الناس

المجتمع المدني ومستقبل الصراع السوري/ سارة الشيخ علي

 

 

 

 

على الرغم من كل التحديات التي مرّ بها المجتمع المدني السوري، إلّا أنه كان مصدر التماسك المجتمعي الوحيد خلال السنوات السبع المنصرمة. قام المجتمع المدني بدور أساسي في دعم وحماية وإنقاذ مجموعات واسعة من المدنيين، وتحضيرهم لمرحلة ما بعد الصراع. سيلعب المجتمع المدني دوراَ جذرياَ في توجيه السياسيات وسبل الحماية وبناء مؤسسات الدولة وإرساء سلام مستدام واستقرار مجتمعي.

من شبه المستحيل افتراض إعادة بناء القطاع العام في سوريا دون إشراك المجتمع المدني، حيث أن الأخير قد نجح بفرض نفسه كضرورة، سواء لجهة الدور الذي لعبه، وما يزال، خلال الصراع، والذي جعل منه الممثّل والحامي والمدافع عن حقوق شريحة واسعة من المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، هناك دور متوقّع ومرجو من المجتمع المدني يتمثل في رسم استراتيجيات الحوكمة الرشيدة في مرحلة ما بعد الصراع، وهى مرحلة بدأ المجتمع الدولي والسوريون التحضير لها.

منذ 2011، لعب المجتمع المدني السوري دوراً جوهرياً في سياق الحرب في سوريا، حيث تأسست عدد من المنظمات والمبادرات المدنية والمجالس المحلية والمؤسسات غير الحكومية، ما زاد عن عددها منذ 1959  — أي قبل تأسيس النظام البعثي سنة ١٩٦٣ — حتى قيام الثورة، وهذا يشير بوضوح إلى حرص نظام الأسد على تحجيم وحدّ، وأحياناَ منع، كل نشاط مدني، من شأنه تهديد قوّة النظام ونفوذه. وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام قد قامت هذه المنظمات بأدوار المجتمع المدني التقليدي، حيث عملت في مجالات متعددة مثل توثيق الانتهاكات وتنسيق الدعم ومساعدة ضحايا الصراع والتعليم البديل وحل النزاعات وبناء السلام وبناء قدرات المجالس المحلية والناشطين المدنيين.

انتقالاً إلى مرحلة ما بعد الصراع ودور المجتمع المدني فيها، تضعنا الظروف الحالية وجهًا لوجه مع ضرورة التفكير بكيفية إشراك المجتمع المدني في بناء القطاع العام ووضع سياسات للحوكمة الرشيدة، وهى مقاربة في آليات إدارة الشأن العام تقوم على مشاركة الفاعلين الاستراتيجيين وإقامة فضاءات التواصل والتعبير معهم. أهم مكونات الحوكمة الرشيدة المشاركة الفعالة للمواطنين والشفافية والمساواة والعدالة وسيادة القانون والفعالية والكفاءة، والمحاسبة. وتعتبر هذه المكونات حجر الأساس في بناء الدولة الديمقراطية.

لا يجب التعامل مع هذا الدور للمجتمع المدني انطلاقاً من فكرة استدعائه وقت الحاجة وإنما من منطلق الشراكة.

نشأة المجتمع المدني بعد الثورة

ظهر المجتمع المدني السوري بشكله الحالي في مارس/آذار 2011 مع بداية الثورة ضد نظام الأسد. خلال عام فقط كان عليه التعامل مع واقع السلاح الذي فرض نفسه على السياق السوري. كان من الطبيعي اعتماد المجتمع المدني السوري على تمويل ودعم تقني من الخارج، بسبب غياب مصادر التمويل الداخلي له ومحاربته وتخوينه والتضييق عليه، وأحيانًا اعتقال أفراده وتصفيتهم من جانب النظام، ولاحقًا من جانب الفصائل المتطرّفة. وهذا يفسر لماذا انحصر في الأغلب عمل منظمات المجتمع المدني في المناطق الخارجة عن سلطة قوات الأسد. إذاً، فإن علاقة المجتمع المدني السوري بالمؤسسات الحكومية المحليّة، في ظل غياب الثقة وصعوبة النفاذ إلى المعلومة والخطر الذي يتعرض له العاملون والناشطون في هذا المجال، تشرح كيف لا يمكن العبور إلى الدولة الديمقراطية والمواطنة الفاعلة دون مشاركة فعّالة وحرّة للمجتمع المدني.

إن العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية في سوريا في سنوات ما بعد الثورة علاقة معقدة وأحيانا وصلت لحد التنافس. فقد تماهى عمل المجالس المحليّة — التي تمثّل بديل عن الدولة الغائبة في المناطق المحررة — في معظم المناطق مع عمل منظمات المجتمع المدني، حتى باتت العلاقة بين الطرفين تنافسية، خاصة فيما يتعلق بالتمويل المقدّم من المانحين الدوليين والمنظمات الدولية في ظل غياب مصادر متنوعة ودائمة للتمويل.

يضاف إلى ذلك، أن العاملين في المنظمات كانت لهم فرصة أكبر في بناء قدراتهم عبر التدريبات التي خضعوا لها. هذه العوامل، أدّت إلى اختلاط الأدوار ما بين الطرفين وتفريغ عملهما من مضمونه الأصلي الذي يجب أن يقوم عليه في حالة الاستقرار السياسي والأمني، إن لجهة دور منظمات المجتمع المدني، كوسيط ما بين المواطن والدولة ومراقب لعملها بهدف حماية حقوق المواطنين، ومن جهة دور المجالس المحلية كسلطة محليّة تدير شؤون المجتمع المحلي وتلبّي احتياجاته، بالتنسيق والتعاون مع المجتمع المدني، في إطار علاقة تكاملية لا تكون فيها الغلبة لطرف فيها على آخر.

ومن هنا، فإن دور المجتمع المدني في الحوكمة يتوزّع على ثلاثة مستويات. المستوى الأول: صياغة النظم الداخلية والإجراءات، وفي هذا الشق يتمثّل إن دور المجتمع المدني في المشاركة في صياغة السياسات ورسم البرامج والمشاريع ورفع التوصيات والمذكرات والتنسيق ما بين الدولة والمواطنين والمشاركة في صناعة القرارات وتمثيل المواطنين في اللجان الوطنية واللجان الخاصة.

المستوى الثاني: وهو النظم والإجراءات المتقدّمة، حيث تقاس في هذه المرحلة فعالية الحوكمة بمدى مشاركة المجتمع المدني فيها والتفاعل ما بين المواطنين والدولة.

أمّا المستوى الثالث فهو يتعلّق بالتوازن وعدالة التوزيع وآليات المحاسبة، وهنا يتم تقييم جودة الحوكمة بناءَ على مدى قدرة المجتمع المدني والمواطنين على معرفة ما تقوم به الدولة وتسليط الضوء على أخطائها أو الخلل الإداري فيها ومستوى العدالة وتطبيق مبدأ التكافؤ وإمكانية محاسبتها.

لكن وفي هذا السياق لا بد من الحديث عن علاقة المنظمات المدنية بالمجالس المحلية في سوريا. المجالس المحليّة، التي تمثّل السلطة المحليّة والتي عملت خلال السنوات الماضية كبديل عن الدولة المدنية الغائبة، تماهى عملها في معظم المناطق مع عمل المنظمات المحلّية، حتى باتت العلاقة بين الطرفين تنافسية لجهة التمويل المقدّم من المانحين الدوليين والمنظمات الدولية، في ظل غياب مورد مادي رسمي كما في حالة الاستقرار من الدولة أو الضرائب التي تجنيها هذه المجالس، حيث تتبع المجالس المحليّة أو البلدية لسلطة الدولة عبر وزارة الداخلية غالباَ، وتتبع لها ادارياَ ومالياَ.

يضاف إلى ذلك، أن العاملين في المنظمات كانت لهم فرصة أكبر في بناء قدراتهم عبر التدريبات التي خضعوا لها. هذه العوامل، أدّت إلى اختلاط الأدوار ما بين الطرفين وتفريغ العمل من مضمونه الأصلي الذي يجب أن يقوم عليه في حالة الاستقرار السياسي والأمني، إن لجهة دور منظمات المجتمع المدني، كوسيط ما بين المواطن والدولة ومراقب لعملها بهدف حماية حقوق المواطنين، ومن جهة دور المجالس المحلية كسلطة محليّة تدير شؤون المجتمع المحلي وتلبّي احتياجاته، بالتنسيق والتعاون مع المجتمع المدني، في إطار علاقة تكاملية لا تكون فيها الغلبة لطرف فيها على آخر.

نجاح المجتمع المدني خلال الحرب

شهدت مناطق سورية عدة تجارب نجح خلالها المجتمع المدني في الإسهام في إعادة بناء أو إصلاح القطاع العام وبناء حوكمة تشاركية. في إدلب مثلاَ، استطاع المجتمع المدني في بداية 2017 وعبر تحفيز الناس على المطالبة بتشكيل مجلس محلي جديد يستجيب لاحتياجات المجتمع المحلي هناك، وهى الاحتياجات التي فشلت إدارة الفصائل المسلّحة – التي سيطرت على المدينة بعد خروجها عن سيطرة النظام – في تأمينها، حيث عانت المدينة خلال تلك المرحلة من شح في المياه وانقطاع في الكهرباء وفوضى سوق وارتفاع أسعار السلع.

ومؤخراَ في عفرين تم تأسيس سبعة مجالس محليّة لإدارة مدينة عفرين والنواحي الست التابعة لها، عبر عملية تصويت شارك بها وجهاء المدينة في أبريل/نيسان الماضي، على أن يتم انتخاب مجالس جديدة بعد ستة أشهر من التأسيس من خلال اقتراع يشارك فيه الأهالي. والملفت في تجربة المجالس المحلية في عفرين، هو تعاونها مع المنظمات الإنسانية والمدنية العاملة هناك، حيث استطاعوا يداَ بيد، تأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين خلال فترة وجيزة، كان من المستحيل أن يحققها أحد الطرفين بمعزل عن الآخر.

مرحلة ما بعد النزاع

يضعنا كل ما سبق أمام حقيقة واحدة — أن مستوى إشراك المجتمع المدني هو العامل الذي يحدّد فرص فشل أو نجاح بناء السلام في مرحلة ما بعد النزاع في سوريا. فالجهود التي يقوم بها المجتمع الدولي قد تذهب هباءَ إذا تمّـت بمعزل عن المجتمع السوري نفسه. ولكن هذا الواقع أيضا يطرح أبعادًا أخرى للمسألة السورية، ويجعلنا في مواجهة خريطة السيطرة العسكرية الجديدة في سوريا، كسيطرة النظام الوشيكة على مناطق الجنوب، أو سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مناطق شمالية، وسيطرة تركيا في المناطق الحدودية معها. مما يفرض على المجتمع المدني السوري إعادة ترتيب أولوياته في كل منطقة ويفتح الباب على اشكالية أخرى وهي مدى امكانية المجتمع المدني على العمل باستقلالية خاصةً من ناحية مراقبة ومساءلة أي حكومة قادمة، بمعزل عن شكلها وتركيبتها السياسية، تمهيدًا لعقد اجتماعي سوري يرعى حقوق كل السوريين.

للاطلاع على المادة من المصدر اضغط هنا

http://www.achariricenter.org/syrian-civil-society-ar/

مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى