أبحاث

الوطنية والتابو: وطنيات متنافية غير قابلة لتأسيس عقد اجتماعي/ ماهر مسعود

اليوم، لم يعد الوطن ذاته موجوداً، فهو مقسّم ومحتل وضعيف ومهشّم حتى النخاع، ليس هناك وطن لأنه ليس هناك مواطنة ومواطنين أصحاب حقوق بين السوريين، فسوريّو الداخل يمارسون حقهم الوحيد بالموت، أو بالصمت والجوع حتى الموت، وسوريو الخارج هم “مواطنون” درجة ثانية أو عاشرة في دول غريبة وبعيدة أو مجرّد أرقام وضحايا في المخيمات

إحدى أكبر المشكلات التي كانت تواجهني خلال خدمتي العسكرية الإلزامية هي كيفية تحول القرارات العشوائية واللحظية والارتجالية إلى قوانين حاكمة للجميع، ومبادئ صعبة التغيير، فقد كان يكفي أن يأتي ضابط بمزاج نشط صباحاً كي يغير نظام الرياضة الصباحي، أو ضابط آخر بمزاج عكر كي يغير نظام العقوبات. وفي كثير من الأحيان كان يكفي أن يكون الآمر مساعد أول، أو مدرّب برتبة رقيب أو حتى جندي متطوع لكي يغير نظام الحياة العسكرية لمئات المجندين الذين باشروا الخدمة الإلزامية.

الوطنية والنظام

غالباً ما كان يستمر النظام الناتج عن مزاج متقلب أو خطأ أو نسيان لمدة أسبوع أو شهر أو سنة، دون أن يجرؤ أحد منا على المطالبة بتصحيحه، بل في الحقيقة كثيراً ما تحولت القرارات المزاجية إلى عرف سائد، والعرف هو القانون الناتج عن غياب القانون أو هو الاستثناء الذي يصبح قانوناً.

المشكلة مع تلك القرارات الارتجالية والمتناقضة مع بعضها أحياناً، لم تكن في قسوتها المعتادة في الحياة العسكرية، بل في الربط الدائم الذي يقيمه صاحب كل قرار مع معيار أعلى، تابو مقدس يعتبر نقاشه من المحرمات، مثل ربط الرياضة بمقولة قائد الوطن “إني أرى في الرياضة حياة” أو ربط العقوبة القاسية للمخالفين بالوطنية والولاء للوطن، فمن يخالف النظام العسكري لا يمكنه أن يحمي الوطن، بل هو يسهّل مهمة العدو..الخ.

الوطنية كمعيار أعلى كانت أيضاً سلطة عليا، وكلما ربطتها بقائد الوطن كلما تحولت إلى سلطة مقدسة، وكثيراً ما كان يستخدم العساكر تلك السلطة لإثبات ولائهم ومحاولة الرفع من شأن أنفسهم أمام قادتهم، لكن المكان الوحيد الذي كان استثناءً كلياً ولا ينفع معه ذلك المعيار الوطني ولا الاستقواء بالوطن أو بقائده هو فروع الأمن، فكثيراً ما أخبرنا المعتقلين هناك، بأنه عندما يتم الاستشهاد والاستنجاد بقائد الوطن بغية التخفيف من تعذيبهم، كان يتم تعذيبهم على نحو أكثر وحشية من السابق، ففي المعتقلات يبدو الوطن على حقيقته العارية، مكاناً مظلماً وبارداً ومليئاً بالخوف والألم والموت، لا مقدسات فيه ولا تابوهات محرّمة.

ما يزرعه النظام فينا

أذكر أيضاً عندما كنت في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة القرية، وكانت هناك مناسبة وطنية للاحتفال السنوي بعيد الحزب. واستناداً إلى ما كنت أسمعه يومياً على شاشة التلفزيون، اقترحت على آنستي؛ التي طلب منها المدير تنظيم الحفل اختباراً لولاءها، اقترحت أن يبدأ الاحتفال بالمقدمة الشعرية المعروفة التالية: “سلاما أيها الأسد، سلمت ويسلم البلد، وتسلم أمّة فخرت بأنك فخر من تلد” امتعضت الآنسة من ذلك الاقتراح دون أن تجرؤ على رفضه، فالبيت الشعري مقدس، ورفضه محرّم، الجميع يخاف الجميع في تلك الحالات حتى لو كان المقترَح من مجرد تلميذ صغير. وعلى ما هو متوقع باتت تلك المقدمة الشعرية مقدمة دائمة لأي احتفال رسمي في القرية، أما أنا فقد حفزني امتعاض المدرّسة الصامت للشعور بالذنب، وما زلت لا أفهم حتى الآن كيف؛ وأنا الكاره للسلطة منذ نعومة أظفاري وأولها سلطة أبي، كيف خطرت ببالي تلك السفالة الراغبة بالتقرب من السلطة وتلقَّي المديح والإعجاب الذي أبداه المدير فعلاً بعد أن عرف باقتراحي. لكن أيضاً ما زلت أتذكر ذلك السؤال الذي داهمني بعدها، وبقي سرياً في رأسي، هو أنه لطالما كنا لا نسمع ولا نرى في كل مجالاتنا العامة سوى خطب القائد والاعجاب بالقائد وتبجيل نظامه، وبالمختصر طالما أن فضائنا العام مليء “ببروباغندا” النظام، فكيف لنا ألا نحب القائد ونظامه، وكيف لنا ألا نساهم، بوعي أو دون وعي في سرديته عن نفسه وعنّا وعن الوطنية ومعايير الوطنية؟!

وطنية مختلف عليها

مع بداية الثورة السورية، بدا المجتمع السوري كالسجين الذين حطّم أغلاله المزمنة، وأسقط تابوهات الكلام المحرم، وأنزل الصورة الرمزية التي ارتسمت خلال عقود لقائد الوطن من سمائها لتصبح كرة تتقاذفها الأرجل واللعنات، لكن الوطنية التي ارتبطت لعقود بقائد الوطن وامتزجت بنظامه، سرعان ما بدأت بالتصدّع وباتت وطنية مُختَلف عليها، لتنقسم فيما بعد إلى مجموعة كبيرة من الوطنيات المتباينة شكلاً والمتشابهة مضموناً، ولا سيما في كونها جميعاً بقيت مقدسة على شاكلة الوطنية القديمة، تقديس الذات المقترن باستبعاد الآخر وتخوينه أو نفيه من الوطنية.

“الشر المبتذل”

أحدى أهم النتائج التي خرجت بها حنة أرندت في كتابها “أيخمان في القدس” هي أن الشر الذي مثلته النازية وجرائمها، لم يكن يحتاج إلى عقول جبارة وأناس أذكياء ونفوس حقودة مليئة بالشر، بل احتاج فقط لأناس عاديين جداً، لا يفكرون بذواتهم كأفراد مستقلين، بل هم فقط يتبعون الأوامر ويبحثون عن الترقي الوظيفي وتلقي مديح قادتهم؛ مثل حالتي عندما كنت طفلاً، الشر العظيم كان مصدره العادية والتفاهة إذاً، تلك التي مثلها آيخمان أفضل تمثيل في دفاعه عن نفسه أمام المحكمة.

ما يمكن استنتاجه من كتاب أرندت المهم فيما يخص الحالة السورية، هو أنه من الصحيح أن القادة هم المسؤولون الأساسيون عن الشر العام، إلا أن تحول الشر إلى جائحة تصيب المجتمع كاملاً يحتاج فقط إلى أناس عاديين جداً، تحكمهم تابوهات السياسة والدين والقومية والوطنية والأيديولوجيا، ويمتنعون عن التفكير والحكم الذاتي المستقل على أفعالهم، وبالتالي يسهل عليهم ببساطة شيطنة الآخر وسحقه وسلبه أي معنى إنساني لكرامته، وبدلاً من اتهام القادة وتمييزهم عن مجتمعاتهم و”حواضنهم” يتم تعميم الشر على الجميع ليدفع ثمنه الجميع، ويشارك به الجميع، وبدلاً من أن تكون المشكلة في الأسد أو الجولاني أو أوجلان أو نصرالله تصبح المشكلة في العلويين أو الأكراد أو السنّة أو الشيعة.. الخ.

“الوطنيات السورية المنقسمة”

إن الوطنيات السورية المقدسة التي انقسمت إلى وطنية ثورية، وأخرى “نظامية”، وثالثة إسلامية، ورابعة كردية.. الخ، باتت وطنيات متنافية بالمطلق غير قابلة لتأسيس عقد اجتماعي مبني على الاعتراف والقانون والمساواة، طالما أن النفي المتبادل بينها قائم بشكل أساسي على الأخلاق، الأخلاق التي تنزه الذات، وتقدّس قضيتها، وتبرئها من الجريمة وترفعها فوق الآخرين؛ الشياطين والأشرار واللاوطنيين، بالمقارنة مع معيارنا المقدس عن الوطنية التي تخصنا. ومثلما كانت الوطنية الموروثة عن النظام فضفاضة وعبثية ويحكمها العرف بدل القانون، والاستثناء بدل العمومية، والامتياز بدل المساواة، والتابو المحرّم بدل المرونة والتسامح.. كذلك أصبحت كل وطنية من الوطنيات المستجدّة.

اليوم، لم يعد الوطن ذاته موجوداً، فهو مقسّم ومحتل وضعيف ومهشّم حتى النخاع، ليس هناك وطن لأنه ليس هناك مواطنة ومواطنين أصحاب حقوق بين السوريين، فسوريّو الداخل يمارسون حقهم الوحيد بالموت، أو بالصمت والجوع حتى الموت، وسوريو الخارج هم “مواطنون” درجة ثانية أو عاشرة في دول غريبة وبعيدة أو مجرّد أرقام وضحايا في المخيمات. لكن الذي بقي موجوداً عند كل من سبق ذكرهم، هو الوطنية، الوطنية المثالية المتخيلة عن وطن مُتخيَّل لا وجود له في الواقع.

ليس من صنع ومازال يصنع الوطنيات الجديدة بأفضل من ذلك الضابط أو المساعد أو الرقيب أو المجند في الوطنية السورية السابقة، وليس أفضل من ذلك الطفل الذي كنته في المدرسة، والذي كان يؤبّد الواقع الرديء ويمدّه بالحياة، استناداً إلى تابو وطني متخيل ومعادي للحياة.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى