سياسة

“إعادة إعمار” ماذا؟/ سلام الكواكبي

 

 

تتكثّف الجهود الروسية في السعي الى زجّ الدول الغنية من الأطلسي الى الخليج، إضافة إلى المنظمات والحكومات الأوروبية، في مسار ما يسمى عملية “إعادة إعمار” سوريا. وفي هذا الإطار، تلعب الأمم المتحدة، والتي هي منظمة التمثيل فيها للحكومات، دوراً أساسياً في تفعيل هذا المسار على المستوى التحضيري في أقل تقدير. كما تسارع وكالات التنمية الحكومية في الدول الغربية الأساسية إلى تعزيز فرقها العاملة في الدول المجاورة لسوريا بانتظار اللحظة الحاسمة التي سيتم من خلالها إرسال هذه الفرق إلى أرض الواقع لمعاينة الاحتياجات وتقدير المساهمات.

وينحصر الكلام في هذا الملف على عملية إعادة إعمار ما دمّرته “الحرب” التي قادتها “مجموعات إرهابية تكفيرية” ضد بلاد كانت تنعم بالسلام والوئام والانسجام. وفي لقاء قريب، ذكرت خبيرة أممية وبالفم الملآن بأن المجتمع السوري كان “متماسكاً” قبل “الأزمة” والتي أتت على تماسكه وانسجامه و”فسيفسائه” ودمّرت قواعد العيش المشترك في جنباته. وبقولها هذا، فالخبيرة ذات الباع الطويل في إدارة ملفات الأزمات الصعبة، تقوم بإطلاق حكم ينمُّ من جهة إما عن جهل غير مستغرب من أصحاب المناصب الدولية فيما يتعلق بمناطق النزاعات التي يعملون عليها وفيها، وإما عن سوء طوية وتملّق لجهة ما تطالبها بمثل هذا التصنيف المغلوط من جهة أخرى.

من نافل القول إن المجتمع السوري، كما غيره من مكونات المشهد المحلي، كان ممسوكاً بقسوة وليس “متماسكاً” البتة.

وهو كان ممسوكاً، كما لم يزل، من عدد غير معروف بدقة من المؤسسات الأمنية المتداخلة بتنظيم متقن أضيفت اليها حالياً مجموعات عسكرية وسياسية من خارج الحدود. كما أنه كان، ولم يزل، رهينة لشبكة الفساد التي عرفت مبكراً المأسسة وفق أسس حديثة ومتطورة، وذلك كله بهدف إخضاعه إما خوفاً أو عبر الحاجة الاقتصادية. أما التماسك الوهمي الذي ما فتئت مجموعات داخلية وخارجية تتحدث عنه فهو كالسراب حيث لا يمكن له إلا أن يغشّ من يحبو في مجال السياسة والتحليل الاجتماعي. فمنذ مصادرة المشهد العام، مُنع عن الناس الدخول إلى حقل المواطنة ليبقوا محصورين في حقل الرعية، خاضعين لتسييره ومبتعدين عن الأخذ بأية مبادرة مهما كانت بسيطة ومهما انحصرت في مجالات بعيدة عن مجالات القرار والتخطيط والتنظيم للمجتمع المحلي.

وبمعزلٍ عن جهل الخبراء الدوليين والمحليين الرسميين أو تجاهلهم لواقع الملف والحقيقة القائمة على الأرض، فيمكن أن نلحظ بأن التجربة التاريخية قد طرحت نموذجين أساسيين من نماذج عمليات إعادة الإعمار مع تفريعات ثانوية لا يتسع المجال لاستعراضها قاطبةً.

النموذج الأول يكون أساساً في إطار إعادة إعمار مادي يتم إقراره من الجهة المحلية او الخارجية المسيطرة بالقوة على البلاد ومن خلالها يتم جلب الاستثمارات لتمويل المسار من دولٍ غنيةٍ وراضيةٍ عن المآل السياسي الذي تجري عملية إعادة الإعمار في كنفه. وأوضح ـ وأقبح ـ مثال يمكن أن يبلّور هذا النموذج نجده في مدينة غروزني الشيشانية والتي دمّرتها آلة الحرب الروسية عن بكرة أبيها لتعود آلة الفساد والمافيا الروسية والمحلية للاستثمار في عملية إعادة إعمارها بطريقة عشوائية جعلت منها “أمثولة” يتغنّى بها سفراء روسيا الاتحادية عند الحديث عن تجربتهم الواسعة وباعهم الطويل في هذا المجال الذي يمكن تلخيصه بالسؤال: “كيف تُعيد إعمار ما خرّبته أو ساهمت في خرابه بأعلى درجة من الربح ودون الأخذ بعين الاعتبار أياً من مسببات الأزمة أو أياً من آراء المعنيين المباشرين بها؟”.

أما النموذج الثاني من عمليات إعادة الإعمار، فمن الممكن أن تُمثّله التجربة الفرنسية والتي امتدت لعشر سنوات والتي احتاجتها فرنسا التي تحررت من النازية لإعادة إعمار ما دمّره النازيون والحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية.

وقد استندت هذه العملية على دراسات واسعة من قبل مجالس منتخبة ديمقراطيا وحكومة تُمثّل غالبية تطلعات مواطنيها بعيداً عن أي سعي الى إعادة توزيع السكان وتغيير التركيبة الديمغرافية أو حتى تعزيز شبكات الفساد.

إن إعادة الأعمار في ظل الأنظمة غير الديمقراطية تعني باختصار تنفيذ مخطط بناء مادي وتدمير معنوي يُضاف إلى القائم أساساً وحيث تسعى من خلاله الحكومات إلى إعادة تشكيل المشهد السكاني والاقتصادي بما يتلاءم مع تطلعاتها إلى تعزيز السيطرة كما الانتقام. أما في كنف الدول التي تحكمها أنظمة ديمقراطية، فإن عملية إعادة الإعمار تستهدف أولاً المواطن وتسعى إلى تلبية احتياجاته وتعتمد على مشاركته الفاعلة في التصوّر وفي التخطيط من خلال النقاشات العامة كما من خلال الاعتماد على استطلاع رأيه المستمر.

إن إعادة إعمار سوريا عملية معقدة لا تستند فقط إلى أرقام وأشكال بيانية ووصفات مستوردة وقليلاً من التعبيرات الإنكليزية لإغناء النقاش حولها. إنها تحتاج أساساً إلى العودة إلى ما قبل الخراب المادي والبحث في أسباب الدمار المعنوي الذي سبق بعيداً 2011 ويمكن له أن يرجع بنا إلى ستينات القرن المنصرم.

يخال لمن يتابع النقاشات الجارية في هذا الصدد بأننا نتحدث عن إعادة إعمار السويد بعد تعرضها لكارثة طبيعية لا سمح الله.

تلفزيون سوريا

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى