مراجعات كتب

حسان عباس يؤرخ للموسيقى التقليدية السورية.. وهي السياسة أيضاً/ علاء رشيدي

 

ا يوحي العنوان الذي يحمله كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا” (صدر عن منظمة اليونيسكو العام 2018)، للباحث حسان عباس، بمدى راهنية المواضيع السياسية والاجتماعية التي قد يحملها بين دفتيه. فبينما يمكن لكتاب بهذا العنوان أن يكون أقرب إلى الكتاب التوثيقي أو الثبت التعريفي أو الدليل الموجز، فإذا بالقارئ وعند اطلاعه على محتوى الكتاب، يجد نفسه أمام كم كبير من القضايا السياسية، الاجتماعية، والثقافية وحتى الاقتصادية الراهنة، استطاع المؤلف أن يتطرق إليها، أو يضمنها عند معالجة موضوعة الموسيقى.

لقد أطلقت اليونيسكو مشروعاً بعنوان الصون العاجل للتراث الثقافي السوري، الذي يهدف أساساً إلى المساهمة في إعادة الانصهار الاجتماعي والاستقرار والتنمية المستدامة من خلال حماية التراث الثقافي السوري وصونه من أعمال الدمار المستمرة والخسائر المتزايدة التي تطال تراث سوريا الغني. وفي إطار هذا المشروع، عقد في 13 أيار/مايو2016، في مقر اليونيسكو في باريس، يوم عمل حول الموسيقى التقليدية في سوريا، ضم مجموعة من الموسيقيين البارزين للتشاور في الأوضاع التي آلت إليها الموسيقى التقليدية السورية، ولتصور الإجراءات الملحة التي يجب اتخاذها بغاية صون هذه الموسيقى. وولدت فكرة هذا الكتاب من روح ذاك الاجتماع.

إن الغنى الهائل لموضوعة الكتاب تتضح أولاً عند استذكار العامل التاريخي، أي عند استحضار سلسلة الحضارات الإنسانية التي مرت على شرق المتوسط. فموضوعة الموسيقى في سوريا، تعود تجلياتها الأولى إلى حضارة ماري في الألف الثالث قبل الميلاد، وإلى تلك الحضارة تعود الاكتشافات الأثرية الأولى المتعلقة بالموسيقى وهو تمثال “المغنية الكبيرة أورنينا” من أوائل الأعمال النحتية التي تبين الإهتمام الثقافي في تلك المرحلة بموضوعة الغناء والموسيقى، ومن ثم برزت حضارة إيبلا 2400 – 2300 ق.م. ومن ثم أوغاريت عاصمة الكنعانيين التي تأسست في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد. وفي بدايات الألف الأول قبل الميلاد، غزا الآراميون القادمون من الشرق، بلاد ما بين النهرين سوريا، وأسسوا فيها عدداً من الممالك، خلال الفترة نفسها التي كان فيها الفينيقيون شعباً سامياً مستقراً كحضارة أهل البحر. ثم عرفت سوريا الحضارة اليونانية، ومن بعدها حكم الرومان، حيث برزت الحضارة المسيحية والتي حملت الكثير من التراتيل والألحان للموسيقى المتوسطية، إلى أن وصل العرب المسلمون إلى سوريا (633 – 634 م)، ونشأت الدولة الأموية، ومن بعدها أتت الدولة الفاطمية، السلاجقة، الأتابكة، الزنكيين، الصليبيين، ثم الأيوبيين والمماليك ثم العثمانيين، وصولاً إلى بداية القرن العشرين عند دخول قوات الثورة العربية إلى مدينة دمشق في خريف1918، لِيَليها دخول قوات الإنتداب الفرنسي العام 1920، إلى أن حصلت سوريا على استقلالها في أواسط القرن العشرين.

إن هذا التذكير التاريخي السريع بالحضارات التي مرت على الأرض السورية، يُمكِّننا من تخيل الغنى الفني والجمالي الموسيقي، وتنوع القوالب، الأنواع، والأساليب الغنائية والموسيقية التي يتطرق إليها الكتاب، فينقل إلى القارئ قصة فن عمره خمسة آلاف سنة، ومن ماري 3000ق.م. حتى الآن.

لكن، كما أوضحنا آنفاً، إن هذه الموضوعة التي تحمل بُعداً تاريخياً، تفتح الأفق أيضاً لمناقشة الكثير من القضايا الراهنة من باب الفن الغنائي والموسيقي لسوريا. فلننظر كيف أن مجرد التصنيف الذي يقترحه المؤلف حسان عباس، للموسيقى التقليدية في سوريا، مرتبط بشكل حتمي مع الموضوعات السياسية والاجتماعية الراهنة. فالتصنيف المقترح من قبل المؤلف يقوم على التقسيم التالي: الموسيقى الدينية، الموسيقى الإثنية، والموسيقى المرتبطة بالحياة الإجتماعية.

ففي الفصل المخصص للموسيقى الدينية، تنفتح أفق أسئلة الحاضر بمجرد التساؤل: ما حال الموسيقى المسيحية من سريانية، بيزنطية، وأرمنية في سورية اليوم؟ وأيضاً ما حال الموسيقى الإسلامية في البلاد التي عرفت تيارات إسلامية متنوعة الإيديولوجيات والرؤى السياسية والتجارب التشريعية، التي حرّم بعضُها الموسيقى مثلاً؟ هي أسئلة تمتد من تاريخ الموسيقى إلى حاضر البلاد السياسي والإجتماعي الآني.

كذلك الأمر حين التطرق إلى تصنيف “الموسيقى الإثنية في سوريا”، وهي كما يذكرها المؤلف: الموسيقى العربية، الموسيقى الكردية، الموسيقى الإيزيدية، الموسيقى الشركسية، والموسيقى الأرمنية. فها نحن نقرأ مثلاً في القسم المخصص للموسيقى الكردية، عن التحريم والمنع الذي طاول اللغة الكردية في تاريخ سوريا الحديث، لذلك نلحظ أن غالبية الكتّاب والشعراء الكرد يكتبون أعمالهم الفنية باللغة العربية. ورغم محاولات الكرد الحصول على مكتسبات ثقافية بعد استقلال سوريا العام 1946، ورغم محاولات الفنانين والموسيقيين الكرد المستمرة في العزف وأداء الأغاني باللغة الكردية الأم، فإن جهودهم ذهبت سدى، وهذا ما انعكس سلباً في تطور الموسيقى الكردية وانتشارها.

في الفصل المعنون “قوالب الغناء الشعبي” نطّلع على: الموال، العتابا، الميجانا، وما يقارب العشرين قالباً غنائياً غيرها، ورغم أن هذا الفصل قد يبدو للمتلقي، الأكثر التصاقاً بالمجال الغنائي الموسيقي البحت، إلا أننا نصادف مجدداً أبعاداً سياسية وثقافية. على سبيل المثال، في تلك الفقرات المخصصة لقالب الزجل، يبيّن المؤلف أسباب تراجع فن الزجل السوري، ويعزوها إلى سببين رئيسيين: الأول، أن فن الزجل لا يستخدم العربية الفصحى بل يعتمد بشكل حصري على اللهجات المحلية، وهذا ما لا ينسجم مع الإيديولوجية القومية العربية السائدة، فتركز الدعم على الشعر المكتوب بالفصحى، على حساب النتاجات الأدبية المعتمدة على اللهجات العامية. أما السبب الثاني، بحسب المؤلف، فيتعلق بأن المناظرات الزجلية تحتاج إلى هامش واسع من حرية التجمع وحرية التعبير، فجلسات الزجل لا تحتاج إلى تصريح لتُعقد، والأشعار التي تقال فيها تتميز بالصراحة والحرية. لكن، في العام 1963، أعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وبحسب أحكام الطوارئ، فإن أي تجمع أو أي كلام يُلقى أمام جَمع من المواطنين كان يتطلب ترخيصاً. بينما تطور الزجل اللبناني، مثلاً، ليصبح تعبيراً ثقافياً حياً، يزود اللبنانيين بروح من الهوية الثقافية والإنتماء، بحسب تعبير حسان عباس.

يَعِد الفصل المعنون “الموسيقى المرتبطة بالحياة الإجتماعية”، بالتعرف على الكثير من الطقوس، العادات والأعراف الإجتماعية في سوريا، عبر دراسة عنصر الغناء والموسيقى. فلدينا، في مجال أغاني المناسبات الإجتماعية: أغاني الأعراس، أناشيد الإستسقاء المتعلقة بالزراعة والجفاف، أغاني ألعاب الأطفال. وحين ينتقل الكتاب إلى “الموسيقى المرتبطة بالعمل”، يأخذنا الكتاب في جولة تكاد تكون ذات طابع اقتصادي عبر إطلاعنا على أغاني حصاد القمح، أغاني قطاف القطن، ومن ثم قطاف الزيتون، وصولاً إلى نداءات الباعة الجوالين في الأسواق التجارية. وهذه المحاور كلها، تُناقش في الكتاب على مستوى كامل الجغرافيا السورية، المتنوعة ثقافياً وزراعياً.

هكذا يتداخل السياسي، بالإجتماعي، والثقافي والفني، في كتاب عن الموسيقى التقليدية في سوريا،. ويخصص الكتاب الفصل الرابع لفن الرقص، فيذكر من أشهر الرقصات في تراث البلاد: رقصة الدبكة، رقص السماح، السيف والترس، رقصة ستي، والرقص العربي. أما الفصل الخامس والأخير، فمخصص لـ”صناعة الآلات الموسيقية التقليدية”، ومنها: العود، القانون، البزق، الناي، آلات الإيقاع، حيث يبين المؤلف كيفية صناعة هذه الآلات، شارحاً بالتفصيل طريقة تصنيع كل جزء منها، مستعيناً بحوارات ونصوص الخبراء والحِرفيين من صنّاع الآلات الموسيقية في سوريا. ومرة أخرى، نكتشف تراجع وتضرر قطاع صناعة الآلات الموسيقية في سوريا بسبب سنوات النزاع التي تعيشها البلاد، والعنف الأهلي، ما أدى إلى هجرة الصنّاع المهرة، وصعوبة الحصول على المواد اللازمة في صناعة الآلات، وصعوبة تصريف المنتج ووصوله إلى المستهلك.

والكتاب حافل وغني بالجوانب ذات الأبعاد الفنية المتوقعة من بحث بهذا العنوان. فالمؤلف يحرص على توضيح دقيق لأنواع السلالم الموسيقية، وأنواع وأساليب التدوين الموسيقي، وكذلك قوالب الغناء الشعبي وتقنياته.

أخيراً، نرفع الصوت إلى جانب التوصيات التي قدمها الباحثون والموسيقيون السوريون إثر لقائهم في ظل مشروع “الصون العاجل للتراث الموسيقي في سوريا”، حين استخلصوا عدداً من التوصيات الأساسية في هذا المجال، وهي:

– توفير الحق بالحركة والتنقل للموسيقيين والفنانين السوريين عبر العالم.

– تسجيل النتاجات الموسيقية لمختلف الثقافات الموجودة في سوريا، والبحث عن التسجيلات الموجودة حالياً، بهدف حفظها في مكان آمن.

– تأمين إمكانية تعليم الموسيقى التقليدية للأطفال واليافعين السوريين.

– إنشاء مدارس موسيقية بما في ذلك في مخيمات اللاجئين.

– تأسيس بنك معلومات للتسجيلات الموسيقية المتوافرة، وأيضاً لمشاغل صناعة الآلات وللموسيقيين المدربين وللمشاريع.

– بناء شبكة تجمَع الموسيقيين السوريين عبر العالم، وتربطهم ببعضهم البعض.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى