ثقافة وفكر

شبحٌ يحوم في أوروبا: نهوض اليسار «الشعبوي»/ محمد سامي الكيال

 

 

 

عرفت أوروبا كثيراً من «الأشباح» في تاريخها، إذا استعرنا تعبير ماركس وإنغلز في مطلع البيان الشيوعي، فبعد شبح الثورة الفرنسية، وانتفاضات التحديث السياسي والتوحيد القومي في منتصف القرن التاسع عشر، جاء شبح الشيوعية، ثم أشباح الفاشية والنازية، وأخيراً وليس آخراً شبح الانتفاضات الشبابية والطلابية في الستينيات والسبعينيات.

كلٌ من هذه «الأشباح» استطاعت أن تأتي بتغيرات سياسية وثقافية جذرية، ليس فقط على الصعيد الأوروبي، بل في كافة أرجاء العالم. اليوم يتحدث كثيرون عن شبح «الشعبوية»، اليمينية منها واليسارية، عقب الانتصارات التي حققتها الحركات والأحزاب اليمينية في إيطاليا والنمسا وفرنسا وإلى حد ما في ألمانيا، ليس بالضرورة عن طريق وصولها للسلطة، بل من خلال قدرتها على فرض مسائلها وبرامجها على أحزاب الوسط الليبرالي. ما نقل بؤرة الفعل السياسي بشكل واضح باتجاه أقل «انفتاحاً». اليسار «الشعبوي» بدوره لم يعد ظاهرة جنوب أوروبية، بل انتقل إلى بلدان الشمال الأغنى والأكثر ليبرالية. فأصبح سياسيون مثل جان لوك ميلانشون وهنري كوربين ظواهر لا يمكن تجاوزها.

إلا أن الركون إلى التوصيفات الإعلامية الرائجة، والبليدة إلى حد ما، مثل «شعبوي» و«يمين/ يسار» و«ليبرالي» لن يفيدنا كثيراً في فهم هذا الشبح الجديد، لأن خطوط الاصطفاف السياسي صارت أكثر تشابكاً وتعقيداً مما قد يتخيل البعض. والمسائل التي يدور حولها الصراع، وعلى رأسها الدولة الوطنية ودولة الرفاه وسياسات الهوية والنيوليبرالية والعولمة، تدفعنا لمحاولة إنتاج تعريفات جديدة لتحديد من يمكن وصفة بـ«الليبرالي» أو «الشعبوي».

الموجة الأولى من اليسار الأوروبي الجديد، التي تأثرت بنمط الحراك الذي أفرزه «الربيع العربي»، وانتجت حركات مثل بوديموس في إسبانيا وسيريزا في اليونان، انكسرت بعد فشل ناشطيها في تقديم بديل واضح، فبرامجهم العائمة وشعاراتهم العاطفية لم تكن قادرة على تحقيق التغيير المنشود، حتى بعد وصولهم إلى سدة الحكم. اليوم تظهر موجة جديدة من اليسار، متأثرة لحد كبير بجو المراجعات الثقافية والسياسية التي اعقبت نجاح ترامب في الانتخابات الأمريكية. ولعل حركة Aufstehen «النهوض» التي يجري التحضير لها في ألمانيا مثال واضح على هذه الموجة.

شهد حزب اليسار الألماني Die Linke صراعاً حاداً حول سياسة استقبال اللاجئين، انتهى بإقرار شعار «الحدود المفتوحة» بأغلبية ضئيلة. النتيجة كانت قيام زاهرا فاغنكناخت وزوجها أوسكار لافونتين، القياديين البارزين في الحزب، المناهضين لمبدأ الحدود المفتوحة، بالتحضير لتأسيس «حركة تجميع» تحت اسم «النهوض»، تدّعي أنها حركة عابرة للأحزاب، تريد جذب أعضاء الأحزاب اليسارية الذين يشعرون بخيبة أمل من سياسة أحزابهم، والمواطنين غير المتحزبيين، الإضافة لمن صوتوا لليمين الشعبوي «تصويتاً عقابياً»، أي بسبب احتجاجهم على سياسات أحزاب الوسط. يقول المؤسسون أن الحركة تملك من الآن، وقبل انطلاقها الرسمي في الرابع من أيلول/سيبتمر، 50 ألف مشارك. في حين أظهرت استطلاعات رأي أجرتها بعض الصحف أن ثلث الناخبين الألمان يتصورون إمكانية أعطاء أصواتهم لهذه الحركة الجديدة، رغم أن قانون الانتخابات الألماني لا يسمح بانتخاب حركات غير حزبية. قد يكون في هذه الأرقام مبالغة كبيرة، فالمشاركة عن طريق الأنترنت، واستطلاعات الرأي العابرة، ليست مقياساً لمعرفة العدد الفعلي لأنصار حركة ما، إلا أن ما لا يمكن إنكاره هو أن هذه الحركة تحظى باهتمام كبير ومفاجئ.

السمة المهمة للحركة هو اجتذابها لدائرة من المثقفين المؤثرين الذين يُحسبون على اليسار، وعلى رأسهم المسرحي براند شتيغمان، وأستاذ العلوم السياسية المعروف على الصعيد الدولي فولفغانغ شتريك، والكاتب يوجين روج، والممثل سباستيان شفارتز. وهي دائرة أصبحت مقربة من فاغنكناخت وتلعب دورا كبيراً في رسم توجهات الحركة. ينتقد أفرادها سياسات الهجرة الحالية بوصفها «افراغاً للدول النامية من فئتها الوسطى المتعلمة»، وضغطاً متزايداً على الفئات العاملة المحلية في التنافس على فرص العمل، وهو ما يعدونه من الآثار المدمرة لسياسات العولمة النيوليبرالية. ينتقدون أيضاً «الابتزاز الأخلاقي» التي تمارسه النخب المعولمة والقيود التي تفرضها على حرية التعبير، والتي تنقل المشاكل الاجتماعية إلى مستوى اللغة و«الاعتراف» بدلاً من معالجتها على الصعيد «الواقعي»، ويستنسخون حجج الكاتب الأمريكي مارك ليلا في نقد سياسات الهوية.

السمة المهمة الثانية للحركة، والتي تميزها بشكل واضح عن الموجة الاولى لليسار الجديد، أنها لا تنادي بأشكال مستحدثة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية، بل تريد «العودة» لدولة الرفاه التقليدية، ونموذجها الأساسي، في السياسة الداخلية والخارجية، هو عهد المستشار الألماني فيلي برانت، أول مستشار من الحزب الديمقراطي الاجتماعي. ويفخر مؤسسو الحركة اليوم أن نجله، المؤرخ المعروف بيتر برانت، أبدى تأييده لمشروعهم.

أطروحة العودة للدولة الوطنية التي تدعم الانتاج المحلي والعمالة الداخلية، ولسياسات دولة الرفاه، تجعل وصف هذا النوع من اليسار بـ«الشعبوية» إشكالياً. فإذا كان التعريف الأدق للشعبوية هو الخطاب الديماغوجي المتوجه للعامة، متجاوزاً المؤسسات الديمقراطية والدستورية والثقافية السائدة وناقداً لها، فإن المطالبة باستعادة مؤسسات الدولة الوطنية قد يكون النقيض المباشر للشعبوية، خاصة أن الديمقراطية ومؤسساتها لا وجود موضوعياً لها إلا داخل حيز محدد بحدود واضحة، له هيئته الناخبة ذات الإرادة السياسية، القادرة على فرض رقابتها على القرار السياسي والاجتماعي، من هذا المنطلق قد يكون بعض «الشعبويين» هم الليبراليون بالمعنى الكلاسيكي، في حين أن من يوصفون بـ«الليبراليين» اليوم هم من يمارسون ضرباً من «الشعبوية الأخلاقية» التي تتجاوز دوماً الإطار المؤسسي وتستهين به، لحساب مبادئ معولمة تفرضها كيانات عابرة للجنسية لا رقابة ديمقراطية عليها.

«الشعبوية» النيوليبرالية تتجسد أيضاً في التهديد الذي تشكله سياسات الهوية لمؤسسات الحداثة السياسية ذاتها، فعلى الصعيد الحقوقي تتعارض سياسات الهوية مع مبدأ المساواة أمام القانون وقيم المواطنة وحرية التعبير، وآثارها تبدو واضحة في الإعلام والحياة الأكاديمية والحزبية. وتشكل خطراً حتى على مبادئ التقاضي الأولية مثل «قرينة البراءة» (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، وصيانة التراث الإنساني الفني والثقافي، وهو ما يظهر بشكل مقلق مع حملات على غرار #metoo، وبعض التطورات في الجامعات والمتاحف والمؤسسات الثقافية الغربية، مثل الغاء المعارض والرقابة على السينما والأدب وإزالة اللوحات التاريخية من المتاحف ووضع تحذيرات على النصوص الأدبية القديمة والغاء تدريس بعض المفكرين والحقب التاريخية لأنها «تصدم حساسيات» بعض المجموعات.

وإذا كانت الصيغة الحالية للخطاب الليبرالي الجديد تحاول «أخلقة الاستهلاك» على حد تعبير المفكر الألماني فولفغانغ باوزر، أي جعل قيم أخلاقية معينة جانباً أساسياً من سياسات التسويق، وجزءاً مدمجاً في السلعة نفسها، كالمنتجات «الإيكولوجية» و«العضوية» والتجارة «العادلة». فإن هذه الأخلقة تتضمن الكثير من الشعبوية الموجهة لإراحة ضمير الفئات الوسطى، وتغطي واقع تدمير العمالة المحلية واستغلال العمالة في الخارج، في حين تبدو المطالبة بوضع انتاجي واستهلاكي أفضل لعموم المواطنين أكثر تطابقاً مع متطلبات الديمقراطية الممأسسة.

تبقى واقعية طرح «العودة» إلى رفاه الدولة الوطنية على المحك، وهي قد تكون المبرر الوحيد لوسم الموجة الثانية من اليسار الجديد بالشعبوية. فالتغيرات الإنتاجية والسياسية التي أسست للعولمة أشد عمقاً وترسخاً من أن يتم تجاوزها ببساطة. كما أن خطاب اليسار هذا قد يدعم الموقف «الوطني» لليمين الشعبوي. في مقارنة يجريها البعض مع الوضع في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. رغم ذلك فإن الميل المستجد نحو السياسات الحمائية، والحديث عن «حروب تجارية كبرى» بين الصين وأمريكا والإتحاد الأوروبي، قد يؤدي لتغيرات على المستوى العالمي لم تكن في الحسبان. كما أن صعود اليمين الشعبوي في هذا الظرف هو واقعة موضوعية لا تنتظر دعماً من أحد، وتجاهل الأسئلة الملحة التي يطرحها بات بحد ذاته ضرباً من «الشعبوية». بكل الأحوال الصراعات السياسية والاجتماعية تخاض هنا والآن، وهي لا تتبع أي مخطط حتمي أو نتيجة محدد سلفاً، وليست مجرد «تاريخ يكرر نفسه»، أو بالأصح يكرر التصورات المبسطة للبعض عنه.

ما يمكننا استنباطه فقط من هذه التطورات هو حقيقتان أساسيتان: الأولى هي أن عالم النيوليبرالية المنتصرة لفترة ما بعد الحرب الباردة قد ولى دون رجعة، وأصبح «عصراً ذهبياً» ضائعاً بالنسبة لأنصاره؛ الثانية أن قضايا الوطنية والدولة القومية والطبقة والصراع الاجتماعي عادت لتتصدر المشهد على حساب «السياسات الصغرى» التي بشّرت بها طويلاً نخب العولمة، بوصفها السردية السياسية الوحيدة الممكنة.

الخيار قد يكون بين ليبرالية كلاسيكية، تحاول استعادة قيم المواطنة والديمقراطية الوطنية، أو شعبوية هوياتية تفرغ المؤسسات من محتواها لحساب جماعات «عضوية»، و«مجموعات ثقافية» متصارعة، وأيضاً لحساب كيانات عابرة للجنسيات والديمقراطيات، تغمر مريديها بالسلع «الأخلاقية» والرطانة الهوياتية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى