تقنية

يعرف كل شيء عني، ولا أعرف شيئاً عنه/ دلال البزري

 

 

الهاتف “الذكي” يعْلمني بأنه “يعرف” كل خطواتي؛ إذا سافرتُ، إذا تنقّلتُ في قلب المدينة، إذا صادقتُ أحداً على “فيسبوك”؛ يسألني عن رأيي بهذا أو ذلك من الأماكن التي وُجدتُ فيها. بل أيضاً، إذا تصفّحتُ موقعاً من المواقع الإلكترونية، يقوم في الساعة التالية، فيقترح عليّ موقعاً أو خبراً سوف “يهمّني”، طالما اهتممتُ بما يشبهه. وربما “يعرف” أشياء أخرى إضافية، ربما سألحظها بعد حين، وربما لن ألحظها؛ فأنا لا أعلم ماذا يعلم. لا أعرف بالضبط ما هي الجهة، أو المؤسسة المنكبّة على مراقبتي، أنا ومليارات من البشر حملوا الهاتف الذكي، أو قاموا، مثل أي مواطن بسيط، طبيعي، “مواكب للعصر”، بفتح حساب لنفسه في أحد مواقع التواصل، أو تسقّط حدثاً ومعلومة، عبر المواقع الإلكترونية المختلفة.

“هو” يعرف كل شيء عني، بل تزداد يومياً معرفته بي، ولكنني لا أعرف شيئاً عنه. ولا يكفي أبداً أن أعلم أن رئيس “فيسبوك” هو مارك زوكربيرغ، ورئيس مايكروسوفت هو بيل غيتس، وأن ثروتهما تتجاوز مليارات من الدولارات. لا يكفي ذلك، لأفهم ماذا يفعلان، هما وغيرهما ممن أجهل حتى أسماءهم، ماذا يفعلون، ليحولوا العالم الافتراضي إلى كهف مظلم، يعمل بأدواتٍ لا يمكن أن أعرفها، ولا أن أفهمها؛ ما هو “نظام” هذه المعرفة؟ ما هو جهازه؟ ما هي خططه بالضبط؟ منهجيّته؟ طريقة تنظيمه؟ هرميته؟ ماذا يعرفون عني مما لا أعرفه؟ ماذا يودّون أن يعرفوا أكثر؟ مثلاً، كيف تعلَم إدارة “فيسبوك” أن فلان الفلاني قد يكون

“صديقا” لي، فتقترحه عليّ…؟ إلى أين سيصلون في مراقبة كل آدمي على وجه الكوكب، الذي يمتّ بي بـ”علاقة” ما معه؟ ما هي بالضبط الأرباح التي يجنونها؟ ولمن يبيعون كل هذه المعلومات عني وعن أمثالي من البشر؟ وما هي قيمة هذه المعلومات؟ كل هذه الأسئلة تشي بجهلي تلك “الآليات”، لكنها توحي بأن القيّمين عليها يثابرون على تطوير أدواتها وطرقها، بأنها تتوغل كل يوم أكثر فأكثر في دقائق حياتي وحياة غيري؛ أي بأننا جميعنا تحت السيطرة التامة لعينها الثاقبة. وذلك كله بشرط أن أتعاطى مع العالم الافتراضي. ولا تتناسب، أو ربما تتناسب، درجة الرقابة هذه مع درجة تعاطيّ بهذا العالم… لا أعرف. اليقين الوحيد أن هذه العين المكْفهرة أذكى منا كلنا، تعرف كل شيء عنا، ولا نعرف شيئاً عنها، سوى أسمائها اللامعة، وملياراتهم.

أحتاج إلى نقطة استدلالٍ واحدة، لاستيعاب العين الرقيبة. أعود فأقرأ رواية البريطاني جورج أورويل، “1984”، التي تتكلم عن شخصيات تعيش في ظل نظامٍ من الرقابة الشديدة على عواطفها الخاصة والسياسية. الكتاب رهيب. يفكّك أدوات الرقابة والسيطرة؛ آلة خُصّص لها المكان والأجهزة والموظفون الذين يُطلب منهم يومياً تولّي العقول، بحيث يفقد المستهدفون لغتهم، رغباتهم، خيالهم وذاكرتهم؛ وتصفى قلوبهم من كل احتمال للتمرّد أو مجرّد العيش الهانئ؛ أو بالأحرى العيش الهانئ هو التمرّد بعينه. وتنتهي يأسا بالقبض على متمرّد وقع في الحب، مخالفاً الأنظمة كلها، ثم قتله بأبطأ الطرق وأبشعها (طريقة صينية قديمة مرعبة). فضْل رواية “1984” أنها تمنحنا الرموز والدلالات التي تنطوي عليها عملية الرقابة المنهجية على مواطني الدول الديكتاتورية، المحرومين من الديموقراطية والتنوّع. ولكن وقائعها تبقى محدودةً جغرافياً وسياسياً. إذ تقتصر على أنظمة غير ديموقراطية، وتبقي في مخيّلة المتمرّدين من شخصياته، أن ثمّة بقعة أخرى على هذه الأرض، لا تتبع هذا النظام، فتديم حلمهم بالحرية. وهذا الفرق بين وقائع الرواية التي كتبت عام 1949، حيث نهاية الحرب العالمية وبدء الحرب الباردة والمعسكرين… بين الوقائع المتخيَّلة في الرواية، إذاً، وما نحدسه الآن، بالبراهين، من أن ثمّة عيناً عالمية تراقبنا، بأدق تفاصيلنا، وأن مركز هذه العين ليس ستالينيا، ولا نازيا، ولا فاشيا، بل الولايات المتحدة، أقوى ديموقراطية في العالم؛ وأن “مجال” رقابتها يمتد على طول الكوكب الأرضي وعرضه.

وحين تبحث عمن يناهضها، لن تجد مناضلين أشاوس، ضحّوا طويلاً… تنقلوا بين القارّات دفاعاً عن الحرية، إنما جالسين خلف شاشتهم، عالِمين بأسرار أصحاب الأسرار، يلتقطون إشاراتها، وبدقائق معدودة يفرزون معانيها، فيعلنونها على الملأ، فاضحين أصحاب الأسرار

أولئك؛ فيتحوّلون إلى أبطال لاجئين – محتجزين؛ إما في دول ذات تقاليد عريقة في العيون الرقيبة، مثل إدوارد سنودن اللاجئ إلى موسكو، هرباً من حكومة بلاده، الولايات المتحدة، بعدما فضح تنصّتها على الكوكب؛ أو عالق في سفارة البيرو في لندن، مثل جوليان أسانج، مؤسس “ويكيلكس” الشهير، الكاشف برقيات تبادلها سياسيون عبر الشبكة.. أو مئات القراصنة الذين يسرقون، أو يبتزّون، أو يناورون، أو أي شيء آخر.. وكل هؤلاء أشخاص متوحدون، غير شفافين، بدورهم، لا نعرف عنهم سوى كشفهم المستور، وغير المستور.. فهل يجدر بنا الوثوق فيهم، بصفتهم أبطال العصر الحديث الذين سيزيلون عن البشرية آفة الرقابة على حياة أفرادها التفصيلية وأذواقهم وتوجهاتهم السياسية أو الجنسية؟

ولا يسع المرء هنا سوى التندّر على نوعيةٍ من الرقابة البائتة التي يقوم بها السياسيون اللبنانيون على آراء رواد مواقع التواصل، فيسبوك وتويتر خصوصاً. إذ يكفي أن يكلَّف موظفون في الدوائر المختصة بتصفّح هذه المواقع، وتسجيل ما هو جدير بالعقاب والملاحقة.. هذا التقليد الرديء للعين يدعو إلى السخرية والرثاء. ونبدو فيه متخلفين، حتى في أدواتنا القمعية. فيما الرقيب الأكبر يراقب المراقبين الصغار.

ولكن يبقى السؤال: إذا لم يكن هناك رجاء، لا من تراجع رقابة الأخ الذي كبر، ولا من المناهضين له المستخدمين أدواته نفسها، فهل من طريقةٍ للتفلّت من عيون هذا الأخ؟ نعم ثمّة طريقة، عبثيّة و”رجعية”. وآيتها العودة إلى العالم التقليدي القديم: بإقامة الوشائج الاجتماعية والغرامية المباشرة، من دون وسيط إلكتروني. وبالتنقل من مكان إلى آخر، من دون الهاتف الذكي، وعلى ظهر حمار أو حصان، من دون سيّارةٍ، التي قد يكون تسلّل إليها نظام الرقابة، بغفلة منا. باعتماد القراءة القديمة، كالكتب والنصوص المنشورة على الورق. باستبعاد نمط الترفيه الإلكتروني، الفردي، المنعزل. بالطبخ بما هو متوفر من خضار وحبوب، لا بما تمليه الشبكة من موائد عجيبة. بالتذكّر، خصوصا ًالتذكّر الشخصي، الخاص، فالرقيب، فوق أنه يراقبني، يريد مثل سفاح رواية جورج أورويل، أن يمحو ذاكرتي، ويوحِّد البشرية كلها حول ذاكرة افتراضية، جلّها من صنعه.

العربي الجديد

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى