مقالات ونصوص سينمائية

السينما ووسائل التواصل الاجتماعي: تساؤلات وقراءات/ نديم جرجوره

 

 

يُطرح سؤالٌ جديد يربط بين السينما ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الأخيرة أسرع التقنيات في إيصال أفكارٍ أو تعليقات أو أمزجة متعلّقة بنتاجات سينمائية، أو بسينمائيين وبأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم، إلى شريحة واسعة من متابعي تلك الوسائل. هذا يؤثّر على الصنيع السينمائي، إذْ تخلو الغالبية الساحقة من النصوص المكتوبة فيها من أي نقد عملي وسليم، يناقش العمل ويُحلِّله ويُفكِّكه ويُقدِّمه إلى مُشاهديه، ويُحاور ـ بشكل غير مباشر ـ صانعه. فالتسرّع سمة المكتوب، إذْ لن يكون حقيقيًا اعتبار أن ردّ الفعل الأول نتاج تأمّل فعليّ بالصنيع، فهو يبقى مجرّد رأي سريع، ناتج من انفعالٍ مباشر، يُصيب أحيانًا في نقاطٍ معينة، لكنه يُخطئ في نقاط أكثر، ما يؤثّر سلبًا على العمل ومخرجه، وعلى النقد وكاتبه، وعلى المُشَاهَدة وصاحبها.

غير أن أخبار السينمائيين وأقوالهم وأفعالهم تتلاءم أكثر مع وسائل كهذه، بل إن السينمائيين يتعاملون معها كأداة أساسية في التواصل مع جماهيرهم المنتشرين في أصقاع الدنيا. هذا مختلفٌ تمامًا عن تعليقات خاصّة بالصنيع.

ما سبق لن يكون رأيًا “شموليًا”. آراء عديدة منشورة في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة تساهم، بشكلٍ أو بآخر، في تعريف المتلقي أو المتابع أو الصديق الافتراضي على عملٍ ربما يُثير اهتمامه. لكن المأزق الفعلي كامنٌ في الجانب السلبي: آراء وتعليقات كثيرة “تُشوِّه” الفيلم السينمائي وصانعه والعاملين فيه بسبب تسرّع إطلاقها، خصوصًا أن وسائل كهذه تتيح للجميع من دون استثناء إمكانية قول ما يريدون، من دون أي عائق. علمًا أن مواقف عديدة تُتّخذ بحق فيلم أو مخرج أو ممثل ارتكازًا على ما يسمعه كاتبو المواقف في تلك الوسائل، بدلاً من التريّث والتدقيق والتنبّه إلى أولوية المُشاهدة وأهميتها قبل التعليق.

إدارة مهرجان “كانّ” مُدركة هذا كلّه وإنْ بعد تأخّر، فتُقرِّر تبديل عادةٍ قديمة تتمثّل بعروض صحافية للأفلام المُشاركة في المسابقة الرسمية أو في مسابقات رديفة. سابقًا، عروض كهذه تُقام صباح اليوم نفسه للعرض الافتتاحي الدولي الأول، الذي يبدأ باستعراض السجادة الحمراء. نقّاد وصحافيون سينمائيون ينشرون آراءهم إزاء الأفلام المُشاهَدة في تلك العروض عبر وسائل مختلفة (“مواقع إلكترونية” و”فيسبوك” و”تويتر” وغيرها)، ما يؤدّي إلى انتشار آراء “مُسبقة” (بالنسبة إلى متابعي الوسائل تلك) حول فيلم سيُعرض للمرة الأولى دوليًا مساء اليوم نفسه. التبديل حاصل في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018)، إذْ لا عروض صحافية قبل العرض الدولي الرسمي، بسبب تأثيرات يغلب عليها السلبيّ في آراء مبثوثة سريعًا، أو في تعليقات تثير، على الأقلّ، تشويشًا سابقًا على المُشاهدة.

النقاش الجديد يتناول مفهوم العلاقة القائمة بين الصناعة السينمائية ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، أي الفضاء المفتوح أمام الجميع من دون استثناء. هذه الوسائل، والغالبية الساحقة من المواقع، غير مهيّأة لأيّ نقد سينمائي بالمعنى المتداول للتعبير، رغم أنها تتيح لأي كان في أي وقت إبداء رأي يُمكن أن يؤثّر سلبًا على المُشاهدة، كما على الكتابة النقدية السليمة. المأزق كامنٌ أيضًا في أن كثيرين يُسيئون استخدام تلك الوسائل، فيشنّون حملات مغرضة على سينمائيين قبل مُشاهدة أفلامهم، انطلاقًا من قولٍ أو رأي أو حالة ناتجة بسبب الفيلم نفسه، أو بسبب سلوك صاحبه أو موقفه مثلاً.

ملاحظات كهذه مطروحة في “ندوة النقد السينمائي”، المُقامة في إطار الدورة الـ21 (20 ـ 29 يوليو/ تموز 2018) لـ”مهرجان غواناخواتو السينمائي الدولي” في المكسيك. فالندوة مهتمّة بالحالة السينمائية في بلاد المُشاركين فيها بحسب متابعاتهم وقراءاتهم ونقاشاتهم، وهم كارلوس غوميز إنياستي (المكسيك) وستيف غايدوس (الولايات المتحدة الأميركية) ودانا لينسن (هولندا)، ومعنيّة بوضع النقد السينمائي بحدّ ذاته كما بعلاقته بوسائل التواصل الاجتماعي. مُشاركتي في الندوة تتيح تقديم صورة عامة عن حالة لبنانية مرتبكة، إذْ لن تتمكّن أية قراءة هادئة من التغاضي عن مآزق وتحدّيات، كواقع الصناعة وغياب الصحف/ النقاد وانصياع مؤسّسات إعلامية/ صحافية لرغبات النظام اللبناني المصنوع بتوافق طائفي/ مذهبي، في حين أن المحطات التلفزيونية خاضعة لمنطق الاستهلاك التجاري في التعاطي مع الفن السابع، ومع الفنون والآداب.

لكن الأهمّ من هذا كلّه كامنٌ في سؤال العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والسينما. الاختلاف جذريّ بين بلاد الغرب ولبنان/ العالم العربي، وإنْ يلتقِ الطرفان عند مسألة أساسية: كيفية التعامل مع الوسائل تلك، ومدى تأثيرها على الصنيع السينمائي (وعلى أمور كثيرة أخرى أيضًا، في يوميات العيش في “القرية الكونية”). الزملاء الغربيون يُدركون أهمية الوسائل تلك من دون التغاضي عن مخاطرها، وينتبهون إلى الحاجة إليها من دون تجاوز كيفية التعاطي معها، ويرغبون في جعلها إحدى أدوات المعرفة شرط أن يكون مستخدموها “أقوى” منها، عبر عدم الاستسلام المطلق لها. هذا غير مختلف كثيرًا عن شبكة “إنترنت” التي تجمع تناقضين كبيرين: القدرة على إيصال المعرفة (أو بعضها على الأقلّ)، وتفشّي “المعلومات الخاطئة”.

المأزق كامنٌ في أنّ كثيرين غير راغبين في التأكد مما يُنشر في شبكة “إنترنت” ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الأخيرة تتحوّل غالبًا، في الدول العربية تحديدًا، إلى حيّز فضائي لحملات مسعورة تنال من سينمائيين ومن أفلامهم، وتحرّض عليهم وتدعو إلى مقاطعة ما يُنجزون، قبل المُشاهدة والتأكّد والمعرفة.

هذا حاصلٌ في بيروت مرارًا: شريط ترويجي دعائي لـ”بيروت” (2018) لبراد أندرسن يُثير غضبًا كبيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن يُشاهده أحدٌ من الغاضبين. فوز “كفرناحوم” (2018) للّبنانية نادين لبكي بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة بالمسابقة الرسمية للدورة الـ71 لمهرجان “كانّ” سببٌ لحملة شرسة على الفيلم ومخرجته قبل المُشاهدة (المشاركة في “كانّ” عرضٌ دوليٌّ أول) لأسباب متعلّقة بانتماءات سياسية/ طائفية بحتة لصانعي الحملة.

نموذجان لن يحولا دون التنبّه إلى الاستسهال الحاصل في وسائل التواصل الاجتماعي إزاء كل شيء، إذْ لا يُمكن ضبط فضاء مفتوح يُتيح للجميع قول ما يشاؤون وما يريدون من دون نقاش جدّي إلا فيما ندر. نموذجان يسمحان بقراءات نقدية مختلفة للعلاقة القائمة بين السينما ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.

العربي الجديد

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى