ثقافة وفكر

شرقٌ ضدّ غرب… غربٌ ضدّ شرق/ حازم صاغية

 

 

 

تستعيد بعض البيئات النضاليّة مفهوم الشرق والغرب المتضادّين وتضعه مجدّداً في الواجهة. أحداث وتطوّرات كثيرة تُغري بذلك، في عدادها اللاجئون والمهاجرون من “الشرق” الذين “يدقّون أبواب الغرب”، فيما يتباهى “غربيّون” بأنّهم “يصدّونهم” ويحاولون “ردّهم على أعقابهم”. البوّابات الحدوديّة، في اليونان وإيطاليا وإسبانيا جنوباً، وفي هنغاريا والنمسا شرقاً، تعيد الاعتبار لـ “القلاع والحصون” التي ترسّم الحدود بين “شرق” و”غرب”. فالأوّل، في حسبة دعاة “الغرب”، لا يملك إلاّ الإرهاب سلعةً يصدّرها للآمنين، أو الهمجيّة، دينيّة وغير دينيّة، يقصف بها المتقدّمين. ومع الضربات التي نزلت مؤخّراً باقتصادَي إيران وتركيا، بينما يترنّح الاقتصاد المصريّ في ظلّ “المخلّص” السيسي، بدا للبعض أنّ “أمم الشرق الكبرى” مهدَّدة بالتجويع. الدور الأميركيّ في ذلك – من الانسحاب من الاتّفاق النووي وتجديد العقوبات على إيران إلى رفع الرسوم الجمركيّة على الصلب والألومينيوم التركيّين المُصدَّرين إلى أميركا – يوحي أنّ “الغرب” هو الذي يجوّع “الشرق”. هذا التأويل ينهل من تقليد عريق يردّ ثراء “الغرب” إلى “نهب” “العالم الثالث”، أي “الشرق”، بطرق شتّى. ولأنّ الأمر على هذا النحو سبق للماويّة أن ردّت بصوت يزمجر: “إنّ ريح الشرق تغلب ريح الغرب”. التأويل إيّاه يغتني اليوم بما يقوله الإيرانيّون والأتراك حول الاستعانة بالصين وروسيا على مصابهما ذي المصدر الأميركيّ. إذاً صرنا “أمماً شتّى ولكنّ العلى/ جمعتنا أمّةً يوم النِدا“، كما كتب ذات مرّة محمود حسن اسماعيل وغنّى محمّد عبد الوهاب.

بطبيعة الحال، وكما كان الأمر دائماً، تخون الرهافةُ والدقّةُ هذه التحليلات. ذاك أنّ إسرائيل الواقعة في “الشرق” “غربيّة” اقتصاداً وتعليماً وتنظيماً، بحيث لا يتوقّف العرب عن دعوتها إلى “الانتساب إلى المنطقة”. ولا يحول وقوع اليابان في أقصى الشرق الجغرافيّ دون “غربيّة” مشهود لها بها في سائر المجالات. وإذ يتبدّى زعيم “الغرب” دونالد ترامب “شرقيّاً جدّاً”، فإنّنا لن نكون بحاجة إلى الكثير من الأمثلة فيما نشاهد ترامب نفسه يشنّ على بلدان طاعنة في “الغربيّة”، ككندا ودول الاتّحاد الأوروبيّ، الحرب التجاريّة نفسها التي يشنّها على “الشرقيّين”. وهذا ناهيك عن أنّ المتشدّقين بـ “شرقيّة” روسيا اليوم تفوتهم تلك السعادة الغامرة التي عصفت بنُخب العالم الإسلاميّ في 1904، إثر الحرب التي تغلّبت فيها اليابان “الشرقيّة” على روسيا “الغربيّة”.

محذوفات هذا الوعي، مثل محفوظاته، كثيرة. فمن شروطه مثلاً عدم الانتباه إلى سيرورة نزع المسيحيّة في تاريخ الحداثة الأوروبيّة، بحيث يبقى “الغرب” صليبيّاً تتجدّد صليبيّته وتتّخذ أسماء شتّى. وسلوك كهذا ينطبق على كلّ تناقض داخليّ أكان عندنا أم عندهم، من دون أن يغيّر كثيراً في الأمر أنّ المنطقة العربيّة “الشرقيّة” انشقّت، مع ثوراتها، على نحو يجيز التساؤل عن كلّ “وحدة” جامعة فيها.

والحال أنّ “الشرقيّ” البحت و”الغربيّ” البحت بدآ منذ مئات السنين يكفّان عن صفائهما هذا. ويُخبرنا، مثلاً لا حصراً، روبرت إروين، صاحب الكتاب اللامع “معرفة خطِرة: الاستشراق ومعارضوه”، ما يشكّك بالتقديم السائد للاستشراق بوصفه عدواناً من “الغرب” على “الشرق”. ذاك أنّه، ومنذ وقت يرقى إلى القرن السادس عشر، ارتبط الموقف من الإسلام بنزاع دينيّ وأهليّ شقّ أوروبا نفسها. هكذا عثر مارتن لوثر، في نقاطه السجاليّة ضدّ البابويّة، على ما اعتبره قواسم مشتركة بينها وبين الإسلام، مؤكّداً أنّ الخطر على المسيحيّة الحقّة يتأتّى منه ومن الكاثوليكيّة سواء بسواء. مع هذا، ورغم التوسّع العثمانيّ المسلم في البلقان حينذاك، أصرّ المصلح البروتستانتيّ على أنّ فساد الكنيسة الكاثوليكيّة هو الخطر الأكبر. وفي المقابل، ذهب اللغويّ الفرنسيّ والكاثوليكيّ غيّوم بوستِل، الذي يعدّه إروين المستشرق الأوّل، إلى أنّ الإسلام والبروتستانتيّة وجهان لخطر واحد، علماً أنّه، هو الآخر، كانت تجتاحه المخاوف من توسّع السلطنة على حساب العالم المسيحيّ.

 

لا شكّ بأنّ هذا المفهوم الثنائيّ “شرق – غرب” أخرق بما فيه الكفاية، غير أنّ خَرَقه لا يُغني عن استرجاع العناصر الكثيرة التي تلحّ على بعثه إلى الوجود كلّما تراءى أنّ عالمنا بات أذكى وأعرف. فـ “الهويّة” تعيش لحظة قوّة تكاد تكون غنائيّة، فيما مُنشدها الأبرز، دونالد ترامب، يعطيها منصّة أعلى من المنصّات التي يوفّرها لها قادة كخامنئي أو نتانياهو أو إردوغان. وهويّة الشرق مقابل الغرب، أو العكس، صالحة أن تستوعب الهويّات جميعاً، أو في الحدّ الأدنى، أن تتعايش معها. فـ “الشرق” هو العروبة والإسلام وفلسطين، وهو، ذاتَ مرّة، الطبقة العاملة وسائر الكادحين، أمّا “الغرب” فهو الإمبرياليّة والصهيونيّة والنهب والاضطهاد. وقد تنقلب المعاني والصفات رأساً على عقب حين يكون الخطيب “غربيّاً” عنصريّاً أو شوفينيّاً متعالياً. وإذ حاولت الماركسيّة الأوروبيّة نقل الإشكاليّة إلى الاقتصاد والسياسة، فقد غلبها خليط من الشعبويّة وما بعد الكولونياليّة والنقد الثقافيّ، بعضه ينتسب إليها وبعضه يتاخمها. فحين حاول إدوارد سعيد أن يفنّد الماهويّة المنسوبة إلى “الشرق”، أضفى على “الغرب” ماهويّة ترجع في أصولها إلى اليونان القديمة. ولم يحل انتقال “النمور” و”التنانين” في آسيا إلى “مركز” (“غربيّ”) دون تثبيتها، على يد سمير أمين، “أطرافاً” (“شرقيّة”) تابعة لا حول لها ولا قوّة إلاّ إذا كسرت “حلقة التبعيّة”. وبلغات كثيرة ومناهج عدّة أعيدت صياغة العبارة الشهيرة لرديارد كيبلنغ، لتتحوّل على يد قائلها “الغربيّ” إلى صرخة عنصريّة ضدّ المساواة، لأنّ ما يصلح لـ “الغرب” لا يصلح لـ “الشرق”، وعلى يد قائلها “الشرقيّ” صرخةً ضدّ الحرّيّة، التي لا تمتّ بصلة إلى “خصوصيّة الشرق”. الأولى تنكر التعدّد ولا تريد الآخر إلاّ راضخاً ذليلاً لنموذجها. أمّا الثانية فتنكر، مسلّحةً بالنسبيّة الثقافيّة، المرجعيّات المشتركة لعالمنا الحديث لأنّها… “غربيّة”.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى