الناس

الموتى المحظوظون بهناءة الرقاد/ مها حسن

 

 

بيد مرتعشة وحلق جاف، رحت أكتب اسم صديقي المختفي منذ سنوات، في حقل الموقع الإلكتروني الذي نشر أسماء الموتى تحت التعذيب. كان عليّ فقط كتابة اسم صديقي، وتحديد المدينة. هي لحظات، كان محرك البحث يدور فيها، ليجلب لي النتيجة، فيحدد مكان الوفاة وتاريخها وأسبابها.. كنت أرتجف من الخوف والترقب. في لحظات مماثلة، بسبب قوة الإنترنت في فرنسا، قياساً مع حالات انقطاعه في سورية، كنت أفعل الأمر ذاته، بحثاً عن نتائج أولاد عائلتي في امتحانات الثانوية العامة. الترقب ذاته والقلق، خشية العثور على نتيجة الرسوب، وهنا، القلق والتوتر المعاكس: لا أريد رؤية الاسم.

جاءني الجواب: الاسم غير متوفر. ارتجفت وأنا لا أفهم مشاعري. كأنني أُصبتُ بالإحباط، لأن النتيجة سلبية، وهي تعني هنا، كما يُفترض، أنها إيجابية. إن اسم صديقي غير موجود في لوائح المتوفين تحت التعذيب.

لكن القلق ينهشني منذ سنوات، ويتضخم في هذه الأيام، تبعاً لمقولتنا الدارجة: أم القتيل تنام، وأم المهدّد لا تنام. أن لا يعرف أحدنا مصير شخص يحبه، وينتظر فقط معرفة إذا كان هذا الشخص على قيد الحياة.

حين كنت شابّة في سورية، عاينتُ هذا الألم لدى عائلة جيراني، الذين اختفى ابنهم في أحداث الثمانينيات، بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، ولم يُعرف حتى اليوم، أو أنني شخصياً ليست لدي معلومات، عن مصير ذلك الشاب، الذي كان في الثانوية العامة، حين ألقى الأمن القبض عليه، في بيته، واختفى خلف الشمس..

قرأت مؤخراً تعبيراً لإحدى الأمهات التي وصلها اسم ابنها في لوائح الموت، كما يدعوها السوريون، قالت الأم إنها تستطيع اليوم فقط ابتلاع لقمتها، التي كانت عاجزة عن فعل ذلك، وهي لا تعرف مصير ابنها.

هل أؤثّم نفسي، إن قلت إنني في برهة سريعة من الوقت، خطر في بالي إحساس بشع: لو أنني أجد اسم صديقي، لارتحت. كنت سأبكي طويلاً وأحكي عنه، وأكتب اسمه الصريح، كنت سأعرف نهايته. لكن العيش هكذا في الفراغ، دون أية معلومة عمن نحب، هو تعذيب بطيء، وانتظار مؤلم، يتجدد أمام كل لائحة جديدة يتكرّم بها النظام، بدم بارد، ويقدّمها لا لأهالي المفقودين، بل للسجلات المدنية، لتدوّن حالتهم الأخيرة، وتشطبهم من سجل الأحياء.

حين مات أبي، قبل اندلاع الثورة، كان ذلك الألم الأكبر الذي وقع في حياتي. مات أبي دون أن أتمكن من وداعه، أو من أن أجعله يراني قبل الموت. تحدثت إليه عبر الهاتف، ورحت أتخيّل هذا الرجل الذي تغيّر عليّ عبر سنوات منفاي. كان أبي رجلاً مهيباً، وكنت أراه قوياً وشامخاً، ربما هي أيضاً مبالغة الأولاد. ولكنه بكى على الهاتف. بكاء أبي حطّم أسطورتي كطفلة كانت ترى أباها حامياً ومحمياً بحكم الطبيعة: الأب قوي على الدوام. لم أر أبي أمامي منكسراً وضعيفاً، تخيلته، وفشلت في رسم صورته الجديدة التي نحتها اقتراب الموت.

مات أبي محاطاً بعائلته وأصدقائه وجيرانه، وخرج في جنازته الكثيرون من المقربين، وحظي بقبر في مدافن العائلة. نعم أقول حظي، وكأنه امتياز لن يتحقق لغيره، ولم أكن أعرف هذا..

حين ماتت أمي، قبل عامين، إثر القصف الذي تعرض له بيتنا، وتعذّر دفنها في مقابر العائلة، ولم يكن أيٌّ من أهلها ولا أبنائها قربها، أدركت حُسن الحظ الذي تحقق لأبي، في موته الأنيق. ماتت أمي وحيدة ومقهورة، ودُفنت في حديقة تحولت مؤقتاً، أثناء الحرب، إلى مقبرة..

حسدت أبي على موته، مقارنة بموت أمي الدراماتيكي بشدة. ولكن حين قامت قيامة حلب، وتم تسليمها إلى النظام، أو تحريرها بلغة النظام ومواليه، وهذه الحكايات مروية في روايتي ( عمتِ صباحاً أيتها الحرب)، حمدت الله أن أمي ماتت، قبل أن يطاولها المزيد من الذل، بل تفهّمت موقف صديقة للعائلة قالت لي بعفوية وهي تعزّيني بأمي، ولمتها آنذاك: الحمد الله، لقد ارتاحت. اتّهمتُ الشابة بقلة لباقتها وافتقادها لأصول تقديم التعازي. أدركت لاحقاً أنها عبّرت بصدق عن إحساسها، وهي التي لديها أخ مفقود، لا تعرف عنه أي شيء حتى اليوم. لم أتخيل للحظة، أن تلك الصبية حسدت أمي لأنها ماتت، وحسدتني لأنني متأكدة من موت أمي.

حين وصلت لوائح الموتى، وبدأت بألف اسم من (داريا)، أحسستُ مجدداً بمعنى الموت تحت التعذيب، وقدّرت كمية الحظ الذي حظي به كل من أبي وأمي: ماتا داخل أمكنة مغلقة: أبي في المشفى، وأمي في غرفة لدى الجيران. لم يمت أحدهما في الشارع، ولم تنهش القذيفة جسده، كما فعلت مع ثلاث صديقات لي في حلب، قُتلن في حوادث متتالية، بسقوط قذيفة أو صاروخ، وهن في الطريق إلى بيوتهن.

هل أتخيل الآن، أنني ذات يوم، سأحسد أولئك الذين تلقّوا تأكيدات موت أحبائهم، وحسموا هذا الرعب من انتظار لوائح تلك الأخرى..هل هناك المزيد من البشاعة والرعب، التي تنتظر السوريون، ليعتبروا في كل مرحلة تالية، أن ما سبق، كان أقلّ إيلاماً، وكأن الوجع السوري مستمر في الصعود، إلى ما لانهاية. كأن الموت نفسه، ليس هو النهاية، كما قالت أمي في روايتي نفسها: لا تزال كوابيس الخراب تطاولنا نحن الراقدات هنا، كلما سمعنا أصوات القصف سكتنا وتوقفنا عن التحرك وحتى عن الهمس، لدينا خوف يشبه خوف الأحياء، هم يخافون من الموت، ونحن نخاف من فقدان هناءة الموت..

ضفةثالثة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى