الناس

قمر سوريا الأحمر/ بكر صدقي

 

 

يبذل كتّاب أفلام الجرائم المتسلسلة جهوداً كبيرة لابتكار وسائل قتل من شأنها إبهار هواة مشاهدة هذا النوع من الأفلام السينمائية. كذلك يفعل مخرجوها بحثاً عن “أفضل” معادل بصري لتلك الجرائم الوحشية، بحيث يسيل الدم الأحمر بغزارة على الشاشة، وتنطلق صرخات الضحايا، بما يُفقد المشاهد في قاعة العرض المظلمة، إحساسه بالواقع، ويُدخله شريكاً مع الضحية يتلقى طعنات السكين، أو يتماهى مع القاتل ذي الأعصاب الباردة في ارتكاب القتل، أو ربما يشعر، كشخص ثالث محايد، شعور من يرى كابوساً رهيباً يخال أنه لن ينتهي.

أزعم أنه بعد الفظاعات التي ارتكبها النظام الكيماوي في سوريا، ومجموعات مسلحة أخرى، سيفشل صانعو النوع المذكور من أفلام الرعب الدامي في ابتكار وسائل قتل تتفوق على عبقرية النظام الإجرامية، وفي تصوير مشاهد تثير المزيد من الرعب.

الحرق حياً، السلق بالماء المغلي، الضرب على الرأس بأداة ثقيلة، تقطيع الأوصال، بقر البطن، النفخ بمنفاخ.. وغيرها من الوسائل السادية التي لم يوفر منها النظام وأجهزة مخابراته وشبيحته شيئاً إلا واستخدموه، سواء في مراكز الاعتقال أو في الأحياء والقرى المستباحة.. بلا أي تمييز بين رجال أو نساء بالغين أو أطفال قصر أو رضع..

لا أحد يعرف بصورة يقينية كيف قتل يحيى شربجي أو أخوه معن، الناشطان السلميان من بلدة داريا غرب مدينة دمشق. فقد قتلا قبل خمس سنوات، بالتمام والكمال، وشاء النظام أن يقتلهما مرة ثانية في سجلات النفوس. كانا معتبرين في حكم المغيبين قسرياً ممن لا يعرف أهلهم شيئاً عن مصيرهم أو أماكن احتجازهم أو ظروفها. ومهما كانت التصورات قاسية ومؤلمة، بشأن تلك “الظروف” فقد بقي لدى الأهل أمل ما بأن أولادهم سيخرجون يوماً ما، في صفقة تبادل مثلاً، أو بنهاية الحرب، أو بداية حل سياسي ما، مهما بدا مستبعداً اليوم.

الآن باتت سوريا كلها، والعالم، يعرفان أنهما ماتا في أحد مراكز الاحتجاز، ومضى على موتهما سنوات. لم يسلم جثمانهما، واقتصر الأمر على إبلاغ دائرة النفوس، وتهديدات للأهالي بألا يقيموا جنازة تليق بمهابة الموت.

غير أن خبر يحيى ومعن كان البداية فقط. فلم تمض أيام قليلة حتى أخذت دفعات جديدة من الأسماء تزال من سجلات النفوس: ألف اسم من داريا وحدها! تلك البلدة الصغيرة التي اشتهرت بمظاهراتها السلمية، وشبانها حاملي الورود وزجاجات الماء في محاولة للبحث عن ذرة من الإنسانية لدى الجنود المكلفين بقمعهم وصولاً حتى القتل. على أمل أن يتحرك شيء ما داخل بعض الجنود فيمنعهم من الضغط على الزناد. ربما تحقق ذلك بصورة جزئية، لكن الحالة العامة هي أن مظاهر السلمية لم تمنع الجنود من إطلاق النار على الشبان العزل في داريا وغيرها من البلدات أو أحياء المدن في طول البلاد وعرضها.

550 من حلب من فرع المخابرات الجوية وحده.

500 فلسطينيي من مخيم اليرموك.

460 من تل كلخ.

750 من حي غويران في الحسكة..

والبقية تأتي.

مجرد أرقام.. مجرد أسماء..

ثم تتسارع وتيرة إصدار قوائم الموت هذه، وكأنها أمر طبيعي. لا معتقلين في معتقلات النظام الكيماوي، بل قتلى مؤجل الإعلان عن مقتلهم. يزداد النظام وقاحة واستهتاراً كلما لمس أن “العالم” ليس أقل سفالة وإجراماً منه. ربما تلقى الإشارة المناسبة من “قمة” ترامب وبوتين في هلسنكي، منتصف الشهر الجاري، بأنه باقٍ ويتمدد، فالطلب العالمي على السفاح لم يتراجع بعد. ترامب سلم مصير سوريا لبوتين، بما في ذلك منطقة الجنوب التي كانت، حتى وقت قريب، مضمونة أميركياً. وإسرائيل استدعته علناً لحماية حدودها الشمالية، مع وعد علني من نتنياهو بأنه باق على رأس “السلطة” في سوريا.

كل هذه التطمينات، إضافة إلى الحليف الروسي الذي لا يقل إجراماً عنه، كانت كافية ليبدأ بتصفية موضوع المعتقلين الذي يثار في وجهه في كل جولة تفاوضية.

ولكن ليس هذا هو السبب وراء لجوء النظام إلى إصدار شهادات الوفاة. بل هناك ما هو أهم: توجيه رسالة إلى السوريين مفادها بأنه يتمتع بحصانة مطلقة، وأنه يحمل إجازة بالقتل من “المجتمع الدولي” وبخاصة إسرائيل. فهو إذن حر في قتل من يشاء، وبالعدد الذي يشاء، والأسلوب الذي يشاء. وهذا هو دستور سوريا الأسد، بصرف النظر عن لجان ديمستورا، تشكلت أو لم تتشكل، تباحثت أو لم تتباحث، اتخذت قرارات أو لم تتخذ، أصدرت نصوصاً دستورية أو لم تصدر…

يريد السفاح المعتوه أن يكتب على باب مزرعته المسماة “سورية الأسد” ما كتب على باب جحيم دانتي: (أيها الداخل هذا المكان، تخلَّ عن كل أمل!)

هل حقاً يؤمن هو أو الموالون له بأن هذا ممكن الحدوث، مهما تكالبت على سوريا الظروف والضباع؟ ومهما حصل أبو البراميل على إجازات بالقتل من أميركا أو إسرائيل أو روسيا أو غيرها من البلدان؟

هل يمكن لمن بات رسنه بيد الضباع أن يأمن على نفسه؟

لقد شهد القمر، يوم الجمعة الماضي، أطول خسوف له لهذا القرن.

لكنه انتهى.

قمر سوريا الأحمر ابتلع الفنانة الشجاعة مي اسكاف، ثم يحيى ومعن شربجي، ثم قوائم شهادات الوفاة، وأخيراً مجزرة السويداء وقراها.

خسوف سوريا كان شديد القسوة، غزير الدم.

سوف ينتهي الكابوس الأسدي أيضاً.

وسيصدر السوريون، أخيراً، شهادة وفاة حافظ الأسد ليلعنوا روحه كل يوم كفرض الصلاة.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى