بأن هناك شيئاً صحيحاً، وهو أمر مثير للسخرية؟

وايزبرغ: على مدار الوقت، عندما يبحث الناس عن النصيحة، يكون ما يبحثون عنه فعلاً هو شخص يظهرون ضعفهم أمامه. أعتقد أن هذا هو السبب الذي يجعلهم مجهولي الهوية، حتى في الأيام الأولى لتقديم النصائح. يخلق الناس هذه المساحة ليظهروا ضعفهم فيها، والسرية هي التقنية لذلك، يسمح الإنترنت بذلك [بل وأكثر]، وهناك قدر معين من المسافة في اتصالاتنا عبر الإنترنت وأعتقد أن مزية إظهار الضعف هذه تساهم في ذلك أيضاً.

بيك: إذاً، نريد تلك المساحة لنكون ضعفاء فيها. هل يتعلق الأمر بالحصول على الإجابة الصحيحة بقدر ما يتعلق بالحصول على الطمأنينة بأن ما نفكر به ونفعله طبيعي، أو على الأقل مقبول؟

وايزبرغ: أظن ذلك. أعتقد أنه عندما ينظر الناس إلى النصيحة، فهم غالباً ما يبحثون عن التأكيد. قبل الإنترنت، كانت أعمدة النصائح تعمل بشكل مشابه لموقع Reddit. كانت وسيلة ليتناغم الناس في مجتمع مجهول الهوية إذ تمكنهم مشاركة أسرارهم العميقة، وربما الحصول على بعض الردود عليها، ويأملون بالتأكد من اختياراتهم.

بيك: أريد أن أتحدث عن حالة أخرى من التوتر، هي المجتمع مقابل الفرد. هل تفضل المجتمع على نفسك، أو تكون صادقاً مع نفسك ولا تهتم بما يعتقده الناس، هل تغير ذلك بمرور الوقت؟

وايزبرغ: النصيحة في ما ما مضى كانت تهتم أكثر بالطريقة التي ينظر بها الآخرون إليك، أما النصيحة المعاصرة فهي تتوجه إلى الفرد أكثر. يعكس هذا تغيراً في ثقافتنا. لكنني أعتقد أن الناس لا يزالون يتوقون إلى الحصول على التأكيد من مجتمعهم. لا أظن أن هذه الأشياء تتعارض، ولكن المثير للاهتمام ما كان الناس يدعون إليه وقتها. كانوا يدعون إلى القبول الثقافي، والمجتمعي، وكيف تُسعد رئيسك في العمل، في الأجيال السابقة. الآن يقول الناس، ركزوا على أنفسكم. لكنني أعرف أنني كفرد أتوق إلى كلا الأمرين بالتأكيد، وأعتقد أن معظم الناس مثلي.

معظم مقدمي النصائح الذين قمتُ بتحليلهم، يعرفون وظيفتهم بأنها موقع وسطي في الأساس- محاولين إيجاد التوازن بين الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه. وأعتقد أنه لهذا السبب يرتبط مقدمو النصائح بالنزعة الاجتماعية المحافظة. ذلك المفهوم بأن هناك طريقة صحيحة للتصرف. وقد انزعجت من ذلك نوعاً.

بيك: مثل Miss Manners؟

وايزبرغ: نعم، من أنت لتخبريني كيف عليّ أن أتصرف؟ فكرة الأعراف يمكن أن تصير قمعية. لكنني تحدثت أيضاً مع Miss Manners (جوديث مارتن) وقالت إنه يجب أن تكون هناك أعراف لأن التعصب غير مقبول. والأعراف تتيح لنا العيش في مجتمع أكثر هدوءاً. هناك بالتأكيد مواقف حيث أقدر وجود الأعراف.

كتبتُ الجزء الأكبر من هذا الكتاب خلال الانتخابات الرئاسية وبدايات إدارة ترامب، وقد فكرتُ في مواضيعي بشكل مختلف لهذا السبب. لأنني كنت أرى الكثير من السلوكيات المتعصبة، وبدا ذلك غير مقبول بالنسبة إلي. كتّاب أعمدة النصائح هم أشخاص يريدون منع ذلك. وهذا الوضع يأتي مع نوع معين من الوسطية، ولكن مع نوع من المثالية كذلك. مع فكرة أن علينا جميعاً التعامل باحترام مع بعضنا بعضاً.

بيك: يقودنا هذا إلى التوتر الأخير الذي أردت الحديث عنه، وقد سميت فصلين باسمه: التهذيب مقابل الصدق. كيف برأيك أجاب كتاب أعمدة النصائح عن هذا السؤال؟ وهل تغير مع مرور الوقت؟

وايزبرغ: بدأتُ هذه الفكرة مع اللورد تشيسترفيلد، لأنه كان يعتقد أن التهذيب أكثر أهمية من الصدق أو الأصالة. لم يكن هناك مقارنة بينهما برأيه. الفصل الثاني هو عن Miss Manners، وهي نوعاً ما تشاركه الرأي، لكن المثير للاهتمام هو أنها تأتي بسلالة طويلة من المؤرخين العاملين، وترى التهذيب طريقة لاحترام كرامة الجهد الإنساني، وضرورياً لإصلاح الديموقراطية.

بيك: أرى الكثير من أعمدة النصائح الحديثة التي تقول إنك إذا تعاملت بتهذيب مع الآخرين، فأنت لا تخبرهم حقاً بما تشعر أو تفكر به، وهذا ضار في حد ذاته. الأفضل هو أن تكون صادقاً دوماً.

وايزبرغ: من وجهة نظر شخصية، فرض رقابة على نفسك هو معاناة، ولكنني ذهبت إلى مناسبات عائلية عدة، حيث فعلُ ذلك لحفظ السلام. أنا أفضل أن أكون صريحة، وأحياناً يتجاوز هذا التفضيل اهتمامي بالتوتر الموجود في الغرفة. ثم هناك أوقات أشعر فيها بأن تجنب التوتر يجب أن يكون الأولوية. غالباً ما يكون هذا قرار أناني. فأنا أريد تجنب الصراع.

يمس ذلك التوتر السابق الذي ذكرته. إلى من توجَه النصيحة؟ هل إلى الفرد الذي يبحث عنها أم إلى المجتمع الذي يعيش فيه؟

بيك: ما رأيك؟ لمن هي؟

وايزبرغ: أعتقد أن ذلك يعتمد على مقدم النصيحة نفسه. بنيامين فرانكلين كان بالتأكيد يتوجه إلى المجتمع الذي يعيش فيه. Miss Manners في كثير من الأحيان تتوجه إلى المجتمع الذي تعيش فيه. مارثا بيك، وهي مدربة حياة، تتوجه إلى الفرد. حاولت أن أضمن مجموعة في الكتاب، لكن أظن أن ما وجدته مثيراً للاهتمام حقاً بالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص كفئة من الأفراد هو أنهم كانوا يحاولون اجتياز ذلك التوتر بطريقة فريدة من نوعها، بطريقة لا أشعر معها بأن أي محترف آخر يفعلها بشكل صريح.

بيك: إذاً، هل من الأفضل أن نكون صريحين أم مهذبين؟

وايزبرغ: بالنسبة إلي شخصياً؟ أود أن أقول صريحين. لأنه مع كل ما تقوله Miss Manners عن كون التهذيب جيداً للديموقراطية، أعتقد أن الصراحة شديدة الأهمية للديموقراطية أيضاً. لا شيء سيتغير ما لم تذكر وجهة نظرك، وتذكرها بصدق وشجاعة. أعتقد أن من المهم حقاً بالنسبة إلى الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه أن يكون صريحاً. ما أتمناه هو يكون الجميع صريحين مع مراعاة الآخرين. وهذا صعب للغاية.

هذا الموضوع تم اعداده وترجمته عن موقع The Atlantic لمراجعة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى