أبحاث

المسألة الكردية: الديناميات وآفاق الحل

 

 

محرر الملف: محمد عبد العاطي، باحث بمركز الجزيرة للدراسات

ليست المسألة الكردية مستجدة أو طارئة على هذه المنطقة بل هي منغرسة في تاريخها وجغرافيتها وديمغرافيتها لاسيما منذ إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط على ضوء ترتيبات سايكس-بيكو قبل مئة عام. وما يضفي على المسألة الكردية أهمية مضاعفة هو ما شهدته في السنوات الأخيرة من ديناميات مسَّت أغلب مكوناتها على اختلاف تجاربها ومساراتها. يمكن ملاحظة تلك الديناميات في العلاقات الكردية-الكردية سواء داخل العراق أو سوريا أو تركيا أو إيران. كما يمكن الوقوف عليها في أوضاع الكرد بالدول التي يعيشون فيها رغم اختلاف السياقات السياسية والاجتماعية والأمنية لكل بلد من البلدان المعنية.

ورغم عمق الروابط التي تجمع الأكراد وتنحت هويتهم المشتركة إلا أن توزعهم الجغرافي على عدة دول داخل المشرق وخارجه، جعل مسارات المسألة الكردية تختلف وتتعدد بتعدد البلدان التي ينتمون إليها. وإذا كان التفاوت في أوضاع الأكراد في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران يعود في وجه من وجوهه إلى اختلافات ديمغرافية وسياسية وأيديولوجية داخل المكونات الكردية ذاتها، إلا أنه يعود كذلك إلى اختلاف المقاربات التي تتبناها الدول المعنية إزاء المسألة الكردية.

لقد خضعت المسألة الكردية على مدى تاريخها إلى تدخلات ورهانات إقليمية ودولية تباينت بين الدعم والمساندة والتوظيف الذي يصل إلى حدِّ التلاعب ببعض مكونات الأكراد ومستقبلهم في المنطقة. وتزداد تلك التدخلات ويتسع نطاقها خاصة أثناء الأزمات والصراعات التي غالبًا ما تكشف عن هشاشة الكيانات الوطنية والمنظومات الإقليمية.

تعود المسألة الكردية إلى واجهة الأحداث بالتزامن مع ما يشهده العالم من توجه متزايد نحو انفجار الهويات الفرعية وصعود الحركات الانفصالية. ولا شك في أن الموقف الإقليمي والدولي الذي اصطدم به استفتاء كردستان في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2017، على سبيل المثال، والرافض كليًّا لاستقلال الإقليم، مثَّل نهاية مرحلة وبداية أخرى في أحد أكثر مسارات المسألة الكردية تقدمًا نحو تقرير المصير. ولكن التقلبات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والمفتوحة على كل الاحتمالات، ستحمل معها مزيدًا من الفرص ومزيدًا من التحديات وستدفع الأطراف المعنية إلى البحث عن مقاربات جديدة للمسألة الكردية، وهو ما يجعل التمعن في جذور هذه المسألة ومتابعة منعطفاتها بالدراسة والتحليل أمرًا لازمًا للمهتمين بمعادلات الشرق الأوسط وما يعتمل فيه من متغيرات.

ومن هنا، تأتي أهمية هذا الملف الذي عكس اهتمامًا مبكرًا من قِبَل مركز الجزيرة للدراسات بالمسألة الكردية، وفيه يجد القارئ عديد الأوراق التي قُدِّمت، على سبيل المثال، في الندوة التي انعقدت في الدوحة بعنوان “المسألة الكردية: دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية” خلال الفترة من 25-26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وشارك فيها نخبة من الخبراء والأكاديميين والسياسيين والمتخصصين بالشأن الكردي، والندوة التي حملت عنوان “المسألة الكردية في المشرق” وانتظمت جلساتها على مدى يومي 13-14 يناير/كانون الثاني 2013 بالدوحة.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض هذه الأوراق نحت منحى التقرير البحثي الذي تنطبق عليه الشروط الأكاديمية المعروفة، وبعضها غلب عليها وجهة نظر معدها والموقف السياسي الذي تبنَّاه وهو يُقدِّمها في الندوتين سابقتي الذكر. كما يجد القارئ في الملف أيضًا بعض الأوراق التي نشرها مركز الجزيرة للدراسات في أوقات ومناسبات مختلفة ولها أهمية في تبيان معالم المسألة الكردية من زوايا وخلفيات تزيد الصورة جلاءً والفهم تعمقًا.

 

———————

 

نحو مقاربة جديدة لحل المسألة الكردية/ عبد الباسط سيدا

 

مقدمة

 

لا يختلف واقع منطقتنا كثيرًا عمَّا كانت عليه الحال عبر مختلف المراحل التاريخية السالفة، القديمة منها والوسيطة والحديثة، فما فتئت هذه المنطقة تشهد صراعات بين القوى الإقليمية المتنفذة، ومحاولات هيمنة من جانب مجموعات سكانية بعينها على مجموعات أخرى مختلفة عنها عِرقًا ودينًا ومذهبًا، وقد ترتب على ذلك تبديد للطاقات وهدر للإمكانات، وتدمير للعمران، وتمزيق للمجتمعات، وحرمان من تراكم للثروات والخبرات أعاق نهضتها.

 

أما ما نشهده راهنًا فهو حصيلة تقاطعات وتداخلات بين مشاريع مختلفة، تتلاقى أهدافها المرحلية أحيانًا إلى حد التماهي، أو تتباعد إلى درجة التعارض والتناقض، مما يضيف تعقيدًا استثنائيًّا إلى المعقد أصلًا.

 

وفي العقد الأخير، بدأ التصادم بين المشاريع المعنية يأخذ طابعًا حادًّا بفعل إرث التاريخ من ناحية وبسبب الصراعات المفتوحة بين الشعوب المطالبة بمستقبل أفضل والأنظمة المتمسكة بهيمنتها وتحكُّمها من ناحية أخرى. أما الحصيلة المتمخضة عن تفاعل الجهود التغييرية، والأخرى المقابلة المحافظة، فهي تتشخص في الواقع المعيش الذي ترتسم ملامحه عبر اصطفافات واستقطابات، فضلًا عن تجاذبات تتعارض بدرجات متفاوتة وتتناقض مع مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية؛ الأمر الذي يثير الخوف من الحاضر، ويشكِّك في المستقبل؛ فيغدو الماضي رغم ما فيه من سلبيات هو المعيار والحكم؛ ويتكوَّر كل مكوِّن ديني أو عرقي أو مذهبي على ذاته، باحثًا عن مسارات الإنقاذ الخاصة به، بعيدًا عن الالتزامات تجاه الوطن وأهله، وبمعزل عن مقتضيات الشراكة في الحقوق والواجبات والمصير.

 

المسألة الكردية بين التاريخ والواقع

 

المسألة الكردية واحدة من أهم المسائل الكبرى وأكثرها تعقيدًا في منطقة الشرق الأوسط منذ نحو قرن كامل، وذلك استنادًا إلى حجمها ومدى تأثيرها وتداعياتها على المستوى الإقليمي؛ فضلًا عن المستويين الوطني والدولي. فهي تخص شعبًا أساسيًّا من شعوب المنطقة، يبلغ تعداده نحو 40 مليون نسمة، موزعين بصورة أساسية بين تركيا وإيران والعراق وسوريا. وقد تعرض هذا الشعب لظلم التاريخ والجغرافيا. فعلى الصعيد التاريخي، توافقت الإرادات الدولية مع الرغبات الإقليمية في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى على تقسيم كردستان (بلاد الكرد)، لتصبح موزعة بين أربع دول في المنطقة بعد أن كانت مقسمة قبل تلك الحرب بين دولتين، هما: الدولة العثمانية وإيران (1).

 

ورغم الوعود التي أُعطيت للكرد؛ وبخاصة في معاهدة سيفر، 10 أغسطس/آب 1920، التي تضمنت ما يمكن أن نسميه بخارطة طريق لمشروع دولة كردية مستقلة مركزها ولاية الموصل، إذا عبَّر الكرد عن رغبتهم في ذلك بموجب استفتاء كان من المفروض أن يُنظَّم وفق جدول زمني محدد (2)؛ فإن التطورات اللاحقة قطعت الطريق على ذلك. وجاءت اتفاقية لوزان، 24 يوليو/تموز 1923، لتتجاهل كليًّا البنود الخاصة بالكرد في معاهدة سيفر، وتحرص على حماية مصالح كل من بريطانيا وفرنسا في المقام الأول في كل من العراق وسوريا، وتراعي في الوقت ذاته مطالب تركيا في عهد مصطفى كمال الذي كان قد حقق انتصارات ميدانية على الأرض، لاسيما على اليونانيين. وكل ما بقي للكرد في المعاهدة المعنية هو التزام الحكومة التركية بأنها لن تميز بين مواطنيها على أساس الدين أو القومية أو اللغة (3). غير أن ما حصل هو أنه حتى هذه البنود ظلَّت حبرًا على ورق؛ وكانت السياسة القومية المعتمدة تركز على إلغاء الوجود القومي الكردي بمختلف الأشكال والأساليب، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية.

 

أما على الصعيد الجغرافي، فقد فَصَلَت الحدود بين الكرد في البلدان التي يعيشون فيها (تركيا، إيران، العراق، سوريا)، وجعلت عملية التواصل فيما بينهم صعبة؛ ما أدى إلى تفاوت لافت في مستويات التطور والنمو والوعي في سائر الميادين. وفرضت الدول المعنية على الكرد خططًا اقتصادية تنموية، تلبي احتياجات مراكز تلك الدول، ولا تعطي أي اعتبار لاحتياجات المناطق الكردية ضمن نطاق كل دولة بمفردها، وعلى صعيد إقامة العلاقات فيما بينها؛ الأمر الذي كان من شأنه -فيما لو تحقق- أن ينهض بها اقتصاديًّا عبر تأمين الكثير من مستلزمات النهوض بطرق أيسر، وكلفة أقل، وإنتاج أكثر.

 

وعلى الصعيد السياسي والمجتمعي؛ كانت المناطق الكردية في الدول المشار إليها هدفًا لسياسات التهميش والإهمال، والجهود المستمرة من أجل إلغاء الهوية الكردية عبر جملة من الإجراءات والقوانين التعسفية، وكانت اللغة من بين أكثر مقومات الهوية الكردية تأثرًا؛ إذ حوربت وفُرض على الكرد اللغات الرسمية في البلدان التي يعيشون فيها، ومُنعوا على مدى عقود من استخدام لغتهم في التعليم والنشر، كما منعوا من تأسيس مراكز البحث والمجامع اللغوية الخاصة بهم.

 

فالكرد قد خضعوا لاضطهاد مزدوج، تمثَّل في حرمانهم من حقوقهم القومية المشروعة؛ الثقافية والسياسية والإدارية والاجتماعية من جهة؛ وتعرضهم في الوقت ذاته لجملة من الحملات والإجراءات القمعية، والمشاريع التمييزية التي استهدفت وجودهم القومي في المقام الأول من جهة ثانية، ويُشار هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى أحداث دموية ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الكرد في الأنفال وحلبجة في العراق إبَّان حكم الرئيس صدام حسين وحزب البعث. والحملات التي شنَّتها القوات الإيرانية على المناطق الكردية خاصة بعد فتوى الإمام الخميني المعروفة ضد الكرد (4).

 

أما في تركيا، فقد تعرض الكرد لحملات قمعية في كل من ديرسم وديار بكر وبدليس وغيرها من المناطق (5)، واستمرت سياسة الإنكار والاضطهاد التركي للكرد في ظل الحكومات المتعاقبة، حتى بلغت ذروتها في مرحلة الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان إيفرين عام 1980(6)، غير أن العقلية الرسمية في تركيا بدأت بالتحول إلى حدٍّ ما على صعيد التعامل مع القضية الكردية إبان عهد الرئيس الراحل، تورجوت أوزال (1989- 1993). واستمر هذا التوجه في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية التي دخلت في مفاوضات مباشرة مع حزب العمال الكردستاني (7)، وذلك بهدف إيجاد حل للقضية الكردية. وقد اعتمد الحزب المذكور سياسة الانفتاح على الكرد عبر السماح بالفعاليات الثقافية والاجتماعية الكردية، وحتى السياسية منها، كما أقدم على فتح قناة تليفزيونية رسمية تبث برامجها باللغة الكردية، إلى جانب فتح الأقسام الكردية في العديد من الجامعات، وقد مهد ذلك كله السبيل لدخول حكومة العدالة والتنمية في مفاوضات مباشرة مع حزب العمال الكردستاني عبر زعيمه عبد الله أوجلان، ولكن لأسباب مختلفة تعثرت تلك المفاوضات، ثم توقفت، واندلعت المعارك مجددًا، ونحن نسمع كثيرًا من جانب حزب العمال الكردستاني أن الحكومة تتحمل المسؤولية؛ هذا في حين أن الوقائع والمعطيات تؤكد أن الحزب المذكور هو أيضًا يتحمل المسؤولية، ولكن الأمر الذي لا يطوله أي شك هو أن إطلاق العملية السلمية لحل القضية الكردية في تركيا على أسس عادلة سيكون في مصلحة الجميع في تركيا، كما سيكون أيضًا لصالح الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها(8).

 

أما في سوريا، فقد اعتمد حزب البعث منذ سيطرته على الحكم، عام 1963، سياسة ضد الكرد استهدفت وجودهم القومي بصورة مباشرة، نجم عنها مصادرة أراضيهم تحت شعار قانون الإصلاح الزراعي، وتجريدهم من الجنسية السورية بذريعة الإحصاء الاستثنائي 1962، وفرض على مناطقهم التعريب القسري الذي شمل أسماء المدن والقرى. كما أحدثت تلك السياسة تغييرات ديمغرافية وإدارية في المناطق الكردية التي تعرضت للإهمال والنهب حتى باتت تلك المناطق من أكثر مناطق سوريا تخلفًا، رغم كونها مصدر النفط والثروة الزراعية، لاسيما المحاصيل الاستراتيجية (9).

 

والأمر اللافت أكثر من غيره، هو أن الدول الأربع التي تتقاسم كردستان فيما بينها، قد التزمت التنسيق الأمني العسكري المشترك من أجل مواجهة ما تعتبره خطرًا كرديًّا لابد من التصدي له، ولعل النسخة الأخيرة لمثل هذا التنسيق تجسدت فيما تعرضت له منطقة كركوك، في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، حينما سيطرت الحكومة المركزية في بغداد على تلك المنطقة.

 

وقد ولَّد كل ذلك مظلومية كردية، أسهمت السياسة الإنكارية المستمرة في تعميقها وتعميمها؛ الأمر الذي ترتب عليه الكثير من التوتر والتشنج والتشدد، مما عرقل الجهود العقلانية الرامية إلى مناقشة القضية من كل جوانبها بصورة متأنية، بغية الوصول إلى حل يرضي الجميع، ليتحول الكرد إلى جسر للتواصل بين الجميع، وذلك عوضًا عن أن يكونوا موضوعًا للشك والتوجس، والدعوة إلى التيقظ والتصدي لخطرهم بصورة دائمة.

 

وقد شهدت المرحلة التي أعقبت إسقاط نظام حكم الرئيس صدام حسين نقلة جديدة على صعيد القضية الكردية في العراق، وذلك بعد أن تحول الكرد إلى فاعل أساسي ضمن عملية إعادة بناء الدولة العراقية الجديدة؛ وقد ساعدهم على ذلك واقع شبه الاستقلال الذي عاشوه منذ نهاية حرب الخليج الأولى عام 1991(10)، فضلًا عن أن الدستور العراقي الذي تم إقراره عبر استفتاء شعبي نصَّ على أن العراق دولة اتحادية/فيدرالية؛ وتم بيان حدود إقليم كردستان، وبقيت مناطق أخرى موضوعًا للأخذ والرد من قبل سلطات الإقليم وسلطات بغداد، وتمثَّل المخرج في اعتماد مصطلح المناطق المتنازع عليها(11)، وكان التوافق على آلية محددة لحل الإشكاليات الخاصة بها، وذلك بموجب المادة 140 من الدستور التي لم تنفذ، ولم تكن هناك أية بوادر توحي بالرغبة في تنفيذها(12). وما ترتب على ذلك تجسد في حالة من عدم الثقة والتوتر بين بغداد وأربيل، وهي الحال التي ترسخت، وزاد ضغطها على صنَّاع القرار في المركز والإقليم؛ الأمر الذي أدى إلى ضائقة اقتصادية في الإقليم نتيجة قطع الميزانية من جانب المركز. ومع فقدان الثقة بين الطرفين، لاسيما بعد احتلال تنظيم “الدولة الإسلامية” للموصل، وإقدامه بعد ذلك على مهاجمة المناطق المتنازع عليها، وبروز مؤشرات تؤكد وجود خطط لمهاجمة الإقليم نفسه؛ قررت القيادة الكردستانية إجراء استفتاء عام على مستوى سكان الإقليم بهدف إبداء الرأي حول موضوع الاستقلال. ولسنا هنا بصدد الدخول في تفاصيل ما حدث، ولا مناقشة مدى مشروعية ما حدث، أو مشروعية الإجراءات الانتقامية الردعية التي اتخذتها حكومة بغداد لاحقًا ضد الإقليم. وإنما ما نود أن نتوقف عنده هو أن الموضوع في مجمله أكد أهمية أخذ البُعد الإقليمي للقضية الكردية بعين الاعتبار. فقد كان هناك موقف واضح رافض من جانب كل من تركيا وإيران والعراق لموضوع الاستفتاء (13). ولم يتوقف الأمر عند حدِّ إعلان المواقف، بل ظهرت بوادر تنسيق عسكري، وجهد مشترك في سبيل تطويق نتائج الاستفتاء، والمطالبة بإلغائه، واعتباره كأنه لم يكن (14).

 

وبالتناغم مع هذا الموقف الإقليمي الرافض لفكرة الاستفتاء، كان هناك موقف دولي عام مطالب بالتأجيل، تمثَّل في البيان الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص (15). وما يستنتج من كل ذلك، هو أن للقضية الكردية في المنطقة أبعادًا ثلاثة، يؤثِّر الواحد منها في الآخر، ولا يمكن التعامل مع أحدها بمعزل عن الآخر.

 

آفاق الحل

 

المدقق في واقع منطقتنا الراهن بغية البحث عن الأسباب الجوهرية لحالة عدم الاستقرار التي تعيشها منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا، يتبيَّن له أن السبب الأساس يتمثَّل في عدم الاعتراف الضمني والصريح من جانب المكونات المجتمعية لدول المنطقة بالحدود السياسية التي رُسمت بناء على اتفاقيات بين الدول الاستعمارية المنتصرة من ناحية، وتلك التي كانت قد خسرت الحرب من ناحية ثانية. وقد تجسد عدم الاعتراف هذا في مشاريع أيديولوجية عدة، منها ما تمحور حول القومية، وأخرى حول الدين وحول المذهب. ولم تتمكن دول المنطقة من بناء مشاريع وطنية تُطَمْئِن سائر مكوناتها، ولذلك كان النزوع المستمر نحو مشاريع حالمة عابرة للحدود. وفي أوقات الأزمات كان التشدد والنزوع نحو التقوقع على الذات، والالتحاف بولاءات ما قبل وطنية، أملًا في الحصول على قسط من الطمأنينة.

 

وبالتوافق مع ذلك، نرى أن كل الصراعات التي كانت، أو تلك المستمرة راهنًا، سواء بين القوى الإقليمية، أم في داخل كل دولة، إنما باعثها في المقام الأول هو عدم الثقة، والتوجس من نزعات الهيمنة والتفرد. هذا إلى جانب تداخل وتفاعل هذه الصراعات مع المصالح الاستراتيجية للقوى الدولية، تلك القوى التي تعتبر منطقتنا واحدة من المناطق المهمة بالنسبة لها.

 

والمخرج من كل ذلك يتمثل في الدولة الوطنية المدنية الحيادية إيجابيًّا أمام جميع مكوناتها؛ فلا تكون دولة قومية أو دينية، بل تكون دولة عادلة، تحترم سائر القوميات والأديان والمذاهب والتوجهات على قاعدة الاعتراف بالخصوصيات والحقوق، ومن دون أي تمييز أو تحزب لصالح هذه الجهة أو تلك.

 

إن من شأن دولة كهذه أن تتمكن من طَمْأَنَة مكوناتها أولًا، وجيرانها ثانية، وألا تكون ميدانًا للتدخلات الخارجية؛ بل تكون مستعدة لبناء علاقات إيجابية مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي على أساس المصالح المتبادلة، والعمل المشترك من أجل إنجاز مهام التنمية، وتأمين فرص التعليم والعمل للأجيال الشابة؛ الأمر الذي سيقطع الطريق على النزعات العدمية التدميرية التي تظهر بأشكال مختلفة. والمدخل المؤدي إلى كل ذلك، هو تعزيز التفاهم والتواصل والحوار بين الجميع بغية الوصول إلى قواسم مشتركة يُبنى عليها.

 

وانسجامًا مع ما تقدم، نرى أهمية انطلاق الحوار العربي-الكردي بين الأكاديميين والنخب السياسية(16)، ونحن اليوم بحاجة إلى حوارات مشابهة تركية-كردية، وإيرانية-كردية، وحوارات شاملة بين النخب الفكرية والسياسية وبناة الرأي العام لسائر شعوب المنطقة، وذلك لمعرفة الهواجس، والقطع مع الأحكام المسبقة، والتوافق على قواسم مشتركة تكون أساسًا لحلول إبداعية للمسألة الكردية، انطلاقًا من خصوصيتها في كل دولة من دول المنطقة، ذلك لأن ثمة تباينًا لافتًا من جهة الحجم، والتداخل السكاني، والموقع والتوزع الجغرافي، والفعالية السياسية، والمستوى الاقتصادي، وغير ذلك من العوامل التي تشكِّل بتفاعلها حالة مشخصة على صعيد كل وضعية، حالة تستوجب حلًّا يتناسب مع طبيعتها، وذلك ضمن إطار الدولة التي تضمها، شرط وجود مشروع عام على المستوى الوطني يطمئن سائر المكونات عبر دستور عادل يبدد الهواجس، ويسهم في تحسين شروط العيش المشترك، وبناء على ذلك يكون الشكل الإداري الذي يُعتمد لمختلف المناطق الكردية في الدول المعنية منسجمًا مع خصوصية كل بلد، ويمكن الاستفادة في هذا المجال من التجارب المماثلة، إلا أن الوضعية المُشخصة تبقى هي المرجعية الرئيسة في اعتماد أية صيغة إدارية.

وتبقى طبيعة العلاقات بين أجزاء كردستان، أو المناطق الكردية في كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا؛ فالحدود بين هذه المناطق لا يمكن أن تكون كالحدود القائمة بين الدول، وإنما لابد من أخذ واقع الصلات المشتركة بعين الاعتبار، تلك الصلات التي تتجسد في المشتركات اللغوية والثقافية والمجتمعية والاقتصادية وغيرها. وبناء على ذلك، يمكننا التفكير في مشروع رابطة أو جامعة كردية، تكون إطارًا لعلاقات ثقافية أكاديمية، وفنية، واقتصادية، ومجتمعية…إلخ، تشارك فيها الدول المعنية بالمسألة الكردية، وتكون راعية لها، لتتحول المسألة الكردية في المنطقة من قضية خلافية، وخطر لابد من مواجهته والتصدي له باستمرار، إلى جسر للتواصل بين الجميع، ومحور لجهود متكاملة تستهدف ترسيخ الأمن والاستقرار، وذلك كمقدمة لجهود متكاملة، تنهض بالمنطقة لصالح جميع شعوبها ودولها.

ولتعزيز إجراءات الثقة، والمحافظة على استمراريتها، تبرز الحاجة إلى اعتماد آلية لحل الخلافات التي ستكون حول المناطق غير المتفق عليها، أو حول ماهية الصلاحيات وحدودها، وحول طبيعة التدخلات من جانب السلطة المركزية، على أن تُعتمد مثل هذه الآلية من قبل محاكم إدارية-دستورية، يتم تشكيلها بالتوافق، مع مراعاة معايير صارمة في ميدان الكفاءة والاستقلالية والنزاهة.

خاتمة

بقي أن نقول: المسألة الكردية هي واحدة من أكثر المسائل تعقيدًا في منطقتنا، ولن يكون من السهل الوصول إلى توافقات بشأنها عبر المجاملات الخاوية من مضمون واقعي. فما نحتاج إليه قبل كل شيء هو متابعة اللقاءات والحوارات، حتى نصل إلى توافقات حول إجراءات ملموسة، تبدد المخاوف، وتفتح الطريق أمام مقاربة جديدة للمسألة. مقاربة تقطع مع المنظومات الأيديولوجية التي كانت فاعلة حتى الآن، منظومات قومية أو مذهبية متشددة، واعتماد منظومة وطنية قادرة على طمأنة الجميع، وإشراكهم الفاعل في عملية إعادة بناء النسيج المجتمعي الوطني والصروح العمرانية في دولنا ومجتمعاتنا المنكوبة.

إن الطريق الأصح لتجاوز الوضعية غير السوية التي نعاني منها جميعًا يستوجب التحرر من أوهام الأحكام المسبقة، والتحاور بعقل وقلب مفتوحين؛ تحاور لا ينفي الاختلاف ولا يحتكر الامتيازات، بل يفتح الآفاق أمام تفاهم فعلي، وتعايش خلَّاق من شأنه تجاوز مثالب الماضي، والتمهيد لجهد مستقبلي، يكون في صالح شعوب المنطقة جميعها؛ لأن الحصيلة الإيجابية للاستقرار والتمازج الحضاري ستكون ملكًا إقليميًّا عامًّا، خاصة في عالم اليوم الذي من أبرز سماته التقاطع والتواصل بين الداخل والخارج. ومن أجل بلوغ مستوى يتناسب مع طبيعة المهام والتحديات، لابد من تضافر جهود المثقفين والسياسيين من أبناء شعوب المنطقة في إطار حوار مستمر بنَّاء، لا يتخذ من المناسباتية حيزًا له، ولا من الشعاراتية وسيلة لتبادل التهم وإثارة المخاوف.

*عبد الباسط سيدا، كاتب وسياسي سوري، رئيس المجلس الوطني السوري سابقًا.

مراجع

* قُدِّمت هذه الورقة في ندوة “المسألة الكردية: دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية” التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة يومي 25 و26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، والتي شارك فيها باحثون ومفكرون من بلدان وتيارات فكرية مختلفة.

(1)  MacDowell, David, A Modern History of the Kurds, (I.B. Tauris, London,  2000, 2nd ed)

(2)  Natalie, Denise, The Kurds and the State: Evolving National Identity in Iraq, Turkey and Iran (Syracuse University Press, Syracuse, New York, 2005).

وانظر أيضًا: كاكه بي، مهدي، “تاريخ تقسيم كوردستان بدءًا من معركة جالديران وانتهاءً باتفاقية لوزان”، 20 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://www.diroka-kurdi.com/2016/05/blog-post_20.html

(3)  “Treaty of Peace with Turkey” Signed at Sévres, 10 August 1920, (Visited on 1 October 2017):http://treaties.fco.gov.uk/docs/pdf/1920/ts0011.pdf

وللمزيد، انظر أيضًا: العلياوي، عبد الله محمد علي، “جذور المشكلة الكردية”، الجزيرة نت، 23 مايو/أيار 2006، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/2KXMKr2

(4)  “تجربة النضال المسلح في كردستان إيران وآفاقه”، المركز الكردي السويدي للدراسات، 15 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/2BfYu8J

(5)  “Treaty of Peace with Turkey and other Instruments” Signed at Lausanne on 24 July 1923, (Visited on 16 October 2017):

http://treaties.fco.gov.uk/docs/pdf/1923/ts0016-1.pdf

(6)   حول هذا الموضوع راجع: مصري، أحمد، “الأكراد بين أتاتورك وأردوغان.. ما الذي تغيَّر؟”، موقع تركيا بوست، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 15 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

http://www.turkey-post.net/p-88119/

(7)    للمزيد حول هذا الموضوع، راجع:

Fraser, Suzan, “Kenan Evren: General who led the 1980 military Coup in Turkey that ended years of conflict but resulted in brutal suppression”, Independent, 11 May 2015, (Visited on 1 October 2017):

https://ind.pn/2nHpKU5

(8)    انظر: باركي، هنري وآخرون، القضية الكردية في تركيا، ترجمة فال، هه، (مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، أربيل، 2007). وشمت، خالد: “هل قتل عسكر تركيا تورغوت أوزال؟”، الجزيرة نت، 26 سبتمبر/أيلول 2012، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/2Bg1P7L

وكذلك: أوسي، هوشنك، “تورغوت أوزال الذي تناساه الأتراك”، الحياة، 26 أبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/8785741/

(9)   راجع: خولي، معمر فيصل، “المسألة الكردية في تركيا من الإنكار إلى الاعتراف”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 20 يونيو/حزيران 2014، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

المسألة الكردية في تركيا: من الإنكار إلى الاعتراف

وكذلك: الحاج، سعيد، “المشكلة الكردية في تركيا بين التصعيد والحل”، الجزيرة نت، 19 أبريل/نيسان 2016، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/22NcPLC

(10)   انظر: سيدا، عبد الباسط، “الوجود الكردي في سورية تاريخيًّا واجتماعيًّا”، مجلة قلمون للدراسات والأبحاث الفكرية والاجتماعية والسياسية، (العدد 2، أغسطس/آب 2017)، ص 35-60. وأيضًا: أوسي، هوشنك، “الحياة المدنية والسياسية الكردية في سورية بين عامي 1808 و2017″، المرجع السابق، ص 61- 102. وانظر كذلك: عبد الفتاح، دحام، “لغة الكرد السوريين ومجالهم الثقافي”، المرجع السابق، ص 137- 154.

(11)  راجع:

Yildiz, Kerim, The Kurds in Iraq: The Past, Present and Future, (Pluto press, 2007).

(12)  انظر: “المناطق المتنازع عليها بالعراق”، الجزيرة نت، 17 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/2PdQmsw

(13)   انظر: “مضمون المادة 140 من الدستور العراقي”، الجزيرة نت، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/2KWLR2b

(14)  راجع تعليق أردوغان على تصريحات البارزاني بشأن استفتاء كردستان في: الجزيرة نت، بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

https://bit.ly/2MPzeaW

(15)  حول بيان مجلس الأمن الدولي بشأن استفتاء إقليم كوردستان، انظر: موقع روداو، 22 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

http://www.rudaw.net/arabic/world/22092017

(16)   يُشار في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر إلى: الندوة التي نظمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية في الدوحة، 13-14 يناير/كانون الثاني 2013.

http://studies.aljazeera.net/ar/events/2012/12/2012122772038205773.html

وندوة: حوار عربي كردي حول القضية الكردية في سورية التي نظمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في برلين 13-14 أغسطس/آب 2016.https://harmoon.org/archives/1504

ومؤتمر العرب والكرد: المصالح والمخاوف والمشتركات، الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة 29 أبريل/نيسان- 1 مايو/أيار 2017.

https://www.dohainstitute.org/ar/News/Pages/ACRPS_Conference_on_ArabKurdish_Relations_Opens_in_Doha.aspx

 

———————

 

الواقع السياسي الكردي والتأثيرات الإقليمية والدولية/ د. مهند سلوم

 

الواقع السياسي الكردي في الشرق الأوسط*

 

يتمثَّل الواقع السياسي الكردي الحالي في الشرق الأوسط بالأحزاب البارزة التي تأسس أغلبها خلال القرن الماضي بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر. حيث جاءت هذه الأحزاب لتعبِّر عن شعور كردي بالظلم يَنظر إلى التسويات السياسية التي أُبرمت بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، مثل اتفاقية سايكس-بيكو واتفاقية لوزان على أنها تسويات تمت على حساب حقوق الشعب الكردي القومية والسياسية والثقافية (1).

 

هذا الشعور بالمظلومية يشكِّل الأساس الفكري لأغلب الحركات السياسية الكردية التي ترفع شعارات تنادي باستعادة وحماية حقوق الشعب الكردي. بعض هذه الأحزاب يطالب بإعلان دول كردية مستقلة على المستوى القُطري في كل من تركيا والعراق وإيران وسوريا والسعي مستقبلًا لخلق ما يسمى بدولة كردستان الكبرى لتوحيد أوصال الشعب الكردي التي قطعها الاستعمار (2). وتتباين أهداف وطموحات هذه الأحزاب بحسب الزمان والمكان والمرحلة السياسية التي يمر بها المكون العِرقي الكردي في هذه البلدان الأربعة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن من بين أبرز الأحزاب السياسية الكردية في الشرق الأوسط: حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني وحزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، إضافة إلى أحزاب أخرى تدور في فلك الأحزاب الكبيرة.

 

في أحد اللقاءات المشهورة، قال الرئيس العراقي الراحل، جلال الطالباني: “كردستان وطن جميل في قصائد الشعراء”(3). بالفعل الأحزاب الكردية الحالية تتخذ من حلم بناء الدولة الكردية المستقلة شعارًا لها تؤمن به وتعمل بشكل مبدئي على تحقيقه. لكن هذا الشعار يمثِّل أيضًا مصدر شرعية مهمًّا لهذه الأحزاب لأنه يخاطب الروح الوطنية القومية للشعوب الكردية في المنطقة ويجمعها تحت سقف قضية مشتركة. في الوقت ذاته، من الواضح أن أغلب هذه الأحزاب تعي أن “حلم الدولة الكردية المستقلة” صعب التحقيق على الأقل في الحقبة التاريخية الراهنة.

 

أما بالنسبة لحكومات كل من العراق وتركيا وإيران وسوريا، فتمثل المسألة الكردية مصدر قلق لها، لأنها تهدد بشكل مباشر وحدة أراضي هذه الدول وتتحدى سيادتها الداخلية مما تسبب بصراع مزمن بين حكومات هذه الدول والأحزاب الكردية الفاعلة. هذا الصراع بين الحكومات المركزية والمكون العرقي الكردي مستمر منذ عقود تزداد وتخف حدته بحسب قوة أو ضعف الحكومات المركزية في هذه الدول مقابل قوة وتماسك القوى والأحزاب الكردية الفاعلة ومدى تلقيها للدعم الإقليمي والدولي حيث يتم استغلال القضية الكردية من قبل فاعلين دوليين وإقليميين لتحقيق مكاسب سياسية أو للضغط على حكومات هذه الدول الأربعة (4). على سبيل المثال لا الحصر، استغلت إيران القضية الكردية في العراق لممارسة الضغط على الحكومة العراقية خلال سبعينات القرن الماضي مما اضطر حكومة العراق إلى عقد اتفاقية الجزائر التي تم عمليًّا إلغاؤها من قبل العراق قبيل الحرب العراقية-الإيرانية (1988-1980) (5). مثال آخر، احتضنت الحكومة السورية عناصر من حزب العمال الكردستاني في ثمانينات القرن الماضي أملًا في توظيفهم لاحقًا كورقة ضغط إقليمية بيد نظام الأسد مما أدى إلى أزمة سياسية حادة كادت أن تتسبب بصدام مسلح بين تركيا وسوريا (6).

 

شهدت المسألة الكردية تحولًا كبيرًا منذ الاحتلال الأميركي للعراق، سنة 2003، واندلاع الثورة السورية، في 2011، في أعقاب الثورات الشعبية في بلدان عربية مختلفة أو ما يسمى بالربيع العربي حيث تمكنت الأحزاب الكردية من تحقيق تقدم كبير على المستويين العسكري والسياسي بمساعدة الفاعل الدولي متمثلًا بالولايات المتحدة وحلفائها إضافة إلى العامل الإقليمي الذي تعامل مع تمكن الكرد سياسيًّا وعسكريًّا في العراق وسوريا على أنه أمر واقع مرحلي. فمنذ فرْض الولايات المتحدة الأميركية حظر الطيران فوق المناطق ذات الأغلبية الكردية في العراق ووضْع هذه المناطق تحت إدارة الامم المتحدة في عام 1992، تمكنت الأحزاب الكردية البارزة بقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) والديمقراطي الكردستاني (KDP) من بناء هيكل سياسي قادر على إدارة الإقليم الكردي شمال العراق (7). هذا الأساس السياسي والاقتصادي ساعدا على تطور دور الأحزاب الكردية العراقية في الحكم بشكل كبير بعد عام 2003(8) حيث تسلمت قيادات كردية مناصب سياسية عليا في الدولة العراقية الجديدة، أبرزها: منصب رئيس الجمهورية بعد اختيار الزعيم العراقي الكردي الراحل، جلال الطالباني، سنة 2005، رئيسًا للعراق، ومنصب وزير الخارجية بعد اختيار هوشيار الزيباري ممثلًا لسياسة العراق الخارجية خلال الفترة بين 2003-2014(9). وفي سنة 2005، أعلنت الأحزاب الكردية البارزة إنشاء حكومة إقليم كردستان العراق التي ضمت أغلب الأحزاب الكردية الفاعلة بعدما كان للإقليم عاصمتان: أربيل والسليمانية. كذلك تضمَّن هذا الإعلان كتابة مسودة دستور الإقليم والعمل على إجراء انتخابات ديمقراطية برلمانية لانتخاب رئيس وزراء للإقليم الكردي في العراق (10).

 

تمكنت حكومات إقليم كردستان المتعاقبة من تحقيق إنجازات كبيرة على المستويين الاقتصادي، من حيث البنى التحتية وتحسين دخل الفرد، وعلى المستوى السياسي الدبلوماسي، من حيث العلاقة بحكومة بغداد المركزية وعلاقات حكومة الإقليم على المستوى الدولي دبلوماسيًّا (11). هذا التقدم السياسي والاقتصادي واجه التحدي الأكبر بعد استفتاء الاستقلال الذي أجرته حكومة إقليم كردستان، في 25 سبتمبر/أيلول 2017، حيث فرضت حكومة بغداد المركزية عقوبات اقتصادية وسياسية واسعة على حكومة الإقليم تسببت بشل الحركة الاقتصادية في الإقليم وإضعاف الإقليم سياسيًّا بعد استعادة بغداد للمناطق المتنازع عليها من خلال تحريك قطع الجيش العراقي والقوات المساندة لها مثل ميليشيات الحشد الشعبي وقوات مكافحة الإرهاب (12).

 

بالمقابل، تمكنت الأحزاب الكردية في سوريا من استغلال اندلاع الثورة السورية، سنة 2011، لترتيب صفها الداخلي والمشاركة في الثورة ضمن الأحزاب المعارضة في المناطق ذات الغالبية الكردية والمناطق المشتركة حيث برز كل من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب كأكثر التنظيمات السياسية الكردية قوة وتمثيلًا على الأرض (13). ومع ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” وبداية الحرب الدولية ضده، تمكنت هذه الأحزاب من الحصول على دعم دولي كبير على المستويين العسكري والسياسي كونها في طليعة القوات التي تحارب ضد هذا التنظيم (14). قبل سنوات قليلة من اندلاع الثورة السورية وظهور تنظيم الدولة، لم يكن أحد يتصور دعم الدول الغربية لهذه الأحزاب الكردية بسبب ارتباطاتها بحزب العمال الكردستاني (التركي) الذي تدرجه تركيا وعدة دول أوروبية على قوائم الإرهاب. وهنا يمكن القول: إن الأحزاب الكردية في سوريا ليست بمستوى التقدم السياسي والاقتصادي الذي تتمتع به نظيراتها في العراق (15). لكن التقدم الذي حققته الأحزاب الكردية في سوريا خلال السنوات القليلة الماضية يمثِّل نقلة نوعية في تاريخ العمل الكردي السياسي في سوريا. مع فشل جهود حكومة إقليم كردستان في تحقيق الاستقلال في العراق والتبعات السلبية التي لحقت بالإقليم بسبب إجراء الاستفتاء وتخلي الدول الغربية عن دعم حكومة إقليم كردستان العراق قبل وبعد إجراء الاستفتاء، تبقى علامات الاستفهام مطروحة تجاه مستقبل الأحزاب الكردية في سوريا ومدى التزام الفاعل الدولي بدعم هذه الأحزاب بعد هزيمة تنظيم الدولة عسكريًّا.

 

في سياق متصل، تشكو الأحزاب الكردية في إيران من التهميش السياسي والثقافي والبطش الأمني في المناطق ذات الغالبية الكردية (16)، لكن الوضع بشكل عام مستقر في مناطق كردستان إيران والسبب الرئيس هو قوة الحكومة الإيرانية المركزية أمنيًّا واستقرارها سياسيًّا واقتصاديًّا بشكل نسبي (17). أما في تركيا، فالوضع الكردي غير مستقر منذ عقود بسبب الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية خصوصًا بعد فشل عملية السلام التي أُعلنت في عام 2012 واعتقال أغلب القيادات الكردية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادتها عناصر تركية معارضة لحكومة حزب العدالة الحاكم بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان (18). لكن الحكومة التركية تتمتع باستقرار أمني وعسكري نسبي يتيح لها التعامل بشكل فاعل مع نشاطات حزب العمال المسلحة والمحافظة على استقرار المناطق ذات الغالبية الكردية في جنوب وجنوب شرق تركيا.

 

تمر منطقة الشرق الأوسط حاليًّا بتحولات سياسية كبيرة أغلبها مترابط يؤثر بعضها في البعض الآخر وهي بنفس الوقت مقدمات لظهور نظام شرق أوسطي جديد يعيد تعريف أدوار الفاعلين الإقليميين في مرحلة ما بعد الحروب بالوكالة وما يسمى بـ”الحرب الكونية على الإرهاب”. من المتوقع أن يستمر الفاعلان، الدولي والإقليمي، في تسليط الأضواء على المسألة الكردية في المرحلة المقبلة كونها جزءًا أساسيًّا من عملية استقرار المنطقة. وبنفس الوقت تشير المعطيات إلى استمرار صراع المحاور الذي يستغل الخطاب الطائفي كأداة تعبئة سياسية داخلية وذريعة لخلق مساحات توسع استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

 

حلم الدولة الكردية واستفتاء استقلال إقليم كردستان العراق

 

يختلف أكراد العراق عن أشقائهم في الدول المجاورة من حيث الظروف السياسية الداخلية والتنظيم الحزبي والدعم الدولي الذي يعتمد بشكل كبير على مصالح الدول الكبرى، مثل: أميركا وبريطانيا وروسيا والصين. وجود أو غياب الدعم الدولي إضافة إلى مدى استقرار الوضع الداخلي السياسي عوامل تؤثر بشكل مباشر على طبيعة المكتسبات الداخلية للأحزاب السياسية الكردية وطريقة عملها (19). فمثلًا حزب العمال الكردستاني في تركيا وحليفه الفكري -وحدات حماية الشعب في سوريا وحزب الاتحاد الديمقراطي- أصولها الفكرية ماركسية شيوعية تنظر إلى النضال المسلح على أنه الطريق الأقرب لتحقيق الأهداف السياسية لهذه الأحزاب والحركات المسلحة (20). بينما حزبا الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني العراقيان تأقلما مع الفكر (السياسي) الرأسمالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية من أجل الحصول على دعم دولي أكبر للمسألة الكردية وتحديث نظام الحكم في كردستان العراق بما يتماشى مع النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (21). بالمقابل، بعد انطلاق الثورة السورية وبروز تنظيم الدولة، تغير الموقف الدولي لصالح دعم الأحزاب الكردية السورية لكن لحد الآن يبدو أن هذا الدعم مرحلي مرهون بمصالح أمنية ضيقة لا يمكن اعتباره دعمًا مبدئيًّا للأحزاب الكردية البارزة في سوريا.

 

بشكل عام، تبرز الحركات الكردية الانفصالية عندما تضعف سلطة الحكومات المركزية في دولها (22). هنا، أستثني تجربة حزب العمال الكردستاني في تركيا لأنها مستمرة منذ عقود بغض النظر عن ضعف أو قوة الحكومة التركية لأسباب تتعلق بواقع الأكراد داخل تركيا وطبيعة أنظمة الحكم المتعاقبة في تركيا. فبينما توجد أحزاب كردية في إيران مشابهة للأحزاب الكردية في العراق من حيث الفكر والتنظيم، لم تتمكن هذه الأحزاب من تحقيق أي تقدم ملموس من حيث المكتسبات السياسية أو القومية خلال العقود الماضية رغم أن أول تجربة استقلال كردية كانت جمهورية “مهاباد” التي أُعلنت في كردستان إيران عام 1946(23). هنالك أسباب عديدة تقف وراء تأخر الأحزاب الكردية في إيران عن نظيراتها في العراق وتركيا وسوريا ألا وهي القوة النسبية التي تتمتع بها الحكومة الإيرانية منذ تسلم قائد الثورة الإسلامية الراحل، روح الله الخميني، قيادة إيران في عام 1979 وضعف التنظيم الداخلي للأحزاب الكردية في إيران إضافة إلى أن إيران تنتهج سياسات داخلية تعترف ببعض حقوق الكرد الثقافية ناهيك عن تقديمها مستوى مقبولًا من التسهيلات الاقتصادية والخدمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية في إيران (24). لهذا، تجد الأحزاب الكردية في إيران أنه من الصعب تحشيد الشارع الكردي للانتفاض ضد حكومة إيران المركزية.

 

تتمتع الأحزاب الكردية في العراق بالتنظيم والقدرة على جذب الدعم الداخلي والدولي بشكل أكبر من نظيراتها في تركيا وسوريا وإيران؛ وهذا يعود إلى أسباب كثيرة، منها: توفر الظروف المناسبة مثل غياب الاستقرار الداخلي في العراق بسبب الحروب واجتياح العراق للكويت والاحتلال الأميركي، عام 2003، إضافة إلى الدعم الدولي المباشر الذي تلقته الأحزاب الكردية في العراق بسبب تقارب مصالح الدول العظمى مع مصالح هذه الأحزاب في مراحل معينة من المواجهة السياسية والعسكرية بين أنظمة الحكم في العراق والدول الكبرى (25). بالإضافة إلى براغماتية هذه الأحزاب في علاقاتها مع دول الجوار حيث تتمتع الأحزاب الكردية بعلاقات جيدة مع حكومات إيران وتركيا رغم التقلبات التي شهدتها هذه العلاقات. بعكس الأحزاب الكردية في تركيا وإيران التي لا تتمتع بعلاقات قوية مع حكومات المنطقة وليس لها دعم كبير. لكن هذه العلاقات بدأت “تتحسن” تدريجيًّا بسبب حروب الوكالة الإيرانية السعودية في سوريا والعراق والضغط الأميركي/الإسرائيلي على النظام السياسي الإيراني خلال الأعوام القليلة الماضية. ما زالت آثار هذا التغير في العلاقات ما بين بعض دول المنطقة والدول العظمى وبين المجاميع السياسية المسلحة الكردية في إيران وتركيا، غير واضحة لحد الآن. ظاهر الأمر أن القوى الكردية في سوريا وإيران ما زالت في موقف تفاوضي ضعيف؛ حيث إن القوى الكردية في سوريا رجعت إلى طاولة المفاوضات مع الأسد تحت مظلة الحكومة المركزية، والقوى الكردية الإيرانية لم تتمكن من تحقيق أي من أهدافها المعلنة (26).

 

تتميز الأحزاب الكردية العراقية بالتنظيم والبراغماتية السياسية والتمثيل الداخلي القوي وعلاقاتها بدول الجوار والدعم الدولي المبني على المصالح المتبادلة مما مهد الطريق أمام الأحزاب الكردية العراقية للتفكير بالاستقلال عن العراق في حال توفر الظروف السياسية والاقتصادية المناسبة. لكن المعطيات المتوفرة تشير إلى أن استفتاء الاستقلال الذي أجرته حكومة إقليم كردستان العراق في سبتمبر/أيلول 2017 لم يكن هدفه الرئيس تحقيق حلم الدولة الكردية المستقلة -على الأقل في المرحلة الحالية-. وكان هذا جليًّا من خلال قراءة تصريحات المسؤولين الأكراد قبيل الاستفتاء وحقيقة أن رئيس الإقليم السابق، السيد مسعود البارزاني، خاطب الشعب الكردي عشية الاستفتاء بينما يظهر العلم العراقي خلفه جنبًا إلى جنب العلم الكردي في إشارة إلى أن الاستفتاء لا يهدف، على الأقل في المرحلة الحالية، إلى تحقيق الاستقلال لكنه ربما يكون خطوة بهذا الاتجاه (27). من خلال دراسة البيانات المتوفرة قبل وبعد الاستفتاء يتبيَّن لنا أن الهدف الرئيس وراء إجراء استفتاء الاستقلال كان المحافظة على مكتسبات الإقليم مثل اللامركزية شبه المستقلة في الحكم إضافة إلى المحافظة على الأراضي التي سيطرت عليها حكومة الإقليم من دون الدخول في متاهات المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بمعالجة قضايا الأراضي المتنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد. إضافة إلى أسباب داخلية تتعلق بالصراع الداخلي بين الأحزاب الكردية المختلفة على تقاسم السلطة وموضوع رئاسة الإقليم (28).

 

تشير تصريحات حكومة إقليم كردستان العراق قبيل إجراء الاستفتاء والحوارات مع المسؤولين الكرد إلى أن حكومة الإقليم أرادت التلويح بإمكانية إعلان استقلال إقليم كردستان العراق للضغط على الحكومة المركزية في بغداد من أجل تقديم تنازلات سياسية تعزز (مكتسبات الكرد) قبل وبعد ظهور تنظيم الدولة، في يونيو/حزيران 2014، خصوصًا أن لدى حكومة الإقليم مخاوف حقيقية من أطماع التوسع التي تخطط لها قوات ميليشيات الحشد الشعبي والأحزاب التي تساندها في بغداد بعد هزيمة تنظيم الدولة. لكن الاستفتاء لم يحقق أهدافه، بالعكس تسبب الاستفتاء بخسائر كبيرة للإقليم على المستويين السياسي والاقتصادي (29). وهنالك عدة أسباب أدت إلى فشل جهود حكومة إقليم كردستان العراق للضغط على الحكومة المركزية في بغداد:

 

عوامل داخلية: تراكم السياسات المحلية الخاطئة لحكومة الإقليم والتي وصلت ذروتها عندما تم طرد رئيس برلمان إقليم كردستان وبعض الوزراء مما تسبب بتعليق أعمال البرلمان في سنة 2015. كذلك وجود فساد إداري على مستوى المسؤولين في الأحزاب الرئيسة تأخرت معالجته مما أسهم في إضعاف الجبهة الداخلية الكردية.

 

الرفض الأميركي لتوقيت وحيثيات إجراء الاستفتاء؛ حيث كانت لدى الحكومة الأميركية مخاوف من ازدياد النفوذ الكردي في العراق بدرجة تهدد مصالح دول الجوار مثل إيران وتركيا. إن إمكانية حصول الإقليم الكردي على نفوذ شبه مستقل يمكن أن يعطي ذريعة لهذه الدول لأن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر لحماية أمنها القومي؛ وبالتالي تخلق عدم استقرار يهدد مصالح أميركا في المنطقة في المرحلة الحالية.

 

استعادة القوات العراقية لمحافظة كركوك وانسحاب القوات الكردية منها من دون مواجهات عسكرية كبرى جاء بمباركة وتنسيق أميركي مباشر مع الحكومة في بغداد وحلفائها في طهران وله أسباب عديدة، على رأسها رغبة الفاعل الدولي -وخصوصًا الأميركي- بتعزيز الهوية الوطنية العراقية وتعزيز صورة الحكومة المركزية على أنها من هزم تنظيم الدولة وحافظ على وحدة العراق من خلال إجبار الإقليم الكردي على إلغاء نتائج الاستفتاء الذي أجرته حكومة الإقليم. وهذا يتماشى مع سياسة الإدارة الأميركية المعلنة التي تهدف إلى تحجيم نفوذ إيران في العراق.

 

الرفض الإقليمي الواسع لاستفتاء استقلال إقليم كردستان؛ حيث لم تدعم أية دولة إقليمية هذا الاستفتاء عدا الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة. وكان للرفض الإقليمي أسباب كثيرة لكن يضاف له أن حكومة الإقليم لم تتواصل بشكل فاعل وجدي مع حكومات المنطقة للتعريف بالقادم الدولي الجديد -تحديدًا الدولة الكردية التي يعتزم أكراد العراق إعلانها-. وهذا مؤشر آخر على أن حكومة إقليم كردستان لم تُجْرِ الاستفتاء من أجل الاستقلال بل من أجل تحقيق أهداف سياسية داخلية على مستوى الإقليم وعلى مستوى العلاقة مع الحكومة المركزية في بغداد.

 

بعد رفض الرئيس السابق لحكومة إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، التمديد لولايته، وقيامه بتوزيع صلاحياته كرئيس على الرئاسات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، قررت حكومة الإقليم برئاسة نيجيرفان بارزاني تجميد نتائج الاستفتاء واحترام قرار المحكمة الدستورية العراقية الذي أفتى بأن استفتاء استقلال كردستان غير دستوري وبالنتيجة غير شرعي ويعتبر لاغيًا من الناحية القانونية، رحبت كل من الحكومتين الأميركية والبريطانية بهذه الخطوات وصرح مكتب رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بأنه يرحب باحترام حكومة الإقليم لقرار المحكمة الدستورية العراقية(30).

 

الخطوة المتوقعة القادمة هي عقد مفاوضات بين حكومة الإقليم في كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد للاتفاق على إعادة تعريف العلاقة بين الإقليم والحكومة المركزية على كل المستويات. من المتوقع أن تركز المفاوضات على قسمين أساسيين: الأول: هو الاتفاق على صلاحيات الإقليم الإدارية والمناطق والسلطات السيادية التي سوف تكون ضمن إدارة مشتركة. القسم الثاني: هو الاتفاق على آلية واضحة لها جدول تطبيق زمني محدد لتسوية موضوع المناطق المتنازع عليها كما نص عليها الدستور العراقي في مواده ذات العلاقة.

 

تعتمد نتائج هذه المفاوضات على عدة عوامل منها الضامن الدولي للاتفاقات التي تنتج عن هذه المفاوضات والصفقات السياسية التي يمكن أن تُعقَد بشكل سري وعلني للاتفاق على تشكيل الحكومة العراقية. بشكل عام، بينما ظاهر الأمر أن الأكراد في العراق خسروا الكثير من الأراضي والصلاحيات الإدارية اللامركزية، فإن الحقيقة أن نتيجة ما حدث في كركوك والمناطق المتنازع عليها لم تظهر بعد. فربما يسترجع الإقليم السيطرة على بعض المناطق المتنازع عليها كجزء من صفقة سياسية مع الفاعل السياسي الشيعي الذي يمثِّل الديمغرافية الانتخابية الأكبر في العراق. كذلك يمكن سنُّ قوانين تعطي شرعية لصلاحيات إدارية يتمتع بها الإقليم لم تكن مسنونة بقوانين من قبل. مدى نجاح حكومة إقليم كردستان العراق في المفاوضات يعتمد بشكل كبير على توحد جبهتها الداخلية ومعالجة مشاكلها الهيكلية السياسية والاقتصادية التي على رأسها الفساد الإداري والمحسوبية في منح المناصب الحكومية.

 

الآفاق المستقبلية للمسألة الكردية في الشرق الأوسط

 

المسألة الكردية في الشرق الأوسط تتفاعل مع الواقع السياسي والأمني غير المستقر في محيطها؛ حيث يسعى الأكراد بشكل عام إلى المحافظة على هويتهم وحقوقهم الكردية ويبقى حلم الدولة الكردية المستقلة حاضرًا في أدبيات الذاكرة السياسية الكردية. المعطيات تشير إلى أن الشعوب الكردية في بلدانها سوف تسعى إلى المطالبة بأشكال مختلفة للحكم الذاتي اللامركزي خصوصًا في سوريا وتركيا وإيران بينما تسعى الأحزاب الكردية في العراق إلى المحافظة على حكمها الذاتي بشكله الحالي وتعزيز مكتسباتها السياسية والاقتصادية ضمن عراق اتحادي (31).

 

فبينما يستمر الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، ينتظر أكراد تركيا حلًّا سياسيًّا يجلب الاستقرار الأمني والاقتصادي في المناطق ذات الأغلبية الكردية في جنوب وجنوب شرق تركيا. تشير القراءة الواقعية للوضع السياسي والأمني التركي إلى أن الأرضية السياسية والاجتماعية لحل المسألة الكردية غير متوفرة حاليًّا. فمن جهة، يستهدف مقاتلو حزب العمال الكردستاني قوات الأمن التركية ومن يتعاون معها من أكراد تركيا بعمليات عسكرية على طريقة حرب العصابات، إضافة إلى عمليات التفجير والهجمات التي يشنها مقاتلو حزب العمال الكردستاني داخل المدن التركية لاستهداف قوات الأمن التركي والمدنيين. من جهة أخرى، تستمر حالة الطوارئ الأمنية التي أعلنتها الحكومة التركية، والتي تتضمن نشر قوات الجيش التركي في المناطق ذات الأغلبية الكردية في جنوب وجنوب شرق تركيا وشن هجمات خارج الحدود التركية بين الحين والآخر خصوصًا داخل الأراضي العراقية. كل هذا يجري في ظل فشل عملية السلام التي تم الإعلان عنها في سنة 2012 وغياب أية مبادرات سلام جديدة يمكن أن تجلب الاستقرار لتركيا (32).

 

رغم تعدد أسمائها، متابعة نشاطات هذه الأحزاب داخل إيران تشير إلى أن الأحزاب الكردية بمرحلة يمكن وصفها بأضعف مراحل النشاط الكردي السياسي في كردستان إيران. بينما تنشط الأحزاب الكردية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران وحزب الحياة الحرة الكردستاني إعلاميًّا، لا تتمتع هذه الأحزاب بوجود ملموس على الأرض بشكل يمكِّنها من ممارسة أي من أنواع الضغط السياسي على الحكومة الإيرانية (33)؛ حيث إن مقرات هذه الأحزاب إما سرية في المناطق الحدودية الوعرة أو داخل إقليم كردستان العراق أو موجودة في العالم الرقمي الافتراضي. هذا لا يعني بالطبع أن الوضع الأمني والسياسي مستقر في المدن الإيرانية ذات الغالبية الكردية. تشن الأذرع المسلحة لهذه الأحزاب هجمات تستهدف قوات الأمن الإيرانية والجيش بين الحين والآخر لكن هذه الهجمات تكون على نطاق محدود لا يمكن اعتباره مواجهة عسكرية كردية مسلحة يمكن مقارنتها بما يحدث في تركيا على سبيل المثال. من هنا، يمكن استنتاج أن المسألة الكردية في إيران لن تشهد تطورات كبيرة في المستقبل القريب إلا في حال دخول إيران في صراع مسلح مع الفاعل الدولي أو أحد الفاعلين الإقليميين -وهذا غير مرجح على الأقل في المستقبل القريب-.

 

الوضع مختلف في سوريا؛ حيث تنشط الأحزاب الكردية داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا من خلال المشاركة في الحرب ضد التنظيمات الإسلامية المتشددة مثل تنظيم الدولة والفصائل المتطرفة الأخرى، إضافة إلى دورها وعلاقاتها مع جبهات المعارضة السورية وحرصها على المشاركة في المفاوضات الدولية لحل الصراع السوري وتأمين دورها في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع المسلح في سوريا. فقد تمكنت الأحزاب الكردية السورية من إنشاء إقليم سياسي شبه مستقل وإدارة سياسية عسكرية منظمة بالتعاون مع أطراف داخلية وخارجية إقليمية ودولية. هناك أسئلة كثيرة بشأن مستقبل الأحزاب الكردية في سوريا خصوصًا بعد ما حدث من تخلٍّ دولي عن حكومة إقليم كردستان قبيل وبعد إجراء استفتاء استقلال كردستان. لكن يمكن القول: إن الأحزاب السياسية الكردية تمكنت من تنظيم نفسها بدرجة كبيرة تؤهلها للمشاركة في هيكل الحكم في سوريا سواء على المستوى المحلي اللامركزي أو المشاركة في أي شكل آخر للحكم في سوريا مستقبلًا. من غير المرجح أن يعود أكراد سوريا إلى وضعهم السياسي المهمش قبل اندلاع الثورة السورية.

 

أخيرًا، تشير المعطيات إلى أن المفاوضات السياسية على إعادة تعريف العلاقة بين الإقليم والمركز في بغداد بدأت خلف أبواب مغلقة. هدف بغداد هو إعادة الإقليم تحت سلطة المركز من دون منحه صلاحيات أكبر من التي يتمتع بها حاليًّا، بينما تسعى حكومة إقليم كردستان العراق إلى تعزيز صلاحياتها خصوصًا في جوانب استثمار وتصدير وإدارة عائدات الثروات الطبيعية مثل النفط والغاز والمطالبة بمشاركة بعض الصلاحيات السيادية مع بغداد. لدى بغداد أوراق ترغيب وترهيب تتفاوض بها ولدى حكومة الإقليم أوراق مشابهة، منها: دعم الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة العراقية القادمة والمشاركة في دعم مرشح الكتلة الأكبر لمنصب رئيس الوزراء. جميع الدلائل تشير إلى أن الأزمة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق تتجه إلى مفاوضات سياسية للاتفاق على إعادة تعريف العلاقة بين الإقليم والمركز والاتفاق على تنظيم العلاقة بين حكومة العراق المركزية وحكومة إقليم كردستان لاسيما فيما يخص استكشاف واستغلال وبيع وإدارة عائدات الموارد الطبيعية. هناك ثلاثة عوامل أساسية تؤثر بشكل مباشر على سير ونتائج هذه المفاوضات: أولًا: ضغط الفاعل الدولي (الولايات المتحدة وحلفائها) على طرفي المفاوضات في بغداد وأربيل. ثانيًا: مدى تماسك الجبهة السياسية الداخلية الكردية خصوصًا بعد التشظي الذي أصابها قبيل وبعد انتخابات العراق التي أُجريت في 12 مايو/أيار 2018. ثالثًا: مدى استعداد الفاعل الشيعي السياسي لتقديم تنازلات سياسية واقتصادية لحكومة إقليم كردستان مقابل الحصول على الدعم الكردي لتشكيل الكتلة الأكبر وتسمية رئيس الوزراء القادم.

 

 

*د. مهند سلوم- أستاذ محاضر في العلاقات الدولية والعلوم السياسية في جامعة إكستر ببريطانيا.

مراجع

 

* قُدِّمت هذه الورقة في ندوة “المسألة الكردية: دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية” التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة يومي 25 و26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، والتي شارك فيها باحثون ومفكرون من بلدان وتيارات فكرية مختلفة.

 

 

 

(1)      علي، عثمان، الحركة الكردية المعاصرة: دراسة تاريخية وثائقية،(المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، 2008)، ص 789-793.

 

(2)      المرجع السابق، ص 463.

 

(3)      بروكا، هوشنك، “عن كردستان الكبرى وما دونها”، إيلاف، 31 ديسمبر/كانون الأول 2010، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2017): http://elaph.com/Web/opinion/2010/12/621920.html

 

(4)      Gunter, M. M. The Kurds: a modern history, (Markus Wiener Publishers, Princeton, 2016).

 

(5)      البزاز، سعد، الأكراد في المسألة الكردية، (الأهلية للنشر والتوزيع، عمَّان، 1996)، ص 143-147.

 

(6)      Tejel, J. Syria’s Kurds: history, politics and society, (Routledge, London; New York, 2009).

 

(7)      Stansfield, G. R. V. Iraqi Kurdistan: political development and emergent democracy, (Routledge Curzon, London; New York, 2003).

 

(8)      Ibid, p. 145-146.

 

(9)      Alkhshali, Hamid, and Martinez, Michael, “Iraq’s top diplomat replaced, sources say”, CNN, 11 July 2014, (Visited on 8 December 2017): http://edition.cnn.com/2014/07/11/world/meast/iraq-crisis/index.html

 

(10)   Ahmed, Mohammed. A.  Iraqi Kurds and nation-building, (Palgrave Macmillan, New York, 2012).

 

(11)   Aziz, M. A. The Kurds of Iraq: ethno-nationalism and national identity in Iraqi Kurdistan, (Tauris, New York, I.B, 2011).

 

(12)   Berwari, A. The referendum movement for an independent Kurdistan: political opportunity structure and national identity, a sociological study, (North Dakota State University, 2006),viii, p. 142.

 

(13)   Ayboga, Ercan, “Geopolitics of Syrian Kurds and military cooperation with the US”, anfenglish, 3 December 2017,  (Visited on 8 December 2017): https://anfenglish.com/features/geopolitics-of-syrian-kurds-and-military-cooperation-with-the-us-23467

 

(14)   “Kurds in Syria call on US support to rein in Turkish Operations”, DW, 2018, (Visited on 8 August 2018): https://www.dw.com/en/kurds-in-syria-call-on-us-support-to-rein-in-turkish-operations/a-42394221

 

(15)   Yildiz, K. and T. B. Tays?I, The Kurds in Iran: the past, present and future. (London, Pluto Press, 2007).

 

(16)   Chaliand, G. A. People without a country: the Kurds and Kurdistan, (New York, Olive Branch Press, 1993).

 

(17)   Danilovich, A. Iraqi Kurdistan in Middle Eastern politics, (Routledge, London, 2017).

 

(18)   “Kurds may abandon Turkey after coup against Erdogan”, DW 2016, (Visited on 8 August 2018): https://www.dw.com/en/kurds-may-abandon-turkey-after-coup-against-erdogan/a-19474445

 

(19)   Gunter, M. M. Out of nowhere: the Kurds of Syria in peace and war, (Hurst & Company, London, 2014).

 

(20)   Jain, S. “Kurdistan: Ataturk to Öcalan”, (Strategic Studies, 40 (1), 2016), p. 6-13.

 

(21)   Romano, D. and M. Gurses. Conflict, democratization, and the Kurds in the Middle East: Turkey, Iran, Iraq, and Syria, (Palgrave Macmillan, New York, 2014).

 

(22)   Kinnane, D. and Institute of Race Relations, The Kurds and Kurdistan, (Oxford University Press, London, 1964).

 

(23)   Yildiz, K. and Tays?I, T. B. The Kurds in Iran: the past, present and future, (Pluto Press, London; Ann Arbor, MI).

 

(24)   Danilovich, A.  Iraqi Kurdistan in Middle Eastern politics, (Routledge, London; New York, 2017).

 

(25)   C?erny, H. Iraqi Kurdistan, the PKK and international relations: theory and ethnic conflict, (Routledge, Oxon, Milton Park, Abingdon, 2018).

 

(26)   “أكراد سوريا يعرضون التفاوض بلا شروط.. فهل انتهى الحلم؟”، DW، 27 يوليو/تموز 2018، (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2018): https://www.dw.com/ar/أكراد-سوريا-يعرضون-التفاوض-بلا-شروط-فهل-انتهى-الحلم/a-44856499

 

(27)   “بارزاني يصر على الاستفتاء ويدعو دول الجوار للحوار”، بي بي سي، 22 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2017): http://www.bbc.com/arabic/middleeast-41363255

 

(28)   دلي، خورشيد، “الصراع بين أربيل والسليمانية… الأسباب والمآلات”، الجزيرة نت، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 22 أكتوبر/تشرين الأول 2017): http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2017/10/21/الصراع-بين-أربيل-والسليمانية-الأسباب-والمآلات

 

(29)   Mansour, Renad, “The Kurdistan Referendum Backfired Badly. Here is why”,washingtonpost, 25 October 2017, (27 August 2018):https://www.washingtonpost.com/news/monkey-cage/wp/2017/10/25/the-kurdish-referendum-backfired-badly-heres-why/??noredirect=on

 

(30)   “إقليم كردستان العراق: “نحترم قرار المحكمة الدستورية” الذي يحظر الانفصال عن العراق”، بي بي سي، 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):http://www.bbc.com/arabic/middleeast-41985963

 

(31)   Meiselas, S. and Bruinessen, M. V. Kurdistan: in the shadow of history, (Random House, New York, 1997).

 

(32)   Saeed, S. Kurdish politics in Turkey: from the PKK to the KCK, (Routledge, London; New York, 2017).

 

(33)   Gunter, M. M. The Kurds: a modern history, (Markus Wiener Publishers, Princeton, 2016).

 

———————

 

القضية الكردية في تاريخ وسياسات روسيا/ د.ليونيد إيساييف

الحقبة الإمبراطورية: مرحلة تأسيس العلاقات البينية

 

تعود بدايات العلاقات المباشرة بين روسيا وسكان كردستان التاريخية إلى حقبة الحروب الروسية-الإيرانية (الفارسية) والحروب الروسية- التركية (العثمانية) في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث جاءت الاتصالات الأولى بين روسيا والأكراد نتيجة لاقتراب العمليات العسكرية من الأراضي التي كان يقطنها الأكراد. ثم ما لبث ممثلو الإمبراطورية الروسية أن خفضوا مستوى اتصالاتهم مع المفاوضين الأكراد، في الفترة ما بين 1804-1805 لتقتصر، بشكل أساسي، على محاولات ضمان حياد الأكراد في الصراع الروسي-الفارسي والروسي-التركي (1).

 

بالإضافة إلى ما تقدم، فإن اهتمام روسيا بالأكراد كان ناتجًا أيضًا عن حقيقة أن المجتمعات الكردية المحلية وجدت نفسها تعيش ضمن حدود الأقاليم التي بسطت عليها الإمبراطورية الروسية سيطرتها (2). فقد كانت النظرة الروسية لتلك المنطقة مؤسَّسة، في المقام الأول، على رؤية عسكرية استراتيجية مفادها أن فرض السيطرة عليها يضمن، عمليًّا، التأثير على كامل منطقة الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى، فإن تلك المنطقة مثَّلت موقعًا متقدمًا في “أرض العدو” تأتي منه تهديدات مستمرة للأقاليم الروسية في منطقة القوقاز من قِبَل تركيا وبلاد فارس المتعطشتين آنذاك للانتقام، وكذلك من إنجلترا، ثم لاحقًا من ألمانيا، وهما أبرز منافسي روسيا في الشرق الأوسط. لكن، ومع هذا، فإنه لا ينبغي أن يغيب عن الذهن أن العلاقات مع الأكراد لم تكن تمثِّل أولوية على أجندة السياسة الخارجية الروسية في القرن التاسع عشر حيث رصدت الحكومة القيصرية، أولًا، معظمَ مواردها من أجل دعم المجتمعات السلافية في أوروبا الشرقية. وثانيًا، فلأن الأناضول الشرقية كانت، خلال حقبة العصور الوسطى، محل اهتمام روسي بسبب حقيقة التواجد الواسع لممثلي الدول المسيحية، وخاصة الأرمن، على أراضيها. وهكذا، فإن العلاقات الروسية-الكردية كانت، بالأساس، تختلف مع اختلاف المعطيات على أرض الواقع، ثم اكتسبت تدريجيًّا شكل التعاون قصير المدى خلال فترات الحروب في الغالب.

 

في نفس الوقت، وبقطع النظر عن حقيقة أن نتائج الحروب الروسية-التركية والروسية-الإيرانية أسهمت في قيام حركات التحرر الوطني للأكراد، فإن الفشل الذي عانت منه الحكومة المركزية التركية، في أعقاب الحروب الروسية-التركية في القرن التاسع عشر، أسهم في تشكيل صورة الإمبراطورية الروسية باعتبارها من قام بتحرير الأكراد، الذين ظلوا تابعين لقرون طويلة، وإن كان اسميًّا فقط، إلى الباب العالي في تركيا. هذا، وكانت المعارضة الكردية (للحكومة المركزية التركية) قد سمحت لروسيا بإشراك الأكراد في أعمال قتالية مشتركة ضد الأتراك، وذلك باعتبارهم حلفاء مؤقتين لروسيا في وقت الحملات المستمرة. لكن ومع ذلك، فإن محاولات قادة الانتفاضات الكردية الرامية لإقامة قنوات اتصال مع روسيا من أجل الحصول على دعمها أثبتت في نهاية المطاف عدم فعاليتها.

 

تمثِّل الانتفاضة الكردية المندلعة في عام 1880، برعاية الزعيم الديني النافذ، الشيخ عبيد الله، أبرز مثال حي على ذلك. فقد كان مؤتمر الزعماء الأكراد، الذي سبق الثورة، قرر إنشاء إمارة كردية مستقلة لتمكين الأكراد الإيرانيين والأتراك من الاتحاد داخلها، وكان من المفترض -وفقًا لخطة الأكراد- أن تصبح هذه المنطقة منطقة الحكم الذاتي لهم، لكن المثير للاهتمام أن أصحاب تلك المبادرة، الذين اعتمدوا على مساعدة القوى الغربية، حاولوا الحصول على دعم روسيا من خلال إجراء اتصالات مع القنصل الروسي في أرضروم، ثم مع نائب القنصل في مدينة فان(3)، أما الشيخ عبيد الله، فقد قال حينها: “من الأفضل أن نقف إلى جانب الأسد بدلًا من أن نكون مع الثعلب”(4).

 

واصل الأكراد مغازلتهم للروس، وقد كان بإمكان الملاحظين، منذ العام 1905، أن يرصدوا ذلك التحول الذي حققته الحركة الوطنية الكردية على أراضي الإمبراطورية العثمانية. وقد أدى ذلك، في نهاية الأمر، إلى بدء الأكراد إيلاء اهتمامهم لروسيا متوقعين الحصول منها على الدعم ومنحهم فرصة لردع السلطات التركية. فكان أن عمل الأتراك، بشكل خاص، على نشر شائعات تتحدث عن علاقة تربط بين نيكولاس الثاني والشعب الكردي (5). ثم كان أن تقدم عدد من الزعماء الأكراد، كان من أبرزهم: كور حسين باشا والشيخ عبد القدير، بطلب إلى روسيا يقترحون فيه ضم كامل كردستان إلى السلطات الروسية (6).

 

لكن، وحتى أثناء الحرب العالمية الأولى، فإن السلطات القيصرية لم تكن تسمح بأي شكل من أشكال الاستقلال السياسي، ليس فقط للأكراد، بل للأرمن أيضًا؛ فقد كانت تنوي ضم كامل شرق الأناضول إلى الإمبراطورية الروسية. وبالرغم من حقيقة أن عددًا كبيرًا من ممثلي الإدارة القيصرية تجاوبوا بشكل إيجابي مع مناشدات الأكراد وأرسلوا طلبات إلى سان بطرسبورغ من أجل الحصول على الدعم، إلا أن الإدارة القيصرية لم تكن ترى ضرورة في تطوير العلاقات الروسية-الكردية خاصة وأنها قد تتسبب في حصول تدهور كبير في العلاقات الروسية-العثمانية والعلاقات الروسية-الإيرانية على حدٍّ سواء.

 

أتباع السوفيت

 

غيَّرت نهاية الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من ثورة روسية توجه دفة السياسة الكردية؛ فخلال السنوات الأولى من عمر الاتحاد السوفيتي، كانت الرغبة في بناء علاقات مع تركيا أهم بكثير من دعم الحركات الانفصالية الكردية (7).

 

عرفت العلاقات السوفيتية-الكردية زخمًا جديدًا عقب الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك مرتبطًا بحركة الملا مصطفى البرزاني. كانت تلك حقبة يمكن تسميتها بـ”الحقبة الذهبية للعلاقات السوفيتية مع الأكراد”. في العام 1946، عبَرت فصائل كردية تابعة لمصطفى البرزاني الحدود الإيرانية-السوفيتية ومن ثم بدأت في تلقي تدريبات عسكرية تحت إشراف الأجهزة الأمنية الحكومية للاتحاد السوفيتي. وفي مقابل تقديمهم المساعدة لإسقاط حكومة نوري السعيد في العراق، قدَّم أمين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، ميخائيل سوسلوف، للأكراد وعدًا بالمساعدة من أجل إنشاء جمهورية كردية عند نقطة التقاء الحدود المشتركة لكل من تركيا وسوريا والعراق وإيران (8)، غير أن تلك الوعود لم تتحقق.

 

بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في بغداد، في 14 يوليو/تموز عام 1958، صعد الجنرال عبد الكريم قاسم إلى سدة الحكم في العراق واتبع سياسة تقارب مع الاتحاد السوفيتي أدت إلى إبرام سلسلة من المعاهدات معه. ثم قرر قاسم إعادة تسليح قوات الجيش العراقي، وفي خريف العام 1959، أبرم عددًا من الاتفاقيات مع الاتحاد السوفيتي تقضي بتقديم السوفيت أسلحة وعتادًا عسكريًّا للعراق، بالإضافة إلى توفير التدريب للضباط والخبراء التقنيين العراقيين داخل الاتحاد السوفيتي. في نفس الوقت، انسحب العراق من معاهدة التعاون الأمني المشترك والعلاقات الثنائية التي كانت تربط بلاده ببريطانيا، كما انسحب العراق أيضًا من الاتفاقيات العسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا، أدى هذا التقارب العراقي-السوفيتي إلى خلق واقع جديد باتت معه العلاقات السوفيتية-الكردية مجمدة.

 

كنتيجة لما تقدم، ولأن قاسم لم يكن يرغب في رؤية ما تبقى من الأكراد أقوياء، فقد بادر في العام 1960 إلى اتهام البرزاني بالتآمر ضد الجمهورية، وقد حدث ذلك أثناء المصادمات التي جدَّت بين مناصري الحزب الديمقراطي الكردستاني والقبائل المناهضة له. وكان أن أدت تلك الأحداث إلى اندلاع حرب استمرت ما بين 1961-1963 تشكلت أثناءها ميليشيا البيشمركة الكردية، ولأن الحكومة السوفيتية، كانت تولي اهتمامًا للتعاون مع النظام العسكري العراقي، فقد فضلت عدم تقديم الدعم للأكراد حلفاء “الأمس” في صراعهم مع عبد الكريم قاسم (9).

 

لم تتغير سياسات الاتحاد السوفيتي تجاه الأكراد حيث استمرت على وتيرة مماثلة خلال فترة حكم صدام حسين للعراق. ففي بعض الأحيان (في فترة السبعينات على سبيل المثال)، لعب الاتحاد السوفيتي دور الوسيط بين البرزاني والسلطات في بغداد، وهو ما تمخض عنه طرح الحكومة السوفيتية فكرة منح كردستان العراق حكمًا ذاتيًّا تم تنفيذه في العام 1974، غير أن ذلك لم يحل “المسألة الكردية”. وفي عقد الثمانينات، اتخذت القيادة السوفيتية، مرة أخرى، موقفًا معتدلًا من القضية، حيث كانت مهتمة بتطوير العلاقات مع السلطات في بغداد.

 

روسيا الحديثة: حكومات جديدة وأساليب معالجة قديمة

 

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت السياسة الروسية انحسارًا مهمًّا في اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط عمومًا وبالقضية الكردية على وجه الخصوص. لكن، ومع ذلك، فقد استمرت القيادة الروسية في انتهاج نفس الأساليب التكتيكية لتحديث تعاطيها مع “المعطى الكردي” وجعل موقفها منه متساوقًا مع الفترات التي تبدو فيها مضطرة للتوصل إلى توافق مع بلدان منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها تركيا. وقد تم اتباع نفس هذا التكتيك، في حالتين على الأقل، منذ تأسيس الدولة الروسية الحديثة.

 

كانت الحالة الأولى مرتبطة بوضع عبد الله أوجلان في نهايات عقد التسعينات من القرن الماضي. حينها كان زعيم حزب العمال الكردستاني قد وصل إلى موسكو عن طريق استخدام وثائق سفر مزورة، ومن ثم تقدم بطلب إلى السلطات الروسية لمنحه حق اللجوء السياسي. كان أوجلان يعتمد حينها على تلاقي اهتمام كل من روسيا وكردستان بمنطقتي بحر قزوين والشرق الأوسط، غير أن رئيس الوزراء في حينها، يفغيني بريماكوف، رفض “رفضًا حاسمًا” منح أوجلان حق اللجوء السياسي، وذلك بالرغم من تصويت 299 نائبًا في مجلس الدوما، من أصل 300 نائب في جلسة البرلمان المنعقدة بتاريخ الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1998، لصالح أوجلان، ولم يسجَّل حينها سوى امتناع نائب واحد عن التصويت (10). ومع ذلك، فقد اعتبرت حكومة بريماكوف أن تدهور العلاقات الروسية-التركية قد تكون له تداعيات سلبية بالنسبة لموسكو أكثر من التداعيات التي قد تنجم عن رفضها التعاون الوثيق مع الأكراد. بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبح قرار موسكو في قضية أوجلان جزءًا من الاتفاق مع أنقرة، التي لم تكتف فقط بتقديم دعم مالي وطرح صفقات عقود مربحة لصالح روسيا، بل تعهدت أيضًا بوقف دعمها للانفصاليين الشيشان في شمال القوقاز.

 

أما الحالة الثانية، والتي لا تقل وضوحًا عن سابقتها، المتعلقة بتوظيف “المعطى الكردي” من قبل القيادة الروسية في العلاقات التي تربطها بتركيا، فتتمثل في واقع العلاقات بين البلدين في أعقاب حادثة إسقاط القاذفة الروسية SU-24 في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015. فعلى الجانب الروسي، قادت تلك الحادثة إلى إطلاق حملة إعلامية واسعة هدفت إلى تشويه السياسة التركية تجاه الأكراد، حيث باتت التصريحات الرسمية الروسية لا تجد حرجًا في استخدام عبارات من قبيل “الإبادة الجماعية للأكراد”(11)، في حين بثت قناة “روسيا اليوم” المقربة من النظام، عددًا من الوثائقيات التي تكشف عن جرائم ادَّعت أن أنقرة ارتكبتها ضد الأكراد (12).

 

يجدر التذكير، في هذا السياق، بأنه قبل أحداث نوفمبر/تشرين الثاني 2015، لم يكن الموقف التركي يُصوَّر على أنه “إبادة جماعية” بل كان يوصف بـ”الأزمة في تركيا”(13). أما افتتاح أول مكتب تمثيلي لكردستان سوريا على مستوى العالم في موسكو، في شهر فبراير/شباط من عام 2016، فيعود إلى نفس تلك الحقبة من تاريخ العلاقات بين البلدين (14).

 

من جانبها، كثفت تركيا سياستها في جنوب القوقاز. وبمساعدة أنقرة، التي قدمت دعمًا كاملًا لأذربيجان في صراع ناغورنو كاراباخ، اندلعت، في الثاني من أبريل/نيسان عام 2016، اشتباكات مسلحة على خطوط التماس. لم تكن “حرب الأيام الأربعة” تلك لتلائم روسيا، التي حاولت أثناء هذا الصراع لعب دور الوسيط وكان لديها رغبة واضحة في الحفاظ على الوضع القائم، حيث إن أي تطور للأحداث حول ناغورنو كاراباخ، سواء أكان لصالح أرمينيا أم يصب في مصلحة أذربيجان، كان سيعرِّض مواصلة موسكو فرض تأثيرها في منطقة جنوب القوقاز للخطر.

 

كانت نتيجة ما تقدم، أن قرر كل من رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، خلال لقائهما في سانت بطرسبورغ، في يوليو/تموز 2016، تطبيع العلاقات الروسية-التركية. فبالإضافة إلى استعادة العمل على المشاريع المشتركة بين البلدين، خفضت أنقرة أنشطتها في القوقاز في مقابل تجميد موسكو، مرة أخرى، علاقاتها بالأكراد. بدا ذلك واضحًا في ضوء تراجع أنشطة مكتب كردستان سوريا في موسكو، الذي بات استمرار وجوده، مع ما يعانيه من نقص في التمويل، محل تشكيك متكرر في 2017.

 

هكذا إذن، ظلت سياسة الصمت في التعاطي مع الأكراد أولوية بالنسبة للقيادة الروسية، ولا يزال ذلك مستمرًّا إلى يومنا هذا. وكما أبان عنه الاستفتاء حول استقلال كردستان العراق، الذي تم تنظيمه في سبتمبر/أيلول 2017، فإن موسكو تبدو مهتمة بالحفاظ على علاقات مستقرة مع كل اللاعبين، وبالتالي فهي تفضل اتخاذ موقف محايد فيما يتعلق بهذه القضية.

 

في معرض تعليقه على الاستفتاء الكردي، أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من جهة، اعترافه بـ”مشروعية تطلعات الأكراد” لكنه، من جهة ثانية، أوضح أن “القضية الكردية تتعدى مسألة رسم حدود العراق الحديث، وأنها تؤثر على الوضع في عدد من بلدان الجوار”(15) التي لابد من أخذ أوضاعها بعين الاعتبار. في نفس الوقت، فإن مواقف موسكو نابعة من نظرة براغماتية مبنية على مصالح اقتصادية بحتة. لذلك، فإننا نجد من بين شركاء حكومة كردستان العراق العديد من الشركات الروسية (16)، وبالأخص شركة غاز بروم نفط، التي تمارس نشاطها الفعلي هناك ولديها ثلاثة مشاريع للتنقيب عن النفط في حلبجة(17) وشاكال وغارميان. ثم في عام 2017، قدمت إلى المنطقة شركة روس نفط بعد توقيعها عقدًا لشراء وبيع نفط المنطقة، فضلًا عن استكشاف الحقول النفطية الجديدة.

 

في نفس الوقت، نجد أن الشركات الروسية تقوم على تطوير الجزء العربي من العراق؛ ففي العام 2009، مُنحت شركة “لوك أويل” حق تطوير حقل جنوب قرنة 2، الذي يبعد 65 كيلومترا عن البصرة (في العام الحالي تخطط الشركة لضخ استثمارات تقدر بـ1.5 مليار دولار في هذا المشروع)، أما شركة “غاز بروم نفط” فقد بدأت منذ العام 2010 في تطوير حقل نفطي آخر في نفس المنطقة (18)، وفي العام 2012، حصلت شركة “باش نفط” على حقوق البدء في استخراج النفط في مقاطعتين جنوبيتين أخريين تقعان على تخوم الحدود مع المملكة العربية السعودية. قد يشير هذا التنوع في المصالح النفطية إلى أن الوضع الروسي الحالي في مجال الأعمال -أي اللعب على الحدين في نفس الوقت- من شأنه أن يحقق لها رضى كاملًا أيضًا، وأن فكرة إعلان استقلال كردستان العراق، التي من شأنها زيادة منسوب التوتر إلى مناخ عالم الأعمال في المنطقة لن تجد لها، على الأرجح، أي دعم في موسكو.

 

وخلاصة الأمر، يمكننا ملاحظة أن “المعطى الكردي”، وإن كان يلعب دورًا مهمًّا في سياسات روسيا الخارجية، فإنه لا يزال خاضعًا، في طبيعته، إلى المعطيات الظرفية ولا يؤدي سوى وظيفة ثانوية بالنسبة لموسكو.

 

منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، كانت القيادة الروسية تنظر إلى فكرة حصول الأكراد على استقلالهم باعتبارها “أمرًا غير قابل للتحقق”. ولكون الكرملين براغماتيًّا، حاول الحفاظ على علاقات مستقرة مع كل القوى في المنطقة، مجتهدًا في تجنبه اتخاذ أية خطوات من المحتمل أن تؤدي إلى تدهور علاقاته مع أي من تلك الأطراف.

 

 

*د.ليونيد إيساييف، أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية بكلية علوم الاقتصاد العليا، الجامعة الوطنية للبحوث، موسكو، روسيا.

مراجع

 

* قُدِّمت هذه الورقة في ندوة “المسألة الكردية: دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية” التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة يومي 25 و26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، والتي شارك فيها باحثون ومفكرون من بلدان وتيارات فكرية مختلفة.

 

(1)   ????????????? ??? ?.?. ????? ? ??????? ? ???????? ?????? ?? ??????? ??????? ? XIX – ?????? XX ??. ???: ?.-??????. ???. ??-?, 2017.

 

بوبيدونوستوف، كايا، الأكراد في تاريخ روسيا وسياستها في الشرق الأوسط خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، (سانت بطرسبورغ، 2017):

 

(2)   ????????? ?.?. ????? ? ?????? ?????? ? ??????? ? ??????? ? ??????? XIX ????????. ??????????? ???????????? ????????? ????????, ?????????? ? ??????? ??????. ???????????? ?????. ??????, 1900. ?.1

 

أفيريانوف، بى. آي، الأكراد في حروب روسيا مع بلاد فارس وتركيا في القرن التاسع عشر، الوضع السياسي الحالي لأكراد تركيا وبلاد فارس وروسيا، بحث تاريخي، (تيفليس، 1900).

 

(3) ?????? ?. ????????? ?????? 1880 ????. ?.: ?????, 1966. ?. 54.

 

جليل، انتفاضة الأكراد عام 1880، (دائرة المعارف، 1966)، ص 54.

 

(4)   ????????????? ??? ?.?. ????? ? ??????? ? ???????? ?????? ?? ??????? ??????? ? XIX – ?????? XX ??. ???: ?.-??????. ???. ??-?, 2017.

 

بوبيدونوستوف، الأكراد في تاريخ روسيا وسياستها في الشرق الأوسط خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مرجع سابق.

 

(5)  ????, ?. “?????????? ? ???????????????”, 1911 ?., ?. 1602, ??. 111 – 112. ????????? ????????? ?? 12 ??????? 1911 ?.

 

آي في آر بي. إف “سفارة القسطنطينية” عام 1911، تقرير استخباراتي، أوليفيرييفا، 12 أكتوبر/تشرين الأول 1911.

 

(6)   ????, ?. “?????????? ? ???????????????”, 1907 – 1913 ??., ?. 3572, ??. 24 – 25. ????????-?????? – ???????????, 9 ????? 1910 ?.

 

آي في آر بي. إف “سفارة القسطنطينية” 1907-1913، فورونتسوف-داشكوف-إيزفوليسكومو، 9 مارس/آذار 1910.

 

(7)   ??????? ?.?., ?????? ?.?., ???????? ???????????: ??????? ? ?????????????. – ?.: ?????, 2015. – ?. 153

 

فرتياييف كي بي، إيفانوف سي أم، القومية الكردية: التاريخ والعصر الحديث، (إم ليناد، 2015)، ص 153.

 

(8)  ?????????????? ????? ?.???????, “???????? ?????????: 15 ??? ?????”, ???, 1999 ?., [14:40 – 17:00]

 

آر، بابايانا، فيلم وثائقي، “كردستان التركية: 15 عامًا من الحرب”، مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الروسي، RTR، سنة 1999، [14:40 – 17:00].

 

(9)  ??????? ?., ????? ?. ???? ? ?????????????, ??? ?????? ???????? ????? ???????? ????????? ????// ???????????????? ?????. ?????? ? ???????? ? ????????, ?3, 2017. ?. 112-131.

 

زاخاروف وإيساييف، “لعبة الاستقلال، أو لماذا يهدد أكراد العراق بتدمير العراق: جدل حول السياسة والثقافة، (العدد 3، 2017)، ص 112-131.

 

(10)   ???????? ? ?????????// ???????????, ?219.

 

مقابلة مع عبد الله أوجلان، كومرسنت، العدد 219، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1998، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):https://www.kommersant.ru/doc/209274

 

(11)   ??????? ???????????? ????????????? ??? ?????? ?.?.?????????, ??????, 10 ??????? 2016 ????

 

تقرير مختصر للمتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية، م. ف. زاخاروف، موسكو، 10 فبراير/شباط 2016.

 

(12)   “????????????”, RT Documentary

 

فيلم وثائقي لقناة روسيا اليوم، تحت عنوان “أردوغانستان”.

 

(13)   ??????????? ? ?????? ?? ??????? ??? ???????? ??????????? ??? ?????? ?.?.??????? ? ???? ?????-??????????? ?? ?????? ???????????????? ?????? ? ?????? ???????????? ???, ???-????, 1 ??????? 2015 ????

 

كلمة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحفي عقب تولي روسيا رئاسة مجلس الأمن الدولي، نيويورك، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2015.

 

(14)   ? ?????? ????????? ????????????????? ?????????? ?????????? // ????, 10.02.2016.

 

“الإعلان عن فتح مكتب تمثيل لكردستان سوريا في موسكو”، وكالة تاس الروسية للأنباء، 10 فبراير/شباط 2016، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

 

http://tass.ru/politika/2653131

 

(15)   ??????: ??? ??????????? ? ????????????? ????????? ?????????? ????? ?????? ??? ??????????? // ????, 24.07.2017 – (http://tass.ru/politika/4436662)

 

تصريح للافروف: “يجب أن تؤخذ جميع العواقب بعين الاعتبار عند الحديث عن فكرة تنظيم استفتاء على استقلال كردستان العراق، وكالة تاس الروسية للأنباء، 24 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017):

 

http://tass.ru/politika/4436662

 

وانظر أيضًا:

 

(16)   “List of International Oil Companies in Iraq”, businessnews, (Visited on 1 October 2017):

 

List of International Oil Companies in Iraq

 

(17)   ? ???????? 2017 ?. «??????? ?????» ??????? ??????? ?? ?????? ?? ?????? ???????? ????????????? «????????».

 

منذ شهر سبتمبر/أيلول 2017، قررت شركة غازب روم النفطية تخليها عن خططها المعلنة لتطوير حقل حلبجة.

 

(18)   ???????? ?. «??????? ?????» ?????????? ?? ????????????? ???????? // ?????????, 29.09.2017

 

بيتليفوي. ف، “شركة غاز بروم نفط تتخلى عن مشروع التنقيب عن النفط في حقل حلبجة”، صحيفة فيدوميستي، 29 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017): https://www.vedomosti.ru/business/articles/2017/09/29/735850-gazprom-otkazalas-ot-halabdzha

 

سوريا: مستقبل سلاح وحدات حماية الشعب الكرديّة/ شورش درويش

قد يكون من الصعب التنبّؤ بمستقبل سلاح وحدات حماية الشعب، وإمكان بقاء هذا السلاح محمولاً على الأكتاف إلى أجل غير مسمّى، ذلك أن ظاهرة الكردي السوري المسلّح في بلاد يفتقد أكرادها إلى تقاليد عسكرية أصيلة ومتوارثة من جيلٍ مقاتل إلى آخر، تثير الكثير من الأسئلة، ليس أوّلها مستقبل هذا السلاح ومصيره.

مع استحضار المقارنات من خلال القياس بين المجتمع الكردي السوري ونظرائه في كردستان العراق وأكراد إيران، وإلى درجة بعيدة ما بات شبه حالة دائمة في تركيا مع “حزب العمّال الكردستاني”، سيتّضح أن السلاح الكردي طارئ ودخيل وأنه وجد في لحظات تفكّك الدولة وانتشار العسكرة التي ولّدت الاستقطاب الطائفي والإثني، اللذين كان لهما الدور الأبرز في إيجاد وتوطين السلاح الكردي المتمثّل بوحدات حماية الشعب وتوسعته الأميركية، قوّات سوريا الديموقراطية (قسد).

عام 2004 ومع أحداث آذار/ مارس الدامية (الانتفاضة الكردية)، قرّر النظام توجيه رسالة عبر وسيلته الأثيرة، أي استعمال العنف المفرط مع الأعداء المحتملين (الأكراد) الذين كان من المحتمل أن يتحوّلوا إلى ظهير حيويّ لواشنطن التي تحدّث رئيسها جورج دبليو بوش عن أن الإطاحة بنظام صدام حسين هو سقوط أوّل أحجار “الدومينو”، في إشارة إلى إمكان التوسّع في إسقاط الأنظمة المشابهة في المنطقة، الأمر الذي حفّز النظام إلى شنّ حملة تأديب استباقيّة طاولت الأكراد بانتماءاتهم السياسية المختلفة. بُعيد تلك الأحداث، فكّر “حزب العمال الكردستاني” في إنشاء ذراع عسكريّة كردية سورية خالصة تكون مهمّتها الرد على عنف النظام وفق ما قاله أحد أعمدة العمّال الكردستاني وقادته، مراد قره يلان، في حديث مطوّل أُجري معه في وقت لاحق من عام 2005، والذي وضع بين دفتي كتاب حمل عنوان “آفاق كونفدراليّة”.

قد تكون المعلومات شحيحة عن الفترة التي قرّر فيها “العمّال الكردستاني” نثر بذور وحدات حماية الشعب في سوريا، إلّا أن الواضح كان أن الكردستاني تلقّى مقداراً كبيراً من العنف والأذى على يد نظام دمشق الحليف الاستراتيجي لأنقرة حتى مطلع الثورة السورية 2011، ما دفع العمّال إلى تصنيف دمشق ضمن خانة الأعداء بعد أعوام طويلة من التنسيق والوئام، لذا كان التفكير جدّياً في تشكيل وحدات كردية حمائية تكون مهمّتها الرد على عنف النظام بعنف مماثل على أقل تقدير، ولعل كلام قره يلان حينها لم يكن خبط عشواء بقدر ما كان يضمر إستراتيجية بعيدة المدى للتعامل مع دمشق. وإذا كانت أنقرة حينها مثّلت الشيطان الأكبر وفق صيغة العداء التاريخي بين أنقرة وقنديل (مقر قيادة حزب العمّال في كردستان العراق)، فإن دمشق باتت والحال هذه شيطان قنديل الأصغر.

لم تكن الوحدات الكردية مقطوعة النسب في المجتمع الكردي السوري عند ظهورها على سفح الأحداث، فالوحدات بقيت متّصلة بمؤسّسات “حزب الاتحاد الديموقراطي” الذي تأسّس عام 2003 وفق رؤية كونفدرالية للعمّال الكردستاني، منحت توكيلات للممثلين المحليين في سوريا والعراق وإيران لبدء أنشطتهم السياسية وحتى العسكرية، بعيداً من التدخّل المركزي الصارم الذي ميّز عمل الكردستاني، كما اتّكأت الوحدات في خط سيرها وصعودها على المؤسّسات القديمة للكردستاني في سورية، كمؤسّسة أسر الشهداء التي شكّلت أبرز الروافد التنظيمية والتعبوية للوحدات، فالمؤسّسة كانت تجمّعاً كبيراً لأسر مئات الشهداء الأكراد السوريين الذي قضوا في المواجهات مع الحكومات التركية، يضاف إلى ذلك أن “الاتحاد الديموقراطي” كان يحمل تحت ذراعه مشروعه المتفرّد لإدارة المنطقة (الإدارة الذاتية الديمقراطية) المستوحى من كتابات أوجلان، وكذا وجود إعلام مركزي قادر على الترويج والتعبئة والتحشيد الشعبي، لذا كان من السهل بدء مشروع الإدارة التي استفادت من وجود فراغ طوعي أقدمت عليه دمشق في المناطق الكردية ومناطق وجود الأكراد، والعنصر الأهم في مثل هكذا مشروع كان سلاح الوحدات والمنظّمات والمؤسّسات الرديفة من قبيل، الأساييش (الشرطة المدنيّة) والفصائل الجوهرية (مدنيون مهمّتهم حماية الأحياء)، وجوانن شورش كر (الشبيبة الثورية).

شكّلت معارك رأس العين/ سرى كانيه 2012، الممرّ الواسع للوحدات لتصبح القوّة الكردية الوحيدة التي تمثّل الأكراد، فقد كان لسوء تعامل الكتائب المسلّحة التي اجتاحت المدينة مع المدنيين وتحديداً المواطنين الأكراد، دوره الحاسم، فضلاً عن إعلان الكتائب رغبتها في بسط السيطرة على معظم مناطق الجزيرة السورية، الأمر الذي دفع الأكراد إلى التحلّق حول وحداتهم التي شكّلت صورةً من صور الإنقاذ في ظل أعمال العنف والسرقات والتخريب التي قامت بها كتائب المعارضة. وبذا حظيت الوحدات بأشكال الدعم الكردي السوري وحتى الكردستاني كلها، إذ لم تدّخر إربيل والسليمانية جهداً لأجل نجاح حماية الوحدات في عملها المتمثّل بحماية المنطقة الكردية مع استشعار الخطر من إمكان وصول كتائب المعارضة إلى الحدود التي تفصل سوريا عن إقليم كردستان العراق، وما قد يشكّله من خطورة على أمن الإقليم وحدوده.

وإذا كانت معركة رأس العين/ سرى كانيه قد شكّلت مدخل الوحدات للولوج إلى عوالم الأكراد السوريين والكردستانيين، فقد منحت المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية صكوكاً كردية وكردستانية جديدة للوحدات، ولعل معركة كوباني ومقاومتها أفضت إلى تعميد الوحدات طرفاً رئيسياً إن لم يكن أوحد لدى واشنطن التي عثرت، في ظل لا جدوى التعامل مع الفصائل الإسلامية، على حليف يمتاز بالموثوقية وبمركزية القرار، ما دعا واشنطن إلى تنمية قدرات الوحدات التي أحيلت في وقت لاحق لتصبح عقل “قوات سوريا الديموقراطية” وعضلتها النامية.

تخفّفت الوحدات بموجب العقد المبرم مع واشنطن من الكثير من الأحمال الإيديولوجية، لتحلّ البراغماتية محل الأيديولوجيا، غير أن لضبابية الإستراتيجية الأميركية في سورية الدور المهم في تعزيز شكوك الوحدات المتمثّلة بإمكان تخلّي واشنطن عن دورها في سورية، على رغم من أن واشنطن قد أفصحت أن بقاء قواتها لن يكون مرتبطاً بمسألة الإجهاز على تنظيم الدولة فحسب، بل سيستمر إلى أن تتم التسوية النهائية مع دمشق، إلّا أن خطوة التفاوض مع دمشق التي خطتها وحدات الحماية باسم الإدارة الذاتية، تشي بما يراد قوله لجهة الخشية من تهرّب أميركي محتمل من التزامات الشراكة في ظل الاضطراب غير المحمود لسياسات أميركا في سوريا.

تبدو مسألة مستقبل سلاح الوحدات عصيّة على التقدير والتنبّؤ، فإذا كانت البيشمرغه بكردستان العراق قد تحوّلت بموجب الدستور والقانون العراقيين إلى جزء من منظومة العراق الدفاعية، فإن الوضع مختلف في سوريا في حال بقي نظام الأسد على حاله، ذلك أن هذا النظام المجرّب لن يقبل بأي سلاح فرعي حتى وإن لم يشكّل أدنى خطر على سلامة حكمه، في إزاء ذلك تعرف الوحدات معنى التخلّي عن السلاح لمصلحة نظام قد يضمر الكثير من النيّات السيئة للأكراد، وقد يعيد الكرّة ليجعل من الأكراد المادة اللاصقة لعلاقته مع الحكومة التركية التي بدأت رحلة التخلّي عن كل شيء في سوريا عدا سلاح الأكراد.

في مجمل الأحوال، سيبقى مستقبل السلاح الكردي أسير التفاهمات الدولية، والإقليمية، أما قصّة نزعه فستكون متأرجحة بين حرب منتظرة، أو صفقة تجيز للأكراد حمل السلاح، بعدما اقتنعوا أن لا سحر يضاهي حمل السلاح في بلاد تعجّ بالعنف والقسوة، وأن لا أسباب موجبة تدعو إلى التخلّي عن السلاح مهما دار الحديث عن تفاهم بين الوحدات والنظام السوري.

– كاتب سوري كردي

درج

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى