سياسة

سوريا: من خسر… ومن خسر أكثر/ سامر القرنشاوي

 

 

“انتصر الأسد”، هذا ما نسمعه. بحسب مصادر عدّة، عدد قتلى الحرب الأهلية ما بين 350 ألفاً والنصف مليون. المهجّرون خارج البلاد، وفق مفوّضية الأمم المتحدة العليا للاجئين، حوالى 6 ملايين، المُهَجّرون في الداخل السوري أكثر من 6 ملايين ونصف المليون، المصنّفون “في حاجة إلى المساعدة”، داخل البلاد أيضاً، يزيدون على 13 مليوناً بحسب المصدر نفسه. أين النصر في ذلك؟ وأي استقرار أو سلام بعد هذا الـ”نصر”؟ “الانتصار” هنا من صنف ما رأينا وسمعنا عبر السنوات السبع السود المنصرمة، بل وما سبقها وأدّى إليها، إذ هناك تقارير جديدة عن آلاف الوفيات بين المعتقلين، لا شيء نستغربه في هذا “الجديد”، كما لا جديد في صور مدنٍ سوّيت أحياء كاملة منها بالأرض تقريباً يعلن النظام أنه “حرّرها”.

عند النظام ومحازبيه، كل ما حصل لم يكن سوى مؤامرة خبيثة. الأسد ومن معه أبرياء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. البراميل المتفجّرة التي رأيناها أسقطت من طائرات دول معادية خبيثة لا يعلمها إلا الله، أو كان يحق لها السقوط فوق رؤوس الإرهابيين رجالاً وأطفالاً ونساءً وشيوخاً. الغازات السامّة قذفها العملاء من أصحاب الخوذ البيض. الأسد ومن معه ملائكة مجنّحون تعلوهم هالات يكاد نورها يعمي الأبصار؛ أعمى البصيرة فقط هو من لا يراها! ليكن، أين دور السلطة (من دون أن نسمّيها “دولة”، أو نذكر  تعابير بذيئة من صنف “حقوق الإنسان”، “الديمقراطية”، “الحريات”، “حكم القانون”، ناهيك بالحق في الحياة)؟ أليس من أولى مسؤوليات أي سلطة حفظ أرواح محكوميها وتأمين حيواتهم وممتلكاتهم؟

إن لم يكن الأسد ومن معه قتلة فهم فشلة؛ فشلٌ كارثي يجب أن يُحاسبوا عليه. لكن الواقع المفروض بسلاحٍ إيراني ثم روسي لا يقبل سوى بشار الأسد (محازبوه يهتفون: “للأبد”). بغض النظر عن الفشل الواضح أو الجرم الفاجر، ماذا بقي من حكم ابن الجنرال الراحل، المشهود له بالدهاء، حافظ الأسد؟ هل ابنه “بشار” فعلاً في السلطة؟ هل هو من يحكم؟ وهو المدين للجمهورية الإسلامية والاتحاد الروسي ببقائه إن لم يكن بحياته؟ وأنى لسلطةٍ بعد بحر الدم هذا، الاستمرار، من دون مسؤولٍ واحدٍ مُحاسب؟ ولو توريةً وإدعاءً؟ القهر وحده عرش الأسد، اللّهم إلا إذا جمعنا إليه الخوف من البديل الأسوأ. ما مدى استمرارية هذه “الشرعية السلبية” في بلٍد ثلثا أبنائه بين قتيلٍ ومهجّر؟

لم يخدم أي طرف بشار الأسد كما خدمه الإسلام السياسي السني.  سهلٌ أن تبدو الخيار الأفضل حينما يكون البديل عنك جبهة “النصرة” (القاعدة سابقاً) أو “داعش”، أو حين يكون رأي “المعتدلين” بين هؤلاء أن كل الشيعة، ناهيك بغيرهم من علويين ودروز، كفّار (كما قال أهم فقهاء الإخوان الشيخ يوسف القرضاوي ضمناً، وهو من أفنى عمره في التقريب بين المذاهب، حينما صرّح في خضم المأساة السورية بأن علماء المملكة العربية السعودية – الوهابيّين الذين يكفّرون الشيعة الاثناعشرية عادةً- كانوا دوماً على صوابٍ وكان هو على خطأ)، أو حينما تتقاتل فصائل من هؤلاء كما تقاتل النظام. عندما يكون هذا هو الخيار الآخر الوحيد الحقيقي، سواء بسعيٍ من النظام وتآمرٍ منه، أو بحكم الحجم الضخم نسبياً للإسلام السياسي على الأرض، يتلاشى الجهد المطلوب من حُكم آل الأسد لتحسين صورته، ناهيك بواقعه. مقارنةً بأتباع حسن البنا ومن خرج من عبائتهم (التي أنتجت الإسلام السياسي السني كله)، يبدو كل بديل أقل شراً، وقطعاً أقل غباءً. براميل الأسد المتفجّرة وغازاته ربما قتلت مئات الآلاف وشرّدت الملايين، لكن لم يكن طرفه هو من وثّق بصورة مشهدية القتل والذبح والحرق والصلب. أمام أعداء كهؤلاء، عيوبُك محاسن.

هشاشة الدولة- الأمة، وما يرافقها من غياب مشروع وطني جامع ودولة مواطنة حقيقية، كانت سبباً للثورة على النظام عند البعض سعياً لعلاجها؛ ودعوةً لاستبدالها بمشروع بديل عند البعض الآخر؛  لكنها بقيت مغنماً يستثمر فيه النظام. ما سوريا؟ من السوري؟ هل تتّفق سوريا مع الكيان العربي البعثي المزعوم (الذي لم يوجد إلا في الأحلام)؟ هل هي “غنيمة” العلوي (الظاهر حاكماً؛ طالما وافق آل الأسد طبعاً)؟ أم السني الشاعر بأنه مغلوب على أمره وأن “بلده” مسلوب منه (سواء كان ذلك دقيقاً على طول الخط أم لا)؟ أم أبناء الأقليات الأخرى؟ ليست مصادفة أن الشهور الأولى من الانتفاضة حملت شعارات غير طائفية، بل معادية لها أحياناً (مثلاً لا حصراً: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”). لكن بعد انزلاق الانتفاضة نحو العنف (عملية بدأها النظام)، وهيمنة الإسلام السياسي على الأرض، لوّنت الطائفية المشهد كله، مروراً بلغة كريهة معادية لغير السنة كما أسلفنا ووصولاً إلى شعارات عن مقدسات شيعية، ثم مبادلات كثيرة من هذا الصنف. الطريف أن النظام يدّعي أنه يحارب الطائفية، بينما لا هو ولا معارضوه الأثقل وزناً (الإسلام السياسي السني) يريدون مشروعاً وطنياً جامعاً، فبالنسبة إلى الأول الوطنية غطاء لتركيبة طائفية يلعب عليها، وبالنسبة إلى الأخير المواطنة والوطن والدولة الوطنية كلها مؤامرات على “أمّة الإسلام”؛ مهما ادّعوا غير ذلك مرحلياً. النقيضان وجهان لعملة واحدة.

لكن، أقل شراً من غيره أم لا، هل النظام الباقي في دمشق بديلٌ مستدام؟ بعد اعتماده على “حزب الله” اللبناني، قلب المقاومة بامتياز، أي ارتكاز للشرعية على الحرب المفتوحة أبداً مع “العدو الصهيوني” يبقى فعالاً؟ من أين أتى سكّان مخيّم اليرموك المُحاصرون شهوراً طويلة حتى مات منهم العشرات جوعاً؟ أي سراب هو هذا العداء مع إسرائيل. إضافة إلى واقع لم تطلق فيه رصاصة في الجولان المُحتلّ منذ عقود، لا يملك نظام البعث ولا غيره وسائل رأسمالية الدولة الغابرة (“الإشتراكية”) ولا تمويلها في وقتٍ البلد أحوج ما يكون إلى تدفّق الاستثمارات لإعادة الإعمار ولإحياء اقتصاد مدمّر يفترض فيه أن يستعيد الوطن السوري ملايين المُهجّرين. من سيستثمر في بلدٍ مقفر، مشهور بالفساد والقمع، سلطان القانون فيه ضعيف؟ ومع عودة النظام كما هو، من دون أدنى تغيير، أو اعتراف بالذنب، من دون أي استعداد للمساءلة، ما الذي سيدفع ملايين المهجّرين إلى العودة؟ أنى لأي شخص فيه شبهة المعارضة، بالأمان من نظام ذُبح تحت سمعه وبصره مئات الآلاف؟ حتى إن انضوى كثرٌ تحت راية النظام خوفاً من بدائل أسوأ، إلى متى يستمرّ ذلك من دون إعادة إعمار واستثمارات هائلة؟ الإجابة البديهية: ليس طويلاً.

“النصر” المزعوم ينمّ عن منطق سائد بعد “الربيع العربي” (الذي كان إلى الخريف أقرب): سنعيد التجربة ذاتها بالعناصر ذاتها، وننتظر نتائج مختلفة، أو باختصار شديد، سنلزم الغباء كما عرفه أينشتاين، سياسيّاً؛ هذا مقتضى “النصر” في سوريا ومغزاه. ما نجح قبل عقود ربما يفشل اليوم، فما بالك بما فشل بالفعل. لم ينتصر بشار الأسد، فقط خسر أقل من غيره، ومع خساراته الحالية والمقبلة قد تخسر سوريا، أو بالأحرى ما بقي منها، أكثر.

كاتب وأكاديمي مصري

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى