ثقافة وفكر

فلسفة الهاشتاغ: السياسة «الزائفة» والحيز العام/ محمد سامي الكيال

 

 

تزداد على الدوام الأهمية الإعلامية لحملات ذات طابع سياسي على وسائل التواصل الاجتماعي، مرتبطة بوسم معين تجتمع تحت إطاره مجموعة من التدوينات المعنية بقضية محددة. ومن أمثلتها الأشهر حملة #metoo التي أطلقتها الممثلة الأمريكية إليسا ميلانو حول التحرش الجنسي، والحملة الألمانية التي أُطلقت على غرارها تحت وسم #metow، المكرس لـ«العنصرية» التي يقول مدونو الحملة أنهم يتعرضون لها يومياً. يتسم هذا النوع من النضال الافتراضي بدويه الإعلامي أولاً، فهو يشغل بشكل مكثف ولمدة محدودة نسبياً وسائل الإعلام، التي أعادت تكييف نفسها بما يتفق مع شروط الانتشار على مواقع التواصل. وباعتماده ثانياً على التجربة الشخصية والبعد العاطفي الفردي، القائم على تقصي الذات والهوية والميل. رافعاً هذه العناصر إلى مستوى الحيز السياسي العام، أو على الأصح مخفضاً الحيز العام إلى مستواها.

هذه الظواهر السياسية مدروسة بعمق منذ مطلع هذا القرن من قبل مختلف التخصصات البحثية، إلا أن الإسهام المكثف للناقد الثقافي البريطاني آلان كيربي يتمتع بأهمية خاصة في هذا المجال نظراً لعمقه وطرافته. في مقالة شهيرة في «مجلة الفلسفة» البريطانية نُشرت عام 2006 يتحدث كيربي عن «الحداثة الزائفة» التي أنهت حسبه مرحلة «مابعد الحداثة»، وأسست لتغير ثقافي عميق نعيشه حالياً. حيث تبدلت بنية الخطاب والنص وشروط الإنتاج الثقافي لتصبح أكثر اعتماداً على مشاركة المتلقي في تكوين ما يستهلكه من منتجات ثقافية. والنموذج الأساسي لنص «الحداثة الزائفة» هو تلفزيون الواقع والبرامج الفنية المعتمدة على التصويت، أو السياسية المعتمدة على مداخلات المتصلين ومشاركاتهم، وألعاب الفيديو والأفلام الإباحية التي «تُستعمل» بدلاً من أن «تُشاهد». كان المتلقي في عصر الحداثة وما بعدها يقرأ أو يشاهد أو يستمع. أما متلقي الحداثة الزائفة فهو «ينقر»، «يتصفح»، «يحمّل»، «يختار»، «يعلّق» أو «ينسخ». فيشق لنفسه طريقاً فريداً لا يمكن تكراره في إنتاج ما يتلقاه. ما يؤدي إلى تغيرات عميقة في مفاهيم المعرفة والحقيفة والفردانية والسلطة.

نص «الحداثة الزائفة» من وجهة نظر كيربي، أو «الحداثة الرقمية» كما أعاد تسميتها في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه، هو نصٌ بالغ التفاهة، شديد الظرفية وسريع الزوال. لا يملك إلا زمناً واحداً هو الحاضر بانفصال عن الماضي والمستقبل. وبعد أن وضعت «ما بعد الحداثة» مفهوم الحقيقة موضع تساؤل، تعيد الحداثة الزائفة تعريفه بوصفه «الأنا ـ الآن». وبما أنها تقوم بمرونة وسهولة بإعادة إنتاج النص عن طريق تفاعل المتلقي في زمن واحد هو الحاضر، فهي تعتبر بشكل طبيعي كل ما تفعله حقيقةً مطلقة لا حاجة لمساءلتها. فما ترغبه سيصبح فوراً جزءاً «حقيقياً» من بنية النص، دون إهتمام بتراكم أو قيمة ثقافية. ولذلك لا يمكن اعتبار الحداثة الزائفة عملية دمقرطة للثقافة، فهي ليست أكثر من قالب يستبعد الذكاء والإبداع لحساب توجهات نمطية كثيراً ما يشوبها الجهل والتعصب والتخبط، ومشاركة المتلقي في إنتاج النص ليست أكثر من إمكانية تقنية ضمن إطار عام محدد سلفاً إلى حد كبير.

لا يخرج كيربي، بحكم تخصصه، عن دراسة النصوص والمنتجات الثقافية، إلا أن إطروحته تملك أبعاداً سياسية واجتماعية واضحة، يمكن تعميمها والاستفادة منها لنفهم أيضاً ما يمكننا تسميته بـ«السياسة الزائفة».

بعد أن كانت السياسة متمركزة ضمن الحيز العام، لها «مؤلفوها» من أحزاب سياسية ونقابات ومنظمات نوعية مهنية أو اجتماعية أو ثقافية، تعتمد على تقاليد معينة في العمل السياسي (ماضي)، ومتوجهة لأهداف اجتماعية واضحة (مستقبل)، أصبحت السياسة «تجربة ذاتية» تتم فقط في الحاضر، حتى عندما تقوم على سرد أحداث من الذاكرة، كما في حملة #metoo مثلاً، لأنها تسردها بناء على التوجهات الآنية التي يبتكرها الهاشتاغ، فتُرى التجربة القديمة بشكل جديد تماماً، ويعاد تأويلها، بعد أن «انقشعت الغشاوة» عن بصيرة الرواة.

لا مجال في هذا النوع من «السياسة» للقيام بأي نشاط عقلي تقليدي كالنقاش والنقد والتشكيك والتفحص، فالمهم هو الانطباع العاطفي والإنتاج الآني للتجربة التي يقوم بها «المؤلفون»، وهم في الوقت نفسه المتقلون. الذين يقدمون أنفسهم اليوم بوصفهم «ضحايا» وليس مناضلين أو فاعلين اجتماعيين. في مسرحة شاملة للقول السياسي.

يبدو منتجو السياسة الرقمية اليوم عاجزين عن قول أي شيء متماسك في قضايا الحيز العام، فبعيداً عن مقولات عائمة عن «التمييز الجنسي»،»الماضي الاستعماري»، «العنصرية» و«التمكين»، من الصعب إيجاد برنامج ذي نقاط محددة وواضحة يحمل مطالبهم السياسية والاجتماعية والقانونية، وهذا السمة تبدو طريفة إذا تمت مقارنتها بخصائص الحركات السياسية الحداثية، مثل حركات التحرر الوطني والحقوق المدنية، التي كانت دوماً تحمل أجندات ومطالب شديدة الوضوح، وقدرة سياسية رفيعة في التفاوض المجتمعي.

بالمقابل لدى ناشطي الهاشتاغ كثيرٌ مما يقولونه عن أنفسهم، وهو للأسف لا يختلف كثيراً عن لغة البوح والعرض النرجسي للذات، بأسلوب يشبه صور السيلفي المعدلة والملونة بواسطة تطبيقات الهاتف الذكي. لعله مستوى جديد مما يسميه ميشيل فوكو «غريزة الاعتراف»، وهو حسبه أحد الصيغ الأهم لعمل «السلطة الحيوية».

إلا أنه من الخطأ أن نفسّر هذا التحول فقط بالتقنية وقضايا النص والخطاب، فالسياسة الرقمية تقوم على تحول اجتماعي وانتاجي عميق جرى في مجتمعات غربية دخلت مرحلة «ما بعد صناعية»، بعد أن تم تصنيع أجزاء أخرى واسعة من العالم بالاعتماد على العمالة الرخيصة، المحرومة من كل إمكانية للنضال الواقعي، ولا تملك الكثير من الوقت للهاشتاغات والنضال الرقمي. بعكس «ضحايا» الفئات الوسطى والعليا ونخب العولمة.

قلنا سابقاً إن «الحداثة الزائفة» قائمة على المشاركة ضمن إطار محدد سلفاً، ومعرفة هذا الإطار تثير اليوم نقاشات واسعة، فبعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية، تزايدت انتقادات عدد من الكتّاب اليساريين لسياسات الهوية والصواب السياسي، وهو الجدل الذي أطلقه بشكل أساسي الكاتب الأمريكي مارك ليلا في مقالته الشهيرة في جريدة نيويورك تايمز عن «ليبرالية الهوية». حاول بعض الناشطين انتقاد طرح ليلا بالقول إن «الصواب السياسي» غير موجود، وهو بدعة اخترعها اليمينيون والمحافظون للانتقاص من سياسات اليسار الليبرالي، ففي الواقع لا يوجد نص أو برنامج سياسي يحدد فعلاً ما هو الصواب السياسي وكيف يجب أن يمارس. هذ الانتقاد يُغفل الطبيعة الأساسية للأيديولوجيا، التي لا تقوم، كما شرح الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير في نهاية الستينيات، على البرامج والنصوص، بل تُنتج أساساً في «الجهاز». أي المؤسسة واللجنة والمنظمة وغيرها من الأجهزة المادية المحددة للسلطة. وعليه فإن الإطار المادي الأساسي لـ«الحداثة الزائفة» بملحقاتها من بوح وصواب سياسي وسياسات «صغرى» هو بنية تحتية متكاملة من الأجهزة الأيديولوجية التي تؤمّن الشرط الضروري لجعل السياسة الرقمية ممكنة. النموذج الأساسي لهذه الأجهزة هو مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والثقافية و«لجان مكافحة التمييز» الموجودة في كل مؤسسة وشركة كبرى، خاصة العابرة للجنسية منها. التمويل الهائل لهذه الأجهزة ليس بالتأكيد مجرد مؤامرة، فهو يقوم على شرط موضوعي تحدثنا عنه باختصار فيما سبق، وعموماً لا توجد سياسة بلا هيمنة وأيديولوجيا، بما فيها سياسات «المجتمعات المفتوحة».

هذه الشركات والمنظمات هي مؤسسات غير منتخبة، ولا توجد رقابة مجتمعية على نشاطاتها وبرامجها، وبالتالي فالتأثير الهائل الذي تلعبه في صياغة ثقافة الحاضر وسياسته هو إفراغ شامل للديمقراطية من مضمونها. وهو أيضاً خصخصة للحيز العام الذي لم يعد قائماً على التداول العام والاتحادات الطوعية المنظمة ديمقراطياً، بل على برامج واستثمارات مؤسسات ربحية منظمة هرمياً ومنافية للديمقراطية جوهرياً.

الحديث عن الخصخصة يودي بنا تلقائياً لربط الوضع المستجد بالسياسات النيوليبرالية على المستوى الاقتصادي، إلا أننا سنقف هنا عند حدود السياسة. بالتركيز على سياسة الهاشتاغ سنجد أن القول السياسي بحد ذاته قد تمت خصخصته، فبعد أن كانت الحركات السياسية المختلفة، بما فيها الأشكال التحررية للنسوية والمثلية الجنسية ومكافحة العنصرية، تنتقل من الخاص إلى العام، أي تحول مطالبها الخاصة أو المحلية إلى خطاب سياسي عام يمس جميع أفراد المجتمع، صارت سياسة الهاشتاغ تحوّل كل ما هو عام إلى خاص، فكل قضية مشتركة يتم اليوم ترجمتها إلى لغة هوياتية، تعني فقط جماعة أو عرقاً أو جنساً معيناً. وإذا كانت الهوية المسيسة تقوم تعريفاً على التمايز والتعارض مع «الآخر»، فيمكننا تخيل إلى أين يمكن أن تودي بنا «السياسة الزائفة».

٭ كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى