نصوص

أخبار الأيام/ بوب ديلان

 

 

ترجمة عبدالوهاب بوزيد

تقديم

«أخبار الأيّام» الكتاب الوحيد الذي كتبه بوب ديلان، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2016، والتي تُمنح للمرّة الأولى إلى شخصيّة موسيقيّة، فضجّ الوسط الأدبيّ في العالم بين معترض ومندهش. كتب ديلان أغانيه بنفسه طوال خمسين عامًا، فكان سبب منحه نوبل هو أنّه، فيما كتبه من أشعار غنائيّة «ابتكر تعابير شعريّة جديدة داخل التقاليد الغنائيّة الأمريكيّة العظيمة».

دُعي ديلان في الستينيات صوت الجيل الجديد، فكان المتظاهرون الأمريكيون للمطالبة بحقوق الناس والكفّ عن الحرب، يرفعون كلماته عاليًا في وجه الأنظمة. لقد كتب أغانٍ تحمل في عمقها إشارات فلسفيّة وشعريّة، وهمومًا ثقيلة إجتماعيّة وسياسيّة، وروحًا قطّرها من أرواح سابقيه من مغنّي البلوز والروك-آند-رول والكنتري والجاز والفولك، والشّعراء الكبار أمثال تي إس إليوت، وإدغار آلان بو، وبودلير، والقاصّين مثل هوغو، وبلزاك، وغوغول. لقد أصدر أسطوانة كاملة مستوحاة من قصص تشيخوف!

تبدأ مذكرات ديلان هذه في مدينة نيويورك عام 1961، حيث الاحتمالات السّاحرة، والأبخرة المتصاعدة من الأرض، وحفلات الليالي الطويلة الحمراء، والحركات الأدبيّة والفنيّة الوليدة. مَن نعتبرهم شخصيّات أسطوريّة الآن، كانوا يمشون حينئذ في شوارع منهاتن، يلتقيهم بوب الواحد إثر الآخر، يتعلّم أسلوبًا جديدًا من هذا، وتكنيكًا آخر من ذاك، وينام على أريكة في مكتبة صديق، ويستمع إلى أسطوانات الفونوغراف في شقّة عشيقة.

الحائز على جائزة نوبل للآداب 2016

“إنّه كتابٌ عن الحياة، كالعادة، لكنّه عنها بشكل لم نعرف له مثيلًا قط”

Rolling Stone

“مُدهش… يقبضُ الكتاب على انفلاتات ديلان الإبداعيّة الأولى وروحه الشابّة بتداعٍ يخطف الأنفاس”

The New York Times

“هنا تأمّلاتٌ في النظريّة الموسيقيّة، وتعليقات حادّة حينًا وآراء مُضحكة حينًا آخر، وومضات شعريّة مع وقائع مُصفّاة وملوّنة لتُبهج وتُحيّر في الآن ذاته”

The Boston Globe

مجتزأ من الفصل الأول

أخذني لو ليفي، الشخصيّة الأهم في شركة ليدز ميوزك ببلشنغ، في سيارة أجرة إلى بيثيان تيمبل في الشّارع السّبعين غربًا، ليطلعني على أستوديو التسجيلات البالغ الصغر حيث قام بيل هيلي ومذنّباته بتسجيل “اعزف على مدار السّاعة” – ثم إلى مطعم جاك ديمبسي في تقاطع الشارع الثامن والخمسين مع شارع برودواي، حيث جلسنا في حجرة صغيرة منجّدة بالجلد الأحمر، تُقابل الواجهة الزجاجيّة.

قدّمني لو ليفي إلى جاك ديمبسي نفسه، الملاكم العظيم. لوّح جاك بقبضته في وجهي، وقال لي: “تبدو خفيف الوزن جدًا بالنسبة لملاكم من الوزن الثقيل أيّها الفتى! يتوجّب عليك أن تزيد عدّة أرطال على وزنك. وسيكون عليك أن ترتدي ملابس أفضل، وأن تبدو أكثر تأنّقًا – لا أعني بالطبع أنك ستحتاج إلى مثل تلك الملابس في حلقة الملاكمة – لا تخشَ من توجيه اللكمات بعنف إلى أحد!”

 

“إنه ليس ملاكمًا يا جاك، إنه كاتب أغنيات، وسنقوم بنشر أغانيه.”

“أوه حقًا؟ حسنًا، أتمنى أن أستمع إليها في الأيام القادمة. حظًا موفقًا أيها الفتى.”

الرّيح تهبّ في الخارج، وتتناثر نتف من الغيم في السماء، بينما الثلج يهبط مدوّمًا أمام مصابيح حمراء تُضيء الشوارع. وثمّة أيضًا قاطنو المدينة الذين يخوض بعضهم شجارًا فيما بينهم، محتشدين هنا وهناك، ورجال مبيعات يغطّون آذانهم بواقيات مصنوعة من فراء الأرانب، وباعة كستناء، وبُخار يتصاعد من أغطية الشوارع .

لم يبد أي شيء من كل ذلك مهمًا. فقد وقّعتُ للتوّ عقدًا مع شركة ليدز معطيًا إياها الحق في نشر أغانيّ، دون أن يعني ذلك أن هناك كثيرًا ممّا يمكن غناؤه. لم أكن قد كتبت كثيرًا بعد. أنقدني لو ليفي مئة دولار كمقدّم للاتفاق عند توقيع الأوراق، ولم أمانع.

جون هاموند، الذي أحضرني إلى شركة كولومبيا ريكوردز، هو من صَحِبني لأرى لو، وطلب منه أن يُعنى بي. لم يكن وقتها قد استمع إلّا إلى اثنتين من قصائدي الملحّنة، لكن انتابه إحساس داخليّ أخبره أن هنالك مزيدًا منها في الطّريق.

عند عودتنا إلى مكتب لو، فتحتُ صندوق غيتاري وأخرجته، ثم شرعتُ ألعبُ على الأوتار بأصابعي. كانت الغرفة مكتظة – هناك صناديق متراكمة تحوي أوراق نوتات موسيقيّة، ومواعيد تسجيل لفنانين مختلفين مُلصقة على ألواح جداريّة، وأقراص مطليّة باللون الأسود، وأسطوانات ذات ملصقات بيضاء وقد تبعثرت في المكان، وصور فنّانين تحمل تواقيعهم: بورتريهات لامعة صقيلة السّطح – جيري فيل، وآل مارتينو، والأخوات آندروز (كان لو ليفي متزوّجًا من إحداهن)، ونات كينغ كول، وباتي بيج، وفرقة الكرو كتس – واثنتان من بكرَات التّسجيل، ومكتب خشبيّ كبير بُنّي اللون مليء بكلّ ما هبّ ودب. وضع لو ليفي ميكروفونًا على المكتب أمامي وأدخل السلك في أحد أجهزة التسجيل، وكان فمه طوال الوقت يمضغ سيجارًا كبيرًا غريب الشكل.

قال: “يعقد جون عليك آمالاً كبيرة.”

جون المقصود هو جون هاموند، مكتشف المواهب العظيم الذي اكتشف فنانين كبارًا، وأسماء مهمة في تاريخ الموسيقى المسجّلة – بيلي هوليدي، وتيدي ويلسون، وتشارلي كريستيان، وكاب كالواي، وبيني جودمان، وكونت بيسي، وليونيل هامبتون: فنّانون صنعوا موسيقى تركت أثرها في حياة الأمريكيّين. لقد لفتَ الأنظار إليهم جميعًا. بل إنه قاد آخر جلسات التسجيل لبيسي سميث. إنّه أشبه بالأسطورة، وكان أرستقراطيًا أمريكيًا خالصًا. تعود أُمّه إلى آل فانديربيلت الأقحاح، ونشأ في الطبقات العليا من المجتمع، حيث الراحة ودعة العيش – لكنه لم يكن قانعًا بذلك فتبع ما يهواه قلبه، وهي الموسيقى، مؤْثرًا الإيقاع الرنان للجاز الدافئ، والروحانيّات  والبلوز – التي أيّدها ودافع عنها بكل ما يملك. لم يكن أحد يستطيع الوقوف في طريقه، ولم يكن لديه وقت يضيعه. لم أصدّق أنني لستُ في حلم حين جلستُ في مكتبه، فقد كان ضمّه إياي إلى كولومبيا ريكوردز أمرًا لا يُصدّق. الأمر برمته كان كالشّيء المختلق.

شركة كولومبيا هي إحدى أبرز الشركات في البلد وأوسعها انتشارًا، وكان مجرد وقوفي عند بابها أمرًا مهمًّا. بالنسبة للمبتدئين، لم تكن الأغاني الشعبيّة ذات قيمة، بل إنها من الدرجة الثانية، ولا تُنشَر إلا من قبل الشركات ذات الأسماء الصّغيرة. أمّا شركات التسجيل الكبرى فكانت مقتصرة على النخبة، للموسيقى المعقمة والمبسترة. وما كان لشخص مثلي أن يُقبل به إلا في ظروف استثنائية جدًا. غير أن جون كان رجلًا استثنائيًا. لم يكن ينتج تسجيلات غير ناضجة أو يسجّل لفنانين أغرار. كانت لديه رؤية وبصيرة، شاهدَني واستمع إليّ، أحس بموهبتي وآمَنَ بما سآتي به في المستقبل. قال لي إنه يراني كشخص أنتمي إلى خط طويل لتقليد ما، تقليد البلوز، والجاز، والفن الشعبي، وليس كأحد أولئك الذين أصابوا شُهرة رغم صِغَر سنّهم وجِدّة أغانيهم وغرابتها. ولم يكن في ذلك ازدراء لِما هو جديد. فالأمور كانت أقرب إلى الرّكود في المشهد الموسيقي الأمريكي في أواخر خمسينيات القرن العشرين وأوائل الستينيات منه: الإذاعة العامّة في حالة شبه جمود ومليئة بالدعابات الخاوية، وذلك قبل أعوام على ظهور البيتلز، وفرقة ذا هو أو الرولنغ ستونز وبثّهم روحًا جديدة ومتعة وتشويقًا في المشهد. ما كنت أغنيه في ذلك الوقت كانت أغنيات شعبية فجة متوقدة ولاهبة، ولستَ بحاجة إلى إجراء اقتراع لتعرف أنها لم تكن تنتمي للموسيقى التي تُقدَّم في الإذاعة، ولم تكن قابلة للتسليع، لكن جون قال لي إنه لا يأبه بتلك الأشياء وأنه يستوعب تمامًا مآلات ما أقدّمه.

قال لي: “أعوّل على الصّدق”. رغم أن جون يتحدث بأسلوب خشن وقاس، فإنني لاحظتُ وميضَ تقديرٍ يلتمع في عينيه.

 

مؤخّرًا كان قد ضمّ بيت سيجر إلى الشركة. ومع ذلك فهو لم يكتشف بيت، بل كان بيت موجودًا في الساحة منذ سنوات. إنّه أحد أعضاء مجموعة ذا ويفرز الشعبية، لكن اسمه أدرج في اللائحة السوداء إبّان عهد مكارثي فعانى من ذلك كثيرًا، لكنه لم يتوقف عن العمل قط. كان هاموند جريئًا في دفاعه عن سيجر حين يتحدث عنه، قائلًا إنّ أسلاف بيت قد جاؤوا على متن مركب مي فلور، وإنّ أقرباءه خاضوا معركة بنكر هيل، بحقّ المسيح! “هل تتخيّل أن أولئك الأوغاد يضعون اسمه في لائحة سوداء؟ لا أحد أوْلى منهم بأن يوصم بالعار والشنار.”

قال لي: “سأُصدقك القول. أنت شاب موهوب. وإذا ما استطعت التركيز على تلك الموهبة والتحكّم بها، فستجري أمورك على ما يرام. سوف أضمّك إلينا وأسجّل أغنياتك، وسنرى ما يحدث.”

وكان ذلك جيدًا بما يكفي بالنسبة لي. وضع عقدًا أمامي، العقد المعتاد، فقمت بالتوقيع عليه من فوري، لم أنشغل بالتفاصيل – لم أحتج إلى محام، أو مستشار، أو أيّ شخص كي يسدي لي النصح. كنت سأوقع بكل سعادة أيّما نموذج يضعه أمامي.

نظر إلى التقويم، واختار تاريخًا لي كي أبدأ التسجيل، أشار إليه وأحاطه بدائرة تميّزه، ثم أخبرني متى أحضر وأن أبدأ التفكير فيما أريد أعزفه. ثم دعا بعد ذلك بيلي جيمس، رئيس قسم الدعاية في الشركة، وطلب منه كتابة نبذة ترويجيّة عني، نبذة شخصيّة لإعلان صحفيّ.

كان بيلي يرتدي ملابس تحمل شعار آيفي ليغ (رابطة رياضية جامعيّة)، كما لو أنّه قد درس في جامعة ييل، وكان متوسّط القامة، وشعره أسود متموج، وبدا كما لو أنه لم يتناول المخدرات في حياته قط، ولم يخُض أيّ نوع من المشاكل قط. دلفت إلى مكتبه، وجلست قبالته، وحاول أن يستدرج مني بعض الحقائق، كما لو كان يفترض بي أن أبوح بها له على أكمل وجه. أخرج كراسًا وقلم رصاص وسألني عن مسقط رأسي. قلت له إنني من ألينوي، فدوّن ذلك. ثم سألني إن كنت اشتغلت في أي مجال آخر، فقلت له إنني شغَلتُ دزّينة من الوظائف، من بينها أنني قُدتُ عربة أحد المخابز ذات مرة. دوّن ذلك وسألني إن كان هناك أي شيء آخر. فقلت إنني عملت في بناء البيوت، فسألني أين.

“ديترويت.”

“سافرت كثيرًا؟”

“أجل.”

سألني عن أسرتي، عن مكانهم. قلت له إنه ليست لدي أدنى فكرة، وإنهم رحلوا منذ زمن طويل.

“كيف كانت حياتك الأسرية؟”

قلت له إنني طُردت.

“في أي مهنة كان يعمل أبوك؟”

“كهربائي.”

“وماذا عن أمك؟”

“ربة منزل.”

“أي نوع من الموسيقى تعزف؟”

“الموسيقى الشعبية.”

“أي نوع من الموسيقى هي الموسيقى الشعبية؟”

قلت له إنها أغنيات تتناقلها الأجيال. كنت أكره هذا النوع من الأسئلة. شعرت أن بوسعي تجاهلها. بدا بيلي غير واثق بي ولم أكن آبه للأمر. لم أشعر بالرغبة في الإجابة على أسئلته على أي حال، لم أشعر بالحاجة لأن أشرح أي شيء لأي أحد.

سألني: “كيف وصلت إلى هنا؟”

“ركبت قطار شحن.”

“تعني قطار ركاب؟”

“كلا، قطار شحن.”

“تقصد، مثل عربة نقل؟”

“نعم، مثل عربة نقل. مثل عربة شحن.”

“حسنًا، عربة شحن.”

حدّقت فيما وراء بيلي، ما وراء مقعده، هناك خلال نافذته عبر الشارع، في مبنى يضم مكاتب كثيرة، استطعت رؤية سكرتيرة متوهجة منغمرة في القيام بأمرٍ ما – كانت منهمكة في التدوين، ومنشغلة أمام طاولة مكتب وقد طغى عليها التأمّل. لم يكن هناك شيء مضحك حيالها. تمنيت لو كان عندي تيليسكوب. سألني بيلي عمّن أرى أنني أشبهه في المشهد الموسيقي المعاصر. قلت له لا أحد. كان ذلك الجزء صحيحًا، كنت حقًا لا أرى نفسي أشبه أحدًا. ما تبقى من الحوار كان محض هراء وهلوسات مدمن.

لم آت على متن قطار شحن على الإطلاق. ما فعلته هو أنني عبرت ريفَ الجزء الغرب الأوسط من البلاد في سيارة سيدان ذات أربعة أبواب، إمبالا موديل 57 – من قلب شيكاغو، فارًا من هناك – مسرعًا عبر المدن المجلّلة بالدخان والطرق المتعرجة والحقول الخضراء المغطاة بالثلوج، إلى الأمام، مُشرّقًا عبر ولايات أوهايو وإنديانا وبنسلفينيا، في رحلة استغرقت أربعًا وعشرين ساعة، حيث غلبني النعاس معظم الوقت في المقعد الخلفي، متحدّثًا الحدّ الأدنى من الكلام. كان ذهني مشدودًا إلى اهتمامات خفيّة… إلى أن وصلت أخيرًا إلى جسر جورج واشنطن.

توقفت السيارة الكبيرة تمامًا على الجانب الآخر لأخرج منها. صفعت الباب مغلقًا إيّاه من ورائي، ولوّحتُ مودّعًا، وانطلقت إلى حيث الثلج القاسي. كانت الريح القارسة تسفع وجهي. على الأقل أنا هنا، في مدينة نيويورك، المدينة الأشبه بشبكة شديدة التداخل بحيث يصعب فهمها، ولم أنوي ذلك على أيّ حال.

كنت هناك لأعثر على المغنين، المغنين الذين استمعتُ إلى اسطواناتهم – ديف فان رونك، وبيغي سيغر، وإِد مكوردي، وبراوني مكهي وسوني تيري، وجوش وايت، وذا نيو لوست سيتي رامبلرز، والقس غاري ديفيس ومجموعة أخرى من المغنين – وكان أكثر من يهمني العثور عليه هو وودي غوثري. مدينة نيويورك، المدينة التي سترسم ملامح قدري. عمورة الحديثة. كنت في مستهلّ المربّع الأوّل من اللعبة، لكنني لم أكن غرًّا بأيّ شكل من الأشكال.

حين وصلت، كان ذلك في عزّ الشتاء، وجدتُ البرد قاسيًا، وبات كل شريان من شرايين المدينة ممتلئًا بالثلوج الكثيفة. لكنني بدأت من شمال البلاد المكلّل بالصقيع، في أحد الأركان الصّغيرة من الأرض حيث باتت الغابات المتجمّدة الدكناء والطرقات المغطاة بالثلوج لا ترعبني. كنت أستطيع تجاوز القيود. لم يكن المال أو الحب هو ما أبحث عنه. كان لدي إحساس عالي بالوعي، وكنت عنيدًا وغير عملي، ورؤيويًا كذلك. كان ذهني قويًا مثل مصيدة ولم أكن بحاجة إلى ضمان أو سريان مفعول. لم أكن أعرف روحًا واحدة في هذه المدينة الكبيرة المتجمدة، لكن سرعان ما سيتغير ذلك.

مقهى “ما؟” هو نادٍ في شارع مكدوغل في قلب غرينويتش فيلج في مدينة نيويورك. كان المكان كهفًا تحت الأرض، لا يقدّم المشروبات الكحوليّة، وسيّء الإضاءة، وسقفه منخفضة، مثل قاعة طعام واسعة تحوي مقاعد وطاولات – يفتح أبوابه في الظهيرة، ويُغلق في الرابعة صباحًا. أحدهم أخبرني أن أذهب إلى هناك لأسأل عن مغنٍّ اسمه فريدي نيل فهو من كان يُدير عُروض الترفيه في الفترة النهارية في مقهى “ما؟”.

عثرت على المكان وقيل لي إن فريدي في الأسفل، في القبو، حيث توضع المعاطف والقبعات، وهناك التقيته. نيل هو عريف الغرفة والمايسترو المسؤول عن كل الفنانين. كان في غاية اللطف. سألني عمّا أفعله فقلت له إنني أغنّي، وأعزف الغيتار والهارمونيكا. طلب مني أن أعزف شيئًا. وبعد قرابة دقيقة، قال إنني أستطيع عزف الهارمونيكا معه خلال فقراته. تحمّست جدًا. على الأقل هناك مكان أمكث فيه بعيدًا عن البرد. كان ذلك جيدًا.

يعزف فريدي قرابة عشرين دقيقة، ثم يقدّم بقيّة الفقرات، ثمَّ يعود مرة أخرى ليعزف ما يشاء كلما كان المكان مزدحمًا بالحضور. كانت الفقرات مفكّكة، وعلى شيء من الغرابة، وكانت تبدو كما لو أنها أُخذَت من برنامج تيد ماك التلفزيوني الشهير: ساعة الهُواة. الحضور في معظمهم من طلبة الجامعات، وسُكّان الضواحي، وسكرتيرات ساعة الغداء، والبحّارة والسائحين. يقدّم الجميع فقراتهم في زمن يتراوح بين عشرة إلى خمس عشرة دقيقة. أما فريدي فكان يعزف ما حلَا له ذلك، طالما دامت لحظة الإلهام. كان متدفقًا، ويرتدي ملابس تشي بالتحفّظ، وقد بدت عليه سيماء التجهّم والاكتئاب، فلَهُ نظرة محيّرة، ولون بشرة أقرب إلى لون الخوخ، وشعر مجعّد وصوت قويّ جهير يُطلق أنغام البلوز ويفجرها في العوارض الخشبية للسقف سواء أستخدم المايك أم لم يستخدمه. كان سيد المكان، وله حريمه الخاصّ به، وأتباعه ومريدوه. لا يُمكن المساس به. كل شيء يدور في فلكه. بعد ذلك بسنوات، كتب فريدي أغيته “الجميع يتحدثون”. لم أعزف أيًا من أغانيّ الخاصة بي. اكتفيت بمرافقة نيل في كل أغانيه، وهكذا بدأت في العزف بانتظام في نيويورك.

عرْض الفترة النهارية في مقهى “ما؟”، كان خليطًا حرًّا من الأعمال، يُقدّم خلاله أيّ أحد وأيّ شيء – ترى الكوميديّ، والمتحدث من بطنه، وفرقة الطبول النحاسية، والشاعر، والمقلّدة، والثنائيّ الذي يغني أعمالًا من مسرحيّات برودواي، والسّاحر، ورجلًا يرتدي عمامة كان ينوّم الحضور تنويمًا مغناطيسيًّا، وشخصًا آخر كانت جُلّ فقرته مجرّد أكروبات يؤدّيها بوجهه – تقريبًا كل من أراد أن يكون جزءًا من عالم الترفيه تجده هناك، لكن لم يكن ثمة شيء بوسعه تغيير نظرتك للعالم، فما كنتُ لأرغب في حضور عَرض فريدي الموسيقي أيًّا كان الثمن.

بحلول الثامنة مساءً تقريبًا، ينتهي العرض النهاريّ، تُغلق حديقة الحيوانات، ليبدأ عرض المحترفين. كوميديون مثل ريتشارد برايور، وودي آلن، وخوان ريفرز، وليني بروس، ومجموعات غناء شعبيّة تجاريّة مثل ذا جيرني مِن كانوا يعتلون المسرح. كل من كانوا هناك خلال عرض النهار يستعدّون للرحيل. أحد الأشخاص الذين كانوا يعزفون في فترة المساء كان تيني جِم الذي لديه القُدرة على الحديث بطبقة عالية بصورة مصطنعة، ويعزف القيثارة بينما يغني مثل فتاة – أغنيات قديمة من العشرينيات. تحدثت معه عدة مرات وسألته عن أماكن أخرى قريبة يمكن العمل فيها وأخبرني أنه أحيانًا يعزف في مكان في ميدان التايمز يُدعى متحف هيوبرتس فلي السّيركي. وقد عرفت مزيدًا عن ذلك المكان لاحقًا.

لطالما انزعج فريدي من ضغوط فئةٍ من الناس المتسكعين الذين كانوا يريدون أن يعزفوا أو يؤدّوا هذا الأمر أو ذاك. أكثر تلك الشخصيات إثارة للحزن كان رجلًا اسمه بيلي الجزّار. تُنبئ هيئته بأنّه قادم من أحد الأزقّة الكابوسيّة. كان يعزف أغنية واحدة فقط – “الأحذية عالية الكعب” وكان مدمنًا عليها مثل مخدّر. يسمح له فريدي عادة أن يغنيها خلال النهار، وغالبًا حين يكون المكان شبه خالٍ. وكان بيلي يقدّم لأغنيته دائمًا بالقول “هذه الأغنية لكُنّ أيتها الفتيات!” كان الجزّار يرتدي معطفًا أصغر من قياسه، مزرّرًا بإحكام في أعلى الصدر. وهو متنرفز دومًا. وأُدخل مرّة، فيما مضى، مصحّة نفسيّة في بلفيو، كما أنه أحرق مَرْتبة في إحدى زنازين السجن. مرّ بيلي بكل ضروب التجارب السيئة. كان ثمة نار تتوقد بينه وبين الآخرين جميعًا. ومع كل ذلك، فإنّه يغنّي تلك الأغنية بشكل جيّد.

شخص آخر كان يحظى بشعبيّة؛ يرتدي لباس قسّيس، وحذاء طويلًا أحمر الرّأس، مع أجراس صغيرة، وكان يؤدّي صُورًا مشوّهة لقصص من الكتاب المقدّس. موندوغ أيضًا كان يقدّم فقراته هنا، وشاعر كفيف، يُقيم أوْده غالبًا ممّا يجده في الشوارع. كان يرتدي خوذة فايكنغ وغطاء مع حذاء طويل من الفراء. يقدّم موندوغ بعض المونولوجات، ويعزف مستخدمًا أنابيب الخيزران، ويصفّر. ويقضي مُعظم الوقت في أداء ذاك كلّه وأكثر على قارعة الشّارع الثاني والأربعين.

أمّا المغنيّة المفضلة في المكان برمّته، بالنسبة لي، فكانت كارين دالتون. كانت مغنية بلوز طويلة بيضاء وعازفة غيتار، صاخبة وضامرة ومتّقدة. التقيتُها في حقيقة الأمر من قبل، في الصيف الماضي على أطراف دنفر في البلدة الجبلية في نادٍ شعبي. كان صوت كارين يشبه صوت بيلي هوليداي، وتعزف الغيتار مثل جيمي ريد، وقد ذهبت بعيدًا في تقليدهما. غنيت معها مرّتين.

يحاول فريدي أن يعطي الفرصة لمعظم المشاركين، وكان دبلوماسيًا ما وسعه ذلك. أحيانًا يكون المقهى خاويًا بشكل يتعذّر تفسيره، وأحيانًا شبه خاو، ومن ثمَّ ودونما سبب ظاهر يعجّ بالناس مع وجود صفوف من الآخرين في الخارج. فريدي هو السيّد هنا، صاحب العرض الرئيس، واسمه معلّق في السرادق، لذا ربما جاء معظم هؤلاء الناس لرؤيته. لست أدري. كان يعزف على غيتار كبيرٍ قديم، في عزفه كثير من النّقر، وصوت إيقاع حاد – إنّه فِرقة مكوّنة من رجل واحد، يطنّ صوت غنائه في الرأس. يقدّم نسخًا حادّة لسلسلة هجينة من أغاني العصابات، ويضع الحضور في حالة من الهياج. سمعتُ عنه أمورًا من قبل، مثل أنه كان بحّارًا تائهًا، وقد أخفى مركبًا شراعيًا صغيرًا في فلوريدا، وأنه كان شرطيًا سريًا ولديه صديقات مومسات، وذا ماضٍ غامض. أتى من ناشفيل، حيث أدّى بما ألّفه من أغنيات، ثم توجّه إلى نيويورك حيث لزم الهدوء، منتظرًا حدوث شيء ما يملأ جيوبه بالمال. وأيًا كان الأمر، فلم تكن هناك قصّة تستحق الذكر. بدا إنسانًا لا يحمل طموحًا. كنا متوافقين جدًا، ولم نكن نخوض في حديث شخصي على الإطلاق. كان يشبهني إلى حد بعيد، مهذّب دون أن يكون ودودًا بشكل مفرط، وكان يمنحني مصروف جيب في نهاية اليوم، قائلًا: “خذ… كي تبقى بعيدًا عن المشاكل.”

غير أن أبرز مزايا العمل معه كان يتعلق وبشكل محدد بفن تناول الطعام – كل البطاطا المقلية وسندوتشات الهامبرغر التي كنت أستطيع أكلها. في وقت ما خلال النهار، كنا نتسلل تيني تيم وأنا إلى المطبخ ونمكث هناك. وكان نوربرت الطاهي عادة ما يبقي لنا هامبرغرًا مشبعًا بالدهون في انتظارنا. إما ذاك، أو أنه يسمح لنا أن نفرغ علبة من لحم الخنزير والفاصوليا أو السباغيتي في مقلاة. نوربرت كان “تُحفة،” فهو يرتدي دومًا مئزرًا ملطخًا بالطماطم، وكان يحملُ وجهًا لحيمًا قاسيًا، ووجنتين منتفختين، وندوبًا على وجهه مثل آثار مخالب – وكان يظنّ نفسه النّوع من الرّجال الجذابين للنساء – وكان يوفر ماله حتى يعود إلى فيرونا في إيطاليا ويزور قبر روميو وجولييت. كان المطبخ مثل كهف حُفِرَ على جانب جرف.

خلال نهار أحد الأيّام، كنت هناك أصبّ شراب الكولا في كأس من أحد أباريق الحليب حين سمعت صوتًا قادمًا منعشًا من المذياع. كان ريكي نيلسون يغني أغنيته الجديدة “الرّجل المسافر.” لدى ريكي لمسة ناعمة: الطريقة التي يدندن بها في الإيقاع السّريع، وصوته المنغّم. كان مختلفًا عن بقيّة معبودي المراهقين والمراهقات، ولديه في الفرقة عازف غيتار عظيم، له شخصيّة يعزف بها تقع في تقاطع بين بطلٍ للعزف في المقاهي الشعبيّة وأحد راقصي حفلات الاسطبلات. لم يكن نيلسون مبتكرًا جريئًا مثل المغنين الأوائل الذي كان واحدهم يغنّي كمن يدير دفّة سفينة تشتعل فيها النيران. لم يكن يغني بدافع من يأس، أو يُحدث كثيرًا من الضّرر، لكن لن تحسبه خطأً كاهنًا في السّكينة. لم يبدُ أنّ قدرته على الصّبر، جَلَده، قد اختُبرت إلى أقصاها، لكن ذلك لا يهم، فقد كان يغنّي أغنياته هادئًا ثابتًا كما لو كان في قلب عاصفة، يجتازونه الرجال صاعدين ولا يلتفت. في صوته سمة غامضة تجعلك تقع في حالة مزاجيّة خاصّة به.

كنت أحد أشدّ المعجبين بريكي ولا زلت أحبّه، لكن ذلك النوع من الموسيقى كان على وشك الانطفاء. لم يكن يمتلك القدرة على حمل أي معنى. لن يكون هناك مستقبل لتلك الأمور في المستقبل. الأمر برمته خطأ محض. ما لم يكن خطأ هو شبح بيلي ليونز، مزلزلًا الأرضَ، وهو يقف في إيست كايرو، مغنيًا “بلاك بيتي بام بي لام“. لم يكن ذلك خطأ. ذاك النوع من الأغاني هو ما كان يُحدث فرقًا. تلك هي الأمور التي يمكن أن تجعلك تُسائل ما قَنعت به طوال الوقت، والتي تستطيع أن تملأ المشهد بالقلوب المحطمة، وتحمل روحًا قويّة. كان ريكي، كما جرت العادة، يغني كلمات بالية. كلمات كُتبت له حصْرًا على الأرجح. رغم ذلك، لطالما شعرت أن هناك رابطًا يجمعنا. كنّا في العمر نفسه تقريبًا، ونُحب على الأرجح الأشياء ذاتها. إننا من الجيل نفسه رغم أن تجربة حياتنا جدّ مختلفة، فقد نشأ هو في غرب البلاد مُنشدًا لبرنامج تلفزيونيّ عائلي. كان كما لو أنه قد نشأ في والدن بوند حيث كل شيء رائق. أمّا أنا فقد قدمت من الغابات الشيطانيّة السوداء، الغاب نفسه لكن بطريقة مختلفة في النظر إلى الأمور. كانت موهبة ريكي قريبة من موهبتي. أحسست أن هناك كثيرًا ممّا يجمعنا. وخلال بضعة أعوام قادمة سوف يسجّل بعض أغنياتي، ويجعلها تبدو كما لو كانت من أغانيه، كما لو أنه كتبها بنفسه. وقد كتب بالفعل في نهاية المطاف أغنيةً بنفسه وذكر اسمي فيها. وخلال عشرة أعوام سيتعرض ريكي للاستهجان وهو على المسرح حين غيّر ما عُدّ خطّه الموسيقي. لقد تبين أننا نشبه بعضنا في أمور كثيرة.

لم يكن ثمّة سبيل لمعرفة ما سيحدث في السّنوات القادمة من مجرّد الوقوف في مطبخ مقهى “ما؟” ونحن نستمع إلى ذلك التشدّق الناعم الرّتيب. ما كان يهمّ هو أن ريكي ما زال ينتج الأسطوانات وهو ما كنت أريد فعله أيضًا. تخيّلت نفسي أسجّل في شركة فوكويز ريكوردز. تلك كانت الشركة التي وددْت الانضمام إليها. تلك كانت الشركة التي أخمدت كل التسجيلات الكبيرة.

انتهت أغنية ريكي، وأعطيتُ ما بقي من البطاطا المقليّة إلى تيني تيم، ومضيتُ عائدًا إلى صالة العرض لأرى ما كان فرِد يخطّط لفعله. سألته ذات مرّة إن كان قد أصدر أيًّا من الأسطوانات، فقال: “هذه ليست لعبتي.” كان فرِد يوظّف العتمة كسلاح موسيقي قوي، لكن على الرغم من مهارته العالية وقوّة أدائه، فقد كان ثمّة ما ينقصه كمؤدٍّ. لم أستطع معرفة ذلك الشيء، لكنني حين التقيت ديف فان رونك، عرفت ما هو

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى