مقالات

في الكتابة التوثيقيّة: الخياليّ دون خيال/ منصف الوهايبي

أمضى ستياغ لارسون ردحا من حياته، وهو يبحث ويستقصي ويحقّق في اغتيال أولاف بالمه الوزير الأوّل السويدي عام 1986 وهي الجريمة التي هزّت أوروبا والعالم الحرّ وبلدان العالم الثالث أو النامي وكان الرجل من كبار مناصريه؛ ولم يحلّ لغزها حتى اليوم. وكانت محصّلة بحث لارسون ثلاثيّة روائيّة هي “ميلّينيوم [عصر ذهبيّ] كان لها رواج ودويّ في سوق الأدب في السويد وخارجه. وهي صياغة بارعة لهذه المأساة مدارها على سلسلة من ثلاثة أعمال ينتظمها خيط فنيّ متتابع؛ وقد يكون الرجل استلهم فيها الثلاثيّة اليونانيّة أو المآسي الثلاث التي كانت تقدّم في المباريات المسرحيّة، ولكن بكتابة تحفل بشتّى التفاصيل والشوارد حيث يكمن الشيطان مثلما يكمن الملاك. ثمّ استدرك عليه مواطنه الدبلوماسي جون ستوكلاسا في عمل فارق هو “التحقيق المجنون لستياغ لارسون” (فلامريون 2019). وهو عمل يحار قارئ مثلي في نعته أو تصنيفه فهل هو أدب حقّا؟ هل هو رواية بوليسيّة؟ هل هو جنس سرديّ مخصوص؟ وصاحبه ليس صحفيّا ولا محقّقا أو بوليسيّا؛ وإنّما هو دبلوماسيّ سابق كان في العشرين من عمره عندما اغتيل أولوف بالمه في تلك الليلة من عام 1986 وهو يغادر قاعة السينما مع زوجته؛ دون أيّة حراسة أمنيّة.

استطاع هذا الدبلوماسي بعد عودته إلى السويد، وهو يعدّ كتابا عن أماكن ارتكبت فيها جرائم مروّعة؛ أن ينفذ إلى أرشيف لارسون وهو صناديق من الرسائل والتصاميم ومن ملصقات ومقتطعات من الصحافة؛ وعرف كيف يستثمرها في نصّه أو هذا الكتاب الذي يمكن تشبيهه بـ”الصحن الطائر” أو الجسم الأدبي المجهول أو الرواية السريّة البوليسيّة [السوداء]. وينهض به صوتان: صوت لارسون اللاهث من وراء القبر، العنيد في تعقّبه للنازيّين الجدد وكارهي الأجانب المتطرّفين؛ وصوت ستوكلاسا وهو يلتقط الخيط ويواصل التحقيق طوال خمس سنوات، من حيث توقّف لارسون؛ ويمضي في بحثه عن الحقيقة، وملاحقة الشهود وكشف خفايا اليمين السويدي المتطرّف والنبش في مخابرات جنوب أفريقيا.

يعيدنا هذا النصّ إلى قضيّة الأدب الوثائقي أو الكتابة التوثيقيّة التي تلوح أحيانا أقرب ما تكون إلى الريبورتاج. وهي رائجة في البلدان المتقدّمة، وتطرح علينا سؤالا شائكا ونحن نأخذ بالحسبان الأسس الإيديولوجيّة المختلفة أو الأوضاع السياسيّة التي ينشأ فيها مثل هذا الاتجاه التوثيقي: هل مردّ ذلك العزوف عن الخيال الجامح، إلى التطوّر الصناعي والتكنولوجي الهائل؟ بل أيمكن أن يكون هناك أدب خياليّ دون خيال؟ في تاريخ الآداب، ظواهر أدبيّة قد تختفي حقبة؛ ثمّ نجدها تعود بكلّ قوّة، في حقبة أخرى. ونقدّر أنّ من يتابع حركة الأدب في مجتمعاتنا العربيّة (الشعر والرواية)، قد يشاطرنا الرّأي في أنّ قليلا أو كثيرا منها، يصعب حدّه أو تصنيفه تصنيفا دقيقا مثل “ذات” لصنع الله ابراهيم أو أعمال محمود درويش الشعريّة التي مدارها على جوانب من سيرته. وكان بعض شعراء الحداثة عندنا وكتّابها المنظرين، يرون أنّ الشاعر إنّما يخذله الشعر ويخطئه التوفيق،؛ إن هو ترسّم في نصّه جانبا من حياته أو كشف عن مطارح أفكاره وخوالج نفسه، وكأن النصّ سرد تاريخي مداره على الماضي وغياب الذات المتلفّظة وليس تلفّظا يُفسح المجال، في الملفوظ، لظهور آثار تلفـّظه أي الإشارات الدالّة على ضمير التكلّم وضمير الخطاب (أنا/أنت)، وظروف المكان والزمان (هنا/الآن)، واسم الموصول واسم الإشارة، وأزمنة الفعل وخاصّة المضارع أو “الحال” كما كان يسمّيه العرب، وما إليها من سمات التلفظ في الخطاب التي يصعب تأّويلها إلاّ إذا انتقلنا من الملفوظ إلى مقام التلفّظ، أي إلى الضمير المتكلّم وإلى مكان قوله وزمانه. ونصوص درويش الحيّة وقد تلوح “توثيقيّة” تنهض بها رموز متحرّكة غير ثابتة؛ بحيث يصعب أن نحدّها استئناسا بمدلولها كما هو الشّأن في الكلمة التي هي تمثّل قبل كلّ شيء، وإنّما في ظهورها المباشر الذي يَنشدُ إحداث أثر ما، يمكن أن نسمّيه “أثر الرّمز” كما هو الشّأن في “الأيقونة” أو “القونة” كما جاء في نصّ قديم لحنين بن اسحاق؛ وهي التي تتميّز بطابعها الذي يجعل منها دالاّ، حتّى إن كان موضوعه غير موجود؛ أي بالقدرة على استدعاء حقيقة غير متوقّعة.

ما يعنيني في السياق الذي أنا به، أنّ الكتابة التوثيقيّة مضلّلة؛ فهي عدول من جهة، وتعاقد، من جهة أخرى. أمّا الذي هو عدول فغير نظاميّ ولا نسقيّ، أو هو غير معياريّ أي لا يُقاس عليه. وهو مباغت يحدّ من التوقّع إن لم يخيّبه. وأماّ الذي هو تعاقد، فنظاميّ نسقيّ غير مباغت، وحصوله منتظر. ومردّ ذلك إلى أسباب قد يكون أهمّها تدارك عوز اللّغة، وغايات قد يكون هدم نظام الخطاب الشّعريّ السائد قادحها. ونعني به النظام المنشدّ إلى رواسم متعاودة؛ فلا غرابة أن يكون الخطاب محكوما، في جانب لافت منه، بالوظيفة التنبيهيّة التي تستجلب مزايا الشّفهيّ. ولعلّها محاولة من الذّات للظـّفر بـ”هويتها” كلّما استغرقه التوثيق وهو نوع من التجريب، وقد ينفرط منه الخيط؛ إلاّ في يد الماهر الذي لا ينسى أنّ الأدب تلفّظ حيّ، وأنّ له مرجعيته حتى إن لم يستجب للتوقّعات، أو كان بابا دوّارا، لا ننفذ منه ولا نجوز إلى داخل؛ إلاّ بعنتٍ وصعوبة. ولمحمود عبارة دالّة ساقها في حوار له في مجلّة الشعراء الفلسطينيّة وهي على ما أذكر “من أجل جماليّة أقلّ”. وهي توكّد ما أنا بصدده.

وعلى أساس من هذه الإشارة، ندرك أنّ الأمر لا يتعلّق في كلّ النصوص بمجرّد “واقعيّة” ينشدها الشاعر أو الكاتب؛ وإنّما بالثمين أو الجميل الذي مداره على ما هو نادر، أو أنّ الجماليّة في النوع وليست في الكمّ. والشاعر أو الكاتب إنّما يطرح الكلام بعضه على بعض؛ حتّى يظفر بضالّته من الكتابة. ونحن وإن كنّا لا ننازع في أنّ كثيرا أو قليلا من مُشْتمَلاتِ أدبنا اليوم وموضوعاته، مستمدّ إلى حدّ كبير من البيئة الاجتماعية، فإنّ تأثير البيئة في تقديرنا، لا يبلغ عند الجميع أبعد من هذا المدى، ولا نخاله يصلح لتفسير هذا “التّهجين” اللغوي الذي يصدم ذائقة كثير منّا. ونحن نشاطر القائلين بأنّ بعض الصّيغ الشّعريّة وما تنطوي عليه من قدرة على الإيهام بالتّصديق والحمل عليه؛ كان من نتائجها أن قام أكثر النّقد عندنا، على المقاربة بين النصّ وما يذكره من وقائع وكائنات وأشياء، حتّى كادت “الجودة” تنحصر في “الإصابة” بإقامة أمثلة الأشياء مقام الأشياء نفسها.

تعيدنا مسألة الكتابة التوثيقيّة إلى السؤال المتجدّد: هل القضيّة قضيّة جنس أدبي أم هي أدبيّة جنس؟ والقول بالأدبيّة هو الذي يجعل لغة أقلّ “سموّا” مصدرا من مصادر الأدب، ويتيح للكاتب أو الشاعر أن يُسائل الكلام العاديّ وأن يستنبط منه فكرة أو موضوعا. ومن حقّ أيّ كاتب أن يستخدم “كلمات القبيلة أي كلمات معظم النّاس؛ ولكن شريطة أن يسلّط عليها ضوءا جديدا أو يجعلها تغتسل في ماء جديد.

لكن هل يعدو النصّ بهذه الصورة، أكثر من الورقة التي تمتصّ ضوء الماضي والمتخيّل المندثر أو “الخيال الطائف” الذي يتراءى في كلّ مكان وفي أكثر من زمان؟ ومن ثمّ يسهل رصد الأساليب المتعاودة، والوقوف على أثر الآخرين فيها، والتمييز بين “الواقعيّة” و”الشعبويّة” التي لا تنتج سوى “أدب الكيتش”. ونحن لا نسائل صاحب النصّ، فبيننا وبينه حجب كثيفة من الزمان والمكان؛ وإنّما النص الماثل للعيان. وهو نصّ يضعنا إزاء رؤية من رؤى العالم. ولعلّها “دينيّة” في جانب منها، وقد تكون “اجتماعيّة” أو “نفسيّة” أو “سياسيّة” في جانب آخر، وقد تكون “شعريّة” في جانبها الأغنى. وكلّ نصّ لا يمكن أن تؤخذ من حيث هي وثيقة أو تاريخ حياة وعصر وجيل، أو حتى تاريخ حالة أو اعتراف. إنّما هي شكل فنّي ينضوي إلى القول الشعري بالمعنى الواسع للكلمة، دون أن يسوق ذلك إلى القول إنّ صلتها بالحياة منقطعة أو تكاد، أو هي مفصولة عن المجتمع أو الإيديولوجيا. وهذا أدب، والأدب يظلّ تخيّرا نوعيّا من الحياة، على قدر ما يظلّ عملا تخييليّا؛ الأمر الذي يسوّغ قولهم “واقعيّة العمل التخييلي”؛ كلّما أذكى الكاتب الإيهام بالواقع، وكان لذلك أثره في القارئ؛ حتى لَيبدوَ التخييل أقلّ غرابة من الحقيقة وأكثر تمثيلا. والتمييز لا يقوم في الأدب بين واقع وتخييل، وإنّما بين مفاهيم عن الواقع مختلفة، وطرائق من التخييل متنوّعة. أمّا الأغرب في الكتابة التوثيقيّة فقول جون ستوكلاسا في مقدّمته، بما يشبه اليقين المطلق إنّ عمله الأدبي هو الذي سيجعل “لغز اغتيال أولاف بالمه يحلّ”.

* كاتب تونسي

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى