ثقافة وفكر

الأرجاء الخلفية للمدن الخفية/ جان باتيست بارا

 

 

 

ترجمة: عبد الله كرمون.

“إنه على ما يبدو كتاب محبوب جدا، لدى الشعراء والمهندسين المعماريين والجامعيين الشباب”. ذلك ما صرح به إيتالو كالفينو سنة 1984 حول ” المدن الخفية” والحفاوة التي لاقاها في الولايات المتحدة الأمريكية. تنطبق هذه الملاحظة كذلك، بدون شك، على الاستحسان الذي حظي به هذا الكتاب في أوربا، بالرغم من أن قراءه يشملون أوساط شاسعة جدا. فأن يضع كالفينو الشعراء على رأس اللائحة له دلالة هامة، مع أنهم لا يشكلون على ما يبدو سحابة قرائه العظمى. فأن يثير كالفينو الاهتمام الذي أولاه أولئك لكتابه، فلأنه يعتقد بالتأكيد بأن “المدن الخفية” قد كُتب مثل قصائد. صرح في الوقت الذي كان ينجز فيه هذا العمل، والذي كان من اللازم أن يصدر سنة  1972 في رسالة موجهة إلى بيترو تشيتاتي بأنه ينحو منحى “إيقاع قصيدة النثر”. بالرغم من ذلك فإننا سنهتم بشكل خاص هنا بالصنف الثاني الذي ذكره كالفينو، وهو صنف المهندسين المعماريين. ليس باعتبارهم قراء “المدن الخفية”، ولكن حسب رؤية تسعى إلى الكشف عن تطلعات الكتاب وسبر سياق انجازه. ويجدر بنا في نفس المسعى توضيح ما لكالفينو من اهتمام بالهندسة المعمارية وبالتأملات النظرية والأعمال التطبيقية المتعلقة بها.

قام كالفينو بإيماءة غير معتادة مواكبة منه لنشر “المدن الخفية” عند الناشر إينودي سنة 1972 منجزا لحوار ذاتي، وكأنه كان حريصا جدا على توضيح بعض المظاهر الأساسية للأهداف التي توخاها:

–   أعلنت دار النشر إينودي صدور كتابك الجديد، المدن الخفية. بماذا يتعلق الأمر؟ هل هو رواية؟ أم هل هو مجموعة قصصية؟

–  إنه كتاب جد عادي، له بداية ونهاية، وإن كنا لا نستطيع اعتباره رواية. يحتوي على حكايات عديدة، وإن لم يكن كتاب حكايات مثل الكتب الأخرى. أفسر لكم كيف أُنجز: يصل ماركو بولو رحالة البندقية إلى قصر الخان الأعظم ويصف له المدن التي زارها خلال أسفاره. لكنها جميعها مدن خيالية، والتي أطلق اسم امرأة على كل واحدة منها. وليست مقابلا لأية مدينة موجودة، ومع ذلك فتتوفر كل منها على خاصية تنطبق على المدن كلها، وعلى المدينة عامة.

–   يتعلق الأمر إذن بتكييف معاصر لرحلة ماركو بولو؟ لكن هذا الأخير وصف بلاد الشرق النائية للأوروبيين الذين  لم يسمعوا بها قط. وأنت أي عالم تريد وصفه؟

–   الإحالة إلى رحلة ماركو بولو واضحة، على الأقل في البداية؛ والصفحات الأولى غنية بالأفكار التي تحيل على الشرق الأسطوري. لكن يبدو من الوهلة الأولى أن ما أرغب في تقديمه ليس سيناريو غرائبيا،  ولا حتى راهن هذا البلد المعين أو ذاك. إنني أتحدث عن معيشنا، وعما مثلته المدينة للناس، باعتبارها مجالا للذاكرة وللرغبة، وبالصعوبة المتعاظمة لأن نعيش اليوم في المدن، وإن كنا لا نستطيع إلى غير ذلك سبيلا.[…] كتبت عن كل مدينة على إثر اندفاع نزوة، تفكير، أو حلم يقظة، مثلما نكتب القصائد، على ما أظن […] إنه كتاب سخرت له حياتي على مدى سنوات، وأنا اكتب، بانقطاع، من حين لآخر. مررت بلحظات متباينة، أحيانا كنت أكتب فقط عن مدن بهيجة، وآونة أخرى أكتب تحديدا عن مدن حزينة؛ كان ثمة زمن أقارن فيه المدن بالسماء ذات النجوم، وبفلك البروج، وثمة مرحلة أخرى، أجدني فيها دائما أتحدث عن  الفضلات، وعن طرح الأزبال. لكن ليس تغير الأمزجة هو وحده ما يؤثر، هناك أيضا المطالعة، المناقشات، السياقات، الانطباعات البصرية . شاهدت، على سبيل المثال، قبل عامين، منحوتات فوستو ميلوتي، والتي تم عرضها في معرض هام في تيران، وجُعلت أتخيل مدنا متشابكة، رقيقة وخفيفة  مثل منحوتاته.

– ما دور المدن التي أقمتَ فيها في ما يتعلق بالمدن الخفية؟  إن لم أخطئ، فأنت تقضي جزءا من السنة في باريس، لكننا نلقاك عادة في توارن في مكتب دار النشر إينودي؟

–   أن تسكن في مدينة معينة لم تعد له نفس الأهمية التي كانت للأمر في السابق. يمكننا القول بأننا نعيش في عاصمة فريدة، بات الميترو الفوق أرضي اليوم مثل  ترام الأمس، يصل مختلف أرجاء المدينة بدون تقطع. وأضحى التواصل داخل كل مدينة صعباً أكثر فأكثر، وأكثر إنهاكا: ينتهي بنا المطاف بأن نحيا عزَّلا أنى نتواجد.

– هل يتعلق الأمر  كذلك بهذا في كتابك؟

–   ربما يمكن أن يكون هذا هو المعنى السليم لكتابي. بالانطلاق من المدن التي يستحيل العيش فيها إلى المدن الخفية.

بدا عنوان الكتاب عند صدوره ملغزا لدى بعض النقاد، وقد استفهم حينها أحد صحفيي جريدة الإكسبريس  كالفينو عن هذا الأمر، وكان جوابه: “خلف المدينة التي نبصرها، توجد مدينة أخرى لا نراها، وهي الأهم”. كانت تلك وسيلة للإشارة إلى الدور الأساسي المنوط بالقارئ، مثلما سجلت ذلك ليتيسيا مودينا عن جدارة: “يحوّل تعاون القراء في البناء السيميائي ل”المدن الخفية” النصَ إلى منجم من سبل التخمين البصري والفلسفي، وذلك في “لعبة منطقية وخيالية تلقائية”، منميا انحرافات متعاقبة، تنخرط  بشكل حواري في تفاعل معها، ولكن أيضا مع ملكة الخلق لدى القراء ومع الصور الحضرية والتي يجعلونها تطفو على سطح ذاكراتهم.”القراء مدعوون إذن لأن يقيموا علاقات حوارية بين العالم المتخيل والعالم الواقعي، بين “العالم المكتوب” وبين “العالم غير المكتوب”. “لا أعتقد بأن الكتاب يثير فقط فكرة لازمنية المدينة، ولكن يدور فيه خلاف ذلك، نقاش، بطريقة مباشرة أحيانا أو تلميحية أحيانا أخرى حول المدينة الحديثة”. كما صرح كالفينو بذلك في محاضرة كان قد ألقاها سنة 1983 بجامعة كولومبيا في نيويورك. أن يكون شغوفا بذلك النقاش، وأن تكون “المدن الخفية” كتابا يؤكد التزامه العميق ككاتب ومواطن يمكننا أن نتأكد من مدى صحته عندما نقرأ رد فعله الحاد، سنة 1983، على إثر تأويل سيئ صاغه الروائي فيرديناندو كامون غِبَّ حوار صحفي. فعندما أكد كامون بحزم بشكل قاطع بأن: “”المدن الخفية” كتاب يشهد على الانهيار والجزع التام حيال كل مستقبل اجتماعي، وكل نظام نناضل من أجله”، أجابه كالفينو بدون لف ولا دوران: “أرفض تماما هذا التأويل لكتابي. لأنه كتاب يتمحور حول سؤال المدينة (حول المجتمع) عارفا حق المعرفة بصعوبة الوضع، الصعوبة التي سيكون من الجرم تجاهلها، مع الاستمرار في البحث عن كنهه، وعدم الاكتفاء بالصور المعدة عنه سلفا…” ويضيف في مكان آخر: “يستشهد الجميع بالأسطر الأخيرة من الكتاب، حول الجحيم، في حين توجد قبل ذلك تلك الفقرة حول اليوتوبيا غير المكتملة والتي توضح ذلك السياق برمته.” من المفيد الإشارة هنا إلى فلتة لسان ذات معنى، عندما طابق كالفينو كلمة توتوبيا مع كلمة مدينة التي تحضر في خطاب ماركو بولو في آخر الكتاب: “إذا قلت لك بأن المدينة التي أشد الرحال إليها غير متواصلة في المكان وفي الزمن، متموقعة نوعا ما هنا أو هناك، لا يلزمك أن تخلص من ذلك، بأن علينا أن نتوقف عن البحث عنها.” إذا كانت سقطة اللسان تلك معبرة، فلأن مشروع “المدن الخفية” مرتبط بشكل وطيد بالتأكيد بانشغالات كالفينو في مجال الهندسة المعمارية  والشأن الحضري، ولكن بتطور تفكيره أيضا حول الطوباوية في الفترة التي تزامنت وكتابة “المدن الخفية”. حتى إن مفهوم “الطوباوية غير المكتملة” يحيلنا على الدراسات التي أنجزها حول شارل فورييه بعيد استقراره في باريس بسكوار دو شاتييون يوليو 1967.

***

تشهد ثلاث مقالات لكالفينو على الاهتمام القائم الذي خص به  نتاج ذلك الذي وصفه ستندال ب”الحالم السامي”: “مقدمة لمجمع المحبين” ، وهو مقال نشره في الاسبريسو سنة 1971 بمناسبة صدور منتخبات من نصوص فورييه عند إينودي، “ناظم الرغبات”، مقدمة لهذه الطبعة الإيطالية نفسها من “نظرية الحركات الأربع، و العالم الجديد العاشق، و”الطوباوية المتبخرة” والذي شكل سنة 1974 علامة على تحول حاسم في طريقته في التعامل مع الطوباوية. انتبه في نهاية الستينيات كتاب عديدون بعد أندريه بروتون و”نشيد إلى شارل فورييه” (1947)، وبعد رايمون كينو، إلى شارل فورييه أمثال: ميشال بيتور، بيير كلوسوفسكي، موريس بلانشو، رولان بارث، وآخرون. وقد أُعيد نشر الأعمال الكاملة للحالم ما بين 1966 و1968 في إثنتي عشر جزءا عند أنتروبوس. لا نستطيع  أن نتناول هنا كل مظاهر دراسة كالفينو لفورييه، لكن يجب الاحتفاء، على الأقل، بمظهرين من بينها، على الأقل، وذلك في العلاقة مع “المدن الخفية”. أشار كالفينو، من جهة، في مقدمته لطبعة إينودي، بأن إعادة اكتشاف فورييه في القرن العشرين “من طرف الكتاب والشعراء (دون أن ننسى المحللين النفسانيين) رافقه إعادة اكتشافه من طرف المهندسين المعماريين، الذين اعتبروه رائدا “للشأن الحضري الحديث”. أبان كالفينو سنة 1974، بأنه ظهر، في أواخر الحرب العالمية الثانية، بدء النزوع إلى الرجوع إلى الطوباوية على الأرضية نفسها التي يتأسس فيها الشأن الحضري مثل تخصص نموذجي، والذي يلزمه أن يضفي على مسرح حياتنا ملمحا اجتماعيا، تقنيا وجماليا.” ومن جهة أخرى، من خلال رجوعه الشخصي إلى فورييه والطوباوية، إذ قام كالفينو في مرحلة أولى بطرح فكرة طوباوية غير معيارية. لا يجب أن لا تؤخذ نصوص الطوباويين في حرفيتها باعتبارها قواعد يلزم إتباعها لبناء مجتمع جديد. إذ لن ينتج عنها أبدا سوى الفشل والهلاك. غير ذلك، فقدرة فورييه أن يرى ويصف عالما مختلفا تماما جديرة بالاهتمام من أجل قيمتها الاستكشافية، أي “مثل امتحان قدرتنا على تأمل ورؤية حرية الكل، أن نمنح معنى وشأنا لفكرة التحقيق اللانهائي لرغباتنا”. وسوف يصرّ كالفينو على هذه النقطة بحزم أكبر، حيث سنرى عنده ظهور الروح التي تحرك “المدن الخفية”: “أن نرى عالما مختلفا ممكنا وكأنه قد صار منجزا وعمليا، يعني اكتساب قوة ضد عالم ظالم، نفي لضرورته المحتومة المزعومة. […] تهمني الحيلة المنطقية الخيالية المستقلة إذا ما أمكن أن تفيد في شيء لا يمكن تعويضه: توسيع نطاق تصوراتنا، إدخال، في حدود اختياراتنا، “التباعد المطلق” لعالم مجبول، في تفاصيله كلها، حسب قيم أخرى، وروابط أخرى. إجمالا، طوباوية مجبولة مثل مدينة لم نشيدها، ولكن يكون لزاما عليها أن تتأسس في داخلنا بذاتها، أن تُبنى رقعة بعد رقعة من خلال قدرتنا على تخيلها، وعلى تصورها حتى في أدق تفاصيلها؛ مدينة يمكنها أن تسكننا-وليس أن نقطن فيها نحن- والتي بوسعها أن تجعل منا إذن السكان الممكنين لمدينة أخرى، غير الطوباوية، وكل المدن التي نشأت من الصدام بين التجهيزات الجديدة، الجوانية منها والخارجية. فأهم ما يمكن أن تعلمه لنا الطوباوية يكمن في استحالة أي تحقق”. وختم نصه بالاعتراف التالي: “الطوباوية التي أسعى إليها اليوم أقل متانة وبريقا: إنها طوباوية مسحوقة، بيضوية، طوباوية متوقفة.” يميل فورييه إلى التستر خلف هذا المفهوم، في حين تتبوأ ذرية لوكريس واجهة المشهد. وسوف نعود لزاما إلى هذا الأمر.

***

استطاع إيتالو كالفينو، وهو العارف الحازم بثقافة النهضة وبالعصر المناهض للإصلاح، أن يتأمل التداخلات والعلاقات التي كانت قد ربطت في ذلك الزمن ما بين مباحث الهندسة المعمارية والمباحث الحضرية والطوباوية. فإن كان ماركو بولو قد وصف خمس وخمسين مدينة  لقوبلي خان، في الوقت الذي توجد فيه أربع وخمسين مدينة في “طوباوية” توماس مور فليس ذلك، على ما يبدو، محض صدفة. يتلاءم مع هذا الاختلاف الطفيف في العدد، وهذا الفرق البسيط، اختلاف عميق في مرأى المدن، فهي مختلفة كلها واحدة عن الأخرى لدى كالفينو، حتى من داخل حجرات السراي بها، في حين أنه لدى الكاتب الإنجليزي، فمدن الجزيرة مبنية كلها وفق تصميم واحد وهي متشابهة كلها تماما، من جهة اللغة، البنايات، العادات، المؤسسات والقوانين. لا تحبذ الهندسة الصارمة التي تظهر لدى توماس مور نقطة محددة، ولكنها تمنح انطباعا بقوتها. وإن كان كتاب كالفينو “مركّب مثل تعدد وجوه، و ذلك بالخلاصات المبثوثة في ثناياه”. باستطاعة بنيته الرياضية أن تثير فينا الإحساس “بغياب للخطية أو للانسجام الذين يمكن أن يظهرا مثل تلاش لمعناه”. استطاع كالفينو أن يلحظ، في إطلاعه على مباحث الهندسة المعمارية لعصر النهضة مثل كتب ليون باتيستا ألبيرتي، بأن صورة المدينة المثالية التي تبرز منها، ترتكز على نقد النمو الفوضوي للمدن القروسطوية. يظهر هذا التعارض بين البنيات المنسجمة والتكاثر الفوضوي أو المشوش في وصف المراكز الحضرية في “المدن الخفية”. ليست للهندسة المعمارية وللشأن الحضري في طوباويات أنتوان فرنسيشكو دوني (العالم الحكيم والعالم المجنون، 1552) وتوماسو كامبانيلا (مدينة الشمس، 1602)، مبادئ متشابهة، إذ أُلفتا كلاهما على شكل حوار مثلها مثل العديد من مباحث عصر النهضة ومثل الحكي المؤطر ل”المدن الخفية”: فإذا كان بوسع خطاطة دوني أن تجعلنا نستحضر التصميم المقنن الصارم والثابت الذي يظهر في “طوباوية” توماس مور، فإن الفضاء الهندسي عند كامبانيلا متبدل جراء التأثيرات السينوغرافية للفضاء الحضري، مع مسحة باروكية عالية للمنظر، وبفعل كثرة التفاصيل وميل متواتر إلى التلاعب البصري. ويبدو أن كالفينو يعيد انتاج هذا التوتر الذي يظهر في مقارنة طوباوية دوني وكامبانيلا في كتابه حيث يتمظهر تناقض بين البرقشة وتنوع المدن التي وصفها ماركو بولو والرغبة في الحرص على التدقيق الذي يقض مضجع الإمبراطور.

لاحظ كالفينو في موضع معين من “الدروس الأمريكية”ما يلي: “يجسد كوبلي خان ميل المثقف لأن يوظف المنطق، لأن يهندس، لأن يستعمل الجبر، واختزل معرفة إمبراطوريته إلى تركيب لقطع فوق شطرنج: فهو يشير إلى المدن التي يصف له ماركو بولو مع تفاصيل على المحك، بترتيب معين للصوامع، للمجانين، الفرسان، الملك، الملكة، البنادق، فوق المربعات البيضاء أو السوداء” يصبو كوبلي خان مثل مسافر البندقية إلى الدقة، فلئن كان ماركو بولو، في الحين نفسه، يسعى إلى هذه الغاية من أجل وصف شامل لتباين المدن، فالإمبراطور هو يرغب أن يستقري في عمق اختلافها التحديدات والمبادئ المطردة. اختار كالفينو المدن، ما بين وفرة التفاصيل وضآلة التجريد، لكي يرمز إلى عمله الخاص ككاتب حريص جدا على الدقة، ولكنه لهذا السبب نفسه يقف على انفتاح طريقين متعاكسين أمامه: “هناك من جهة، قلة الوقائع المرتبطة بخطاطات مجردة، ما يمكن من الحساب والبرهنة على النظريات؛ ومن جهة أخرى، انتقاء الكلمات التي تصف بأكبر دقة ممكنة المظهر الحساس للأشياء.”لم يحسم كالفينو بين هذين المشوارين، وهذين الميلين إلى الدقة مفضلا المواءمة بينهما معا في توتر وأن يستكشفهما تباعا في اطراد، وفي الآن نفسه، مثلما عمد إلى ذلك في “المدن الخفية”. تظهر المفاهيم والأوضاع مزدوجة، أو قابلة للارتداد، مثل مدينة “صوفرونيا”، إذ نصفها الأول ثابت، والنصف الآخر متبدل، أو مثل “ديسبينا”، التي توري وجها مختلفا جدا للمسافر بحسب وصوله إليها عبر الباخرة أو من الصحراء على ظهر جمل. تدعو بنية الكتاب نفسها إلى مسار قراءة مضعف، أو متعدد، حسب كيفية تعاملنا معه، كانت خطية أو عرضية، تبعا للحلقات الإحدى عشر للمدن الموزعة وفق تركيبة رياضية صارمة، والتي بعيدا عن المساس بالاندفاع المجازف للقارئ، فهي تعمد دائما على إبراز مدينة جديدة مثل رؤيا، مثل مشهد مشع، والذي ما يفتأ يتلاشى مثل تلك الأيقونات التي يخطها الفنانون اليابانيون بالماء فوق الأرض. هل يتوسل الكتاب من القارئ إذن مسارا مشابها للمشاوير في مدينة ما، ما بين حسن التوجيه والضلال؟ مثل ما قاله فالتر بنيامين: “ألا تعثر على طريقك في مدينة، أمر هين. ولكن أن تضل في مدينة مثلما نتيه في غابة له دلالة كبرى”.

***

“أعتقد أنني كتبت ما يشبه قصيدة حب أخيرة للمدن، في الوقت الذي بات فيه من العسير أكثر فأكثر السكن فيها باعتبارها مدنا”، ذلك ما قاله كالفينو في محاضرته سنة 1983 بجامعة كولومبيا. إن اهتمامه، بهذا الشأن، لم يتزامن فقط بظهور “المدن الخفية”. إنه تعود إلى سنوات الخمسينيات، مثلما تدل على ذلك “المضاربة العقارية”، وهي رواية قصيرة نُشرت في مجلة “بوتغ أوشير” سنة 1957، ثم عند إينودي بعد ذلك سنة 1963. فضح فيها كالفينو “حمى الإسمنت” التي استولت على لاريفيرا وبروز مجتمع الاستهلاك والمقاولين الجُشّع. “إنه زمن جزر على المستوى الأخلاقي” مثلما أعلن ذلك سنة 1958 في حوار معه.

دفعه البناء الحضري العشوائي الذي لاحظه في أماكن مختلفة من العالم، ولكن في إيطاليا على وجه الخصوص، لأن يتبنى هذا الاقتناع: “إنه لمن أزمة نمو المدينة نفسها يجب أن تبزغ صورة مدينة المستقبل”. “المدن الخفية” بالنسبة لهذا الكاتب “المتعود على أن يرى في الأدب مبحثا عن المعرفة” كان وسيلة لأن يتدخل في النقاش حول المدينة والهندسة المعمارية الحديثة.

ربط إيتالو كالفينو علاقات مع بعض المهندسين المعماريين خاصة منهم دجيونكارلو دي كارلو، وكذا مع مؤرخي الهندسة المعمارية مثل جوزيف ريكويرت أو برينو زيفي. تعود صداقته مع جيونكارلو دي كارلو إلى أواخر الخمسينيات، في الفترة التي اعتادا فيها قضاء عطلتهما في البوتشا دي ماغرا في الليغيريا. وكان كتاب مختلفون يترددون على منطقة الريفيرا الشرقية، من ضمنهم إليو فيتوريني، تشيزاري بافيز، والشعراء، فيتوريو سيريني، وفرانكو فورتيني، والناشر دجيوليو إينودي، ولكن أيضا مارغريت ديراس وروبير أنتيلم، صديقي فيتوريني الذي أصدر سنة 1959 مع كالفينو مجلة “ألمينابو”. لقد أتى جيونكارلو دي كارلو في حوار معه على محادثاته مع إيتالو كالفينو قائلا: “كنا نجلس فوق حائط واطئ وندردش. كنا نتحدث عن المدن. وبعد ذلك صدر كتاب “مدن العالم” لفيتوريني، و”المدن الخفية” لكالفينو. كنت أشتغل في تلك الفترة لفائدة شركة أربينو. ينتج الأدب صورة المدينة، نقد المدينة، ويحاول المهندس المعماري مقاربة ذلك. كانت تلك، في اعتقادي، الدردشة مفيدة لكلينا. كنا نتحدث عن المدينة حسب رؤى محتلفة تماما، أقصد تعقيدها. تحدث كالفينو عن كيفية رؤية هذا التعقيد والخيوط التي تصل مختلف تمظهراته، أما فيتوريني فيستحضر مدن الجنوب وكثافة أنسجتها الحضرية.”

كان كالفينو متأثرا بأعمال دي كارلو، وهو مهندس معماري تثير انجازاته الذهن وتحرض على إنشاء علاقة فعالة وحميمية مع الأمكنة ،حسب الحلول المتعدد عبر فضاءاتها،  وكأنها تتضاعف على الدوام، لأنها تمنح حدا أقصى من التشكلات انطلاقا من عناصر بسيطة. ليس هناك تقريبا، في مشاريع دي كارلو، أبدا مسارا فريدا للوصول إلى مكان، أو للعبور من فضاء خاص إلى فضاء عام، ولكن تنوعا في المسارات الممكنة. يمكن أن تسحرك فيها بشكل سلس إبداعيته، حسب مشاور قادرة على اتخاذ وجه انعطافة. قال دجيوكارلو دي كارلو أيضا: “أتى إيتالو كالفينو إلى أوربينو، وقضى ليلته في الكوليج دي الكولي، وفي الصباح سألته بماذا أحس به في هذا المكان الفريد نوعا ما. أجابني بأن كل شيء راق له كثيرا، ولكن الشيء الذي أحبه كثيرا أنه في هذا الكوليج بوسع المرء أن يخرج في الصباح لملاقاة حبيبة قلبه: يبدأ إذن هذا الشخص في تتبع مسار، ولكن هذا المسار يتفرع في لحظة معينة، ثم يتفرع أكثر، يصعد ويهبط، يمضي في انحراف ويتيح دائما اختيارات أكثر. حتى اللحظة التي نصل فيها إلى مفترق طرق حيث نلتقي بفتاة تروق لنا أكثر إلى درجة أن ننسى معها الأولى: كذلك تتغير الحياة ويكون المعمار هو سبب ذلك”.

يتوفر ايتالو كالفينو في مكتبته على كتب عديدة للهندسة المعمارية وحول الشأن الحضري. فعمله ضمن طاقم دار النشر إينودي مكنته من الاتصال المباشر بمنشورات الدار في هذا المضمار.

استطاع أن يكتشف، سواء بالفرنسية أو بالإيطالية كتبا مهمة تُرجمت في سنوات الثلاثينيات سواء تعلق الأمر بكتب لويس مومنفور (المدينة عبر التاريخ، تاريخ الطوباويات…) أو كتب جيورجي كيبس والذي قدم جيونكارلو دي كارلو ل”ملاحظات حول التعبير والتواصل في المشهد الحضري” سنة 1970 والذي تُرجمت له كتب كثيرة بالفرنسية وخاصة “تربية الرؤية”.

نحن متأكدون بأنه قد قرأ أيضا عن كتب واستفاد كثيرا من “صورة المدينة” لكيفين لانش، وهو زميل كيبس في مركز الدراسات الحضرية بجامعة هارفارد. ففي هذا الكتاب الذي كان له صدى مشهورا في أوساط الهندسة المعمارية والشأن الحضري، اقترح لانش مفهوم “المرأى” “المدينة التي تمتلك “مرأى” هاما يلزم أن تبدو مشكّلة بشكل جيد، واضحة، ومرموقة، عليها أن تحرض العين والأذن لأن تزيد من انتباهها ومشاركتها […]تمتلك بيئة جميلة خاصيات أساسية: معنى، قوة تعبير، بهجة للحواس، إيقاع، خاصيات محفزة، وغموض.” عندما يدعونا لانش لأن “نتعلم أن نرى الأشكال المخفية في خضم مدننا المترامية الأطراف”، فكلامه هذا قد تردد مثل صدى لعنوان “المدن الخفية، ومع سلسلة “المدن المخفية”، والتي قال كالفينو بصددها: ” تعود الكلمة الفصل، بعد “المدن المتقطعة”، إلى “المدن المخفية”. يمكن لمدينة حزينة أن تحتوي، ولو للحظات على مدينة بهيجة؛ فمدن المستقبل موجودة أصلا في المدن الحالية مثل حشرة في الشرنقة.” من جهة أخرى فمرافعة كيفين لانش في سبيل ترويض النظر رافقت الهدف العميق الذي حفّز كالفينو في كتابته لعمله: “لتطوير الصورة، فترويض النظر يكون هو أيضا مهمّا مثل تهذيب ما ننظر إليه. ذلك أنهما يشكلان معا سيرورة دائرية، أو بالأحرى، شكلا لولبيا: ترويض النظر يدفع ساكن الحاضرة لأن يعمل في العالم الذي يبصر، وهذا الفعل سيجعله يرى أيضا بشكل أكثر حدة. وجود فن التركيب الحضري المتطور جدا، مرتبط بجيل جمهور ناقد ومتمعن. إذا كان الفن والجمهور يتقدمان معا، فإن مدننا ستصير مصدرا يوميا لمتعة عدد كبير من ملايين ساكنتها.”حسب دجياني سيمادور، فأهمية الصورة عند كالفينو مثله مثل لانش، تكمن في كونها تعبر عن محاولة عقلانية للرد على أزمة الشكل الحضري المعاصر، نتيجة صيرورة عامة أكثر لتحطيم كل التراتبيات، بما فيها معنى الواقع نفسه، حيث يمكن أن نراجع قلب التقليد الحديث ونواته المثالية، والتي تجسدها أفكار العقل والتقدم: إنها الصيرورة التي تبرز في الهندسة المعمارية ما بعد الحداثة، والتي يتم في داخلها أفول القيمة الثقافية والتاريخية للفن على حساب قيمته الاستعراضية؛ أي الطابع المؤقت  والتزييني للأشياء المحولة إلى أطياف فارغة وقابلة للتبديل، خالية من الحجم الأنتولوجي.” اختيار الأسلوب المتجاور يسعى إذن إلى تثمين التصنع، المبهم والمتنافر، على حساب التناغم والتلاحم. انتبه دجياني سيمادور إلى إحالات عديدة للهندسة المعمارية المابعد حداثية في كتاب كالفينو، ويتعلق أكثرها بروزا بكلاريس، المدينة التي تنهدم وتنشأ عبر العصور مقتاتة من البقايا المتشظية من ماضيها، دون أي معنى لتاريخها الخاص: “لقد ضاع حبل تسلسل مختلف الأزمنة، فأن تكون هناك كلاريس أولى متأت من اعتقاد غامض لا تؤكده أية حجة. لا نعلم سوى ما يلي من لدن البعض: بأن عددا من الأشياء تغير مكانها في فضاء معين، أحيانا تغمرها طائفة من أشياء جديدة، وأحيانا بأن تتدمر دون أن نعوضها، فالقاعدة هي أن نخلطها كل مرة محاولين أن نجعلها مرة أخرى ملتحمة معا.           ولعل كلاريس لم تكن قط إلا ركاما من بقايا مفتتة، شاذة، غير قابلة للاستعمال.”

تلوح من ضمن انشغالات كالفينو التي برزت في “المدن الخفية”، بشكل ضمني، مسألة التخطيط الحضري في نصوص عديدة، وخاصة في سلسلة “المدن والسماء”. مثال بيرينتي. إذ يلزم أن يعكس تصميمها الدقيق جدا، المقسم من طرف الفلكيين “حسب المنازل الإثني عشر لبرج البروج”، “تناغم قبة السماء”، وأن يؤثر بشكل إيجابي على السكان. في حين أن المدينة التي يصفها ماركو بولو مأهولة بكائنات غريبة، “معطوبون، أقزام، حُدب، سُمن، نساء ذوات لحية، […] أطفال ذووا ستة سيقان أو ذووا ثلاثة رؤوس”. ويُختتم الحكي بشكل مشابه: “يُوضع فلكيو بيرينتي حيال خيار صعب: إما أن يقروا بأن توقعات الحساب خاطئة، وأن أرقامهم فشلت في وصف السماء؛ أو أن يعلنوا بأن الحكمة الإلهية، هي ما تعكسه، تحديدا، مدينة الوحوش.” يُحيل وصف بيرينتي بشكل رمزي إلى تجارب حضرية تفصلها هاوية ما بين المصداقية التي نمنحها في البدء للمشروع وللتصميم، وبين النتائج الحقيقية التي تبوء بالفشل. يمكن أن نضرب مثلا لذلك بحي السكن الاجتماعي الكبير بريت إيكو المشيد في بداية الخمسينيات في سان لويس (ميسوري) من طرف مينوري ياماساكي، المهندس المعماري الذي سوف يشيد لاحقا المركز التجاري العالمي. كان قلب المدينة مقسما في البدء إلى ناحيتين، إحداهما للبيض، والثانية للسود. فعندما أُلغي في سنة 1956 قانون الميز في السكن بالميسوري غادره جل المكترين البيض. تُرك حي بريت إيكو وأُهمل في جانب كبير منه، ودُمر ابتداء من سنة 1972.كانت مجلة صوت الهندسة المعمارية قد منحت مع ذلك قبل عشرين سنة جائزة “أفضل سكن ممتاز” للعام لذلك المشروع.

تظهر انشغالات ومخاوف  كالفينو الأخرى في سلسلة “المدن الممتدة”. يمنح النمو السريع لتراد المسافرَ الانطباع بأن المدينة وضواحيها قد انتهى بها الحال لأن تغطي الأرض برمتها: “يمكن أن تعاود الطيران متى شئت”، يقول سكان تراد لماركو بولو الذي سافر هذه المرة على متن الطائرة، “لكنك ستصل إلى تراد أخرى، مشابهة ركنا ركنا، فالعالم تلفه تراد واحدة والتي لا تبدأ ولا تنتهي: إذ يتبدل فقط اسم المطار.”هذا النص استوحاه كالفينو على ما يبدو من سفرته في الستينيات إلى الولايات المتحدة الأمريكية. في أحد تقاريره المكتوبة. مثال مدينة كليفلاند في تلك الفترة، وكتب حينها ما يلي: “هناك أيضا وسط المدينة، وحي للمكاتب، لكن المدينة السكنية قد اضمحلت، وامتدت على مساحة شاسعة مثل واحد من أريافنا. تقطن بها الطبقة المتوسطة في بيوت مكونة من طابقين، منتشرة في أحياء مترامية حيث تتشابه أزقتها كلها. لا يمكن أن نخطو فيها ولو خطوة دون أن نقل السيارة، لكوننا لا نرى فيها مكانا نود أن نرتاده. […] اعتقدنا أن زماننا موصوم بقدر هام من التركز الحضري. لكن الأمر لم يعد شأن اليوم. “نتواجد اليوم في مرحلة السحق الحضري.” نفكر في بونتيزيلي، وهي الأخيرة في سلسلة “المدن الممتدة”، شبيهة “بفقاعة حضرية تتلاشى في السهل.” هل بونتيزيلي تتوفر على خارج؟ أو بالمقدار الذي تنأى فيه عن المدينة، بمعنى آخر، لا تعمد سوى إلى أن تمر من جهة إلى أخرى دون أن تستطيع الخروج منها؟” لا يمكن ذكر”المدن الممتدة” لكالفينو دون التذكير بالمشروع المضاد للطوباوية والمعنون بالمعلمة المستمرة الذي أنشأه سنة 1969  مهندسي سيبيرستيديو المعماريين. في بصريات هذا العمل المعماري، بنيات مكعبة من زجاج عاكس، كلها متشابهة وإن كانت موضوعة حسب هندسات مختلفة تخترق كوكبنا بشكل موحد.

تثير ليتيزيا مودينا في بحثها “معمارية الضوء لدى إيتالو كالفينو” انتباهنا حول كون كالفينو قد أقام بباريس في الفترة التي كانت فيه مقترحات “مهندسين معماريين رائيين” هي السائدة في النقاش الدولي حول المنشآت الهائلة. يتعلق الأمر دوما، بالنسبة لحركة أرشيغرام كما بالنسبة ليونا فريدمان، بول مايمون، نيكولا شوفر، إيانيس كزيناكيس، أو الميتابوليست اليابانيين، بإثارة دوباويات نقدية، شعرية، هزلية أو محرضة. قد يحتفظ ذلك المشروع التجريبي، الذي لا يتحقق بشكل فعلي، بقيمة مستقبلية أو بقدرة على تحفيز المخيلة والفكر، وأن كان مرهونا لأن يظل أسيرا للخطاطة أو التصميم. تنتمي حسب ليتيزيا مودينا، بعض مقترحات أولئك المهندسين المعماريين إلى “المجال الحضري الفضائي”، وربما تأثير إعجاب كالفينو بها هو ما نلمسه من تقارب بينها وبين سلسلة “المدن المنسلة”. غير ذلك، عثر الكاتب، باعترافه الشخصي، في المنحوتات الخفيفة والرفيعة التي كادت أن تفارق المادة لفوستو ميلوتي، والتي يرى فيها “دعامات السعادة” الحقيقة، على السند الأساسي لمتخيله الحكائي. أعلن كالفينو في حواره مع الاسبريسو سنة 1972 حول “المدن الخفية” ما يلي: “صارت صور المدن البهيجة التي تظهر نادرة، خيطية، وكأن خيالنا المتفائل لا يمكن له أن يكون اليوم إلا مجردا، يتنكر لكل صورة يمكن تبينها. بعدما تعرفت على النحات فوستو ميلوتي، أحد أهم الفنانين التجريديين الإيطاليين، والذي لم يُكتشف، ولم يُبوأ المكانة التي تليق به إلا في شيخوخته، شرعت أكتب المدن المنسلة وفق منحوتاته: مدن مشيدة على ركائز، مدن على شكل نسج عنكبوت. على كل، هناك جانب من كتابي يسعى إلى تحقيق الخفة”.

***

يرد مفهوم المرونة باستمرار في التأملات والنقاشات حول الهندسة المعمارية المعاصرة وفي مقترحات عدد من المهندسين المعماريين. لا يتعلق الأمر بمسألة جديدة كما يشهد على ذلك حضور وجود مادة “مرونة” في القاموس التاريخي للهندسة المعمارية لكواترومير دو كينسي (1832). يُحكى أن فرانك اللويد رايت يسأل طلبته الذين يشرف على أعمالهم: “والآن ماذا علينا أن نزيله؟” تظهر المرونة من خلال أوجه متعددة، سواء كانت من صنف مفاهيمي، تقني أو جمالي، من مشروع المعلمة إلى الأممية الثالثة في تتلين حتى خطاطات بوهاوس، إلى فيلا فرانسوورث لميس فان دير روه إلى الرسومات والتصاميم لأنستون سيتي التي أنجزتها جماعة أرشيغرام، من سكن اللاجئين لشيجرو بان إلى بوابة السلام المنجزة في سيول من طرف ريدي ريتشيوتي. وهي تشكل حسب كل المظاهر أحد الموضوعات البارزة في العلاقة التي تربطها الأوساط المعمارية مع “المدن الخفية”.

كتاب كالفينو مكتوب بيد مرنة، وهو منجز بحرص على ضرورة المرونة في بنيته الحكائية، ومضمخ بكآبة خفيفة تشف من الحوار بين ماركو بولو، الذهن الزئبقي، وكوبلي خان، الذهن الحزين، ما يجعل الخفة من أهم خصائص الكتاب. يجب الاتفاق بطبيعة الحال حول معنى الكلمة. لأن الفرنسية لا تتوفر سوى على مرادف واحد لها في حين أن الانجليزية تفرق ما بين كلمتي خفة ورقة. تكتسي الخفة لدى كالفينو بعدا أخلاقيا، وقد سعى في دروس أمريكية إلى رفع كل لبس: “هناك خفة المشغول البال، كما توجد، مثلما يعلم الجميع، خفة المستهتر؛ ويمكن أن يبدو الاستهتار ثقيلا ومعتما فوق ذلك، من وجهة نظر خفة المشغول البال”. إن اللزوجة المضطرمة والتصلب، فتور الخيال وجمود الفكر، الثقل والعتمة في كل المجالات، هو ما كان كالفينو يسعى جاهدا إلى معارضته في نهاية الخمسينيات، هذا الصراع الذي يستمد شعاره في قلب “دروس أمريكية” من شخصية بيرسيوس وهو يجابه ميدوزا.

وقد وجد كالفينو في هذا المضمار في لوكريس “حليفا هاما”. سبق له أن نوى منذ 1957 ترجمة كتاب “حول الطبيعة”. أعلن في حوار له سنة 1985 مع بول فورنيل ما يلي: “أداوم على قراءة كتابين هما “حول الطبيعة” للوكريس ، و”تحولات” أوفيد”. أرغب أن يرتبط كل ما أكتبه بأحدهما أو بالآخر، أو بهما معا”. حسب مذهب لوكريس، تنجز”الطبيعة عملها بواسطة الأجسام الخفية”. تبتعد الذرات في سقوطها في الفراغ، عن مسارها، وتمكنها هذه الانعطافة أن تُدمج بعضها في بعض. كذلك تولد الكائنات والعوالم في صيرورة إعادة خلق مستمرة”. اهتم ماركس الشاب في مبحثه الأكاديمي حول اختلاف فلسفة الطبيعة عند ديموقريطس وأبيقور عن كثب بالانعطاف عند لوكريس عن كثب. اعتبرت فرنسين ماركوفيتش بأن “”الانعطاف” في تاريخ الفلسفة هو ما دفع بماركس أن يتعرض للغائية الهيجلية وأن يعارضها بهندسة الممكنات”. وقد استساغ كالفينو هذه الصياغة الأخيرة-هندسة الممكنات-. لأفكار التباعد، الانعطاف، التلاقي الاتفاقي التي تتصل بالانعطاف  والتي لها تبعات أبعد من مجال الفيزياء. يكسر انعطاف الذرات صلابة العلة الغائية ويفتح أفقا يجد فيه الفعل الإنساني هامشا من الحرية يمكّن من نشوء نوع من الأخلاق. صار للرجوع إلى لوكريس عند كالفينو تبعات أخلاقية، والتي تُستشف ضمنيا في فنه كما في السطور التي خص بها الشاعر اللاتيني في دروس أمريكية: “حول الطبيعة للوكريس هو أول عمل شعري عظيم حيثت تؤدي معرفة العالم إلى إذابة صلابته، في تملي ما هو جد صغير، متحرك، خفيف. يريد لوكريس أن يكتب قصيدة المادة، غير أنه يعلمنا منذ البدء، بأن الحقيقة الحقة لهذه المادة تتكون من جسيمات خفية. شرع شاعر الملموس والفيزيقي هذا، في مواده الدائمة والجامدة، بقوله لنا بأن الفراغ ليس أقل واقعية من الأجسام الصلبة. قد يقول قائل أن أهم ما يقلق لوكريس هو تلافي أن يدهسنا ثقل المادة. أحس برغبة أن يمنح للذرات انعطافات غير متوقعة في العلاقة مع الخط المستقيم، وهو على وشك أن يرسي القوانين الصارمة التي تحدد كل حدث بالكيفية التي يجعل فيها حرية المادة مضمونة وكذا حرية الكائنات الإنسانية أيضا. يولد شعر اللامرئي، شعر الممكنات غير المتوقعة واللانهائية، مثله مثل شعر اللاشيء من شاعر لا يشك قيد أنملة في الصبغة الفيزيقية للعالم.”

لوكريس، مثله مثل بريسيوس، هما شخصيتان يقابلهما كالفينو بما يسميه “غول ميدوزا”، ذلك الشلل المضر، والجمود الدائم الذي يطبع على سبيل المثال زورا، في “المدن الخفية”: “اضطرت أن تظل ثابتة وملازمة لطبعها لكي نتذكرها بشكل أفضل، سُقمت وخرت قواها، ثم قضت. ونساها القوم.” أما زنوبيا فهي تحركها خلاف ذلك روح لوكريسية: “…لو طلبنا من أي واحد من سكان زنوبيا كيفما كان، أن يقول لنا كيف يرى سعادة العيش، فإنه سوف يتخيل دائما مدينة مثل زنوبيا بأوتادها وسلالمها، زنوبيا ربما مختلفة، تنشر الرايات والأشرطة، ولكن ينقصها دائما تنسيق عناصر ذلك الأنموذج الأول. يعني هذا، أننا لا ندرك إن كنا سندرج  زنوبيا ضمن المدن السعيدة أو الحزينة. لا يوجد معنى توزيع المدن بين هذين الصنفين ولكن بين صنف: المدن التي تستمر عبر السنون والتغيرات في منح شكل للرغبات، وصنف المدن التي تقوم هذه الرغبات نفسها على طمس المدينة، أو تكون هي المطموسة من طرفها.

ذات صباح، عند الفجر، بينما طالت محاورتهما الليل كله. قال ماركو بولو للسلطان:

– سيدي، قد حدثتك الآن عن المدن التي أعرفها كلها.

–  هناك واحدة لا تتحدث عنها أبدا.

طأطأ ماركو بولو رأسه.

البندقية، قال الخان.

ابتسم ماركو.

–  وعما ذا كنت تظن أنني أحدثك؟

لم يرمش الإمبراطور.

–  لم أسمعك مع ذلك تنطق اسمها أبدا.

–  كل مرة أقوم فيها بوصف مدينة ما، أقول دائما شيئا عن البندقية.

البندقية بالنسبة لكالفينو مدينة المستقبل وليست فقط كنز الماضي. كانت إحدى رؤاه الكابوسية هي تخيل البندقية مدينة جافة، تخترقها مجارٍ عميقة، أو بندقية تُطمر فجأة كل قنواتها. مدينة بلا بحيرات، بدون ماء وبلا ضفاف. كان مقتنعا بأنه ستكون للماء مكانة متعاظمة في الحضارة الحضرية. إذا كانت البندقية في خلده مدينة المستقبل، فلأنها لم تمر تماما في رأيه بمرحلة التاريخ الإنساني، الانتقالي في رأيه، حيث رسخ بأن المستقبل غير ممكن بدون سيارات. كان يتخيل عالما تنتعش فيه مدن بندقية أخرى، أو مدن “بندقية عجيبة”، بطرق مرور متخذة في علو متباين، وتتفرع في قنوات صالحة للملاحة، طرق لسيارات بأرائك من هواء، سكك هوائية، وسكك حديد في الهواء، تحت الأرض أو مغمورة بالماء، حدائق معلقة، قناطر متحركة للراجلين وكذا في ذكرى ماركو بولو؟- ممرات للخيول وللجمال…لم يكن يتخيل أن البحيرة الشاطئية ستخترقها يوما الغيلان، التي تشكلها البواخر الهائلة للرحلات البحرية، والتي أوشكت أن لا تبقى باعتبارها مدينة ولكن “سوقا تجاريا”، مثلما يتوجس من ذلك روبيرتو فيريتشي.

“القوة التي تؤثر فيها البندقية على المخيلة هي قوة النموذج المثالي الحي الذي يفضي إلى الطوباوية”، ذلك ما صرح به كالفينو سنة 1968. وذلك في نص ظهر أول مرة بالألمانية في مجلة  مريان سنة 1974 تحت عنوان “أومن بمستقبل البندقية” حيث وضح كلية آراءه في في هذا المضمار. نقدم هنا مقتطفات طويلة من هذا النص الذي لم يترجم بعد حسب علمنا إلى العربية.

الخط الأقصر الذي يربط بين نقطتين ليس هو الخط المستقيم، خلا في البنيات التجريدية لأقليدس. البندقية هي أول مدينة ضد أقليدسية، وهي لهذا السبب المدينة التي أمامها مستقبل زاهر. فمفهوم الخط الأكثر قصرا بين نقطتين هو قبل كل شيء نسبي: يختلف حسب نوع الحركة ونوع الجسم الذي يخط المسافة بين النقطتين. عندما رسخت البندقية أن ممر السيارات وممر الراجلين لا يتطابقان أبدا، جعلت بذلك من نسبية الفضاء تلك في الحركة مبدأها الأساسي. لكي نثير الانتباه إلى هذه القاعدة- مثلما نشير على خارطة إلى هذين الصنفين من الطرق بلونين مختلفين-، تميز البندقية ممرات السيارات باعتبارها طرقا بحرية مفرقة بينها وبين الطرق الأرضية للمارة؛ فهي تطابق على العموم شبكتين، إحداهما صلبة والأخرى سائلة، مشكلة بذلك خطوطا تستطيع أن تنظم وتقلب بطرق مختلفة وهي تربط بين كل نقاط المدينة حسب البعدين الاثنين المائي والأرضي.

يعني المنزل الذي يتكون من طابقين، في كل الحضارات التي ظهر فيها، التقاء بعدين أساسيين للحياة الإنسانية: البعد الأرضي والبعد الجوي؛ ويعني في البندقية التقاء ثلاثة أبعاد: أرضي، جوي ومائي.فأحد أهم مواصفات الجنس البشري هي أنه عرف جزءا  كبيرا من تطوره ليس على الأرض، ولكن في الجو، فوق الأشجار؛ فمسار التطور الذي يوجد الإنسان في نهايته قد مر من الحياة المائية إلى حياة العيش في الأشجار، ففي مرحلة ثالثة فقط وصل إلى الحياة الأرضية. لذلك تسعى الحضارة الإنسانية إلى حلول توفق بين مظاهر الحياة الثلاثة، الأرضي، الهوائي والمائي. وترضي هذه التقريبات المتوالية (مغارة، منزل فوق الماء، قصر، كوخ، ناطحة سحاب، إلخ.) حينا واحدة من إمكانيات الحياة هذه حينا أخرى. في هذا الإطار، فالبندقية كحل هي من التقريبات الكاملة من أجل مشروع وسط إنساني متعدد الأبعاد.

لا شيء يمنح بعدا إضافيا أكثر سوى منازل البندقية التي تُفتح أبوابها على الماء؛إنه دائما تحد للكسل الذهني للإنسان البري، لأن يتعود فكره على أن الأمر يتعلق هنا بالباب الحقيقي، وأن الباب الآخر الذي يفضي إلى الساحة أو إلى الحي، هو باب ثانوي فقط. لكنه يكفي التفكير لحظة فقط لفهم أن الباب الذي يفضي إلى القناة يربطنا ليس بطريق مائي معين فحسب ولكن بكل طرق الماء على طول الامتداد السائل الذي يلف الكرة الأرضية. يتجلى التشابه الحقيقي هنا بين ملتقط الذبذبات الهوائية للمذياع والتلفزيون: يتعلق الأمر هنا أيضا بباب يُفتح على بعد آخر، خفي ولامحدود )باب يتلقى فقط مثل هوائية التلفزيون المنزلي، لأنه يكتفي بتلقي الرسائل؛ فالباب الجوي على كل الأكثر قدما، أو بعبارة أخرى النافذة، هي باب غير فعال وذلك لأننا نكتفي بتلقي معلومات الخارج بواسطتها؛ لا تشرع هذه الأخيرة ترسل هي أيضا رسائل إلا عندما تقف النساء مستندات إلى حافاتها  كي نراهن؛ من هنا صار الاستعمال الفعال للنافذة هو الترف الخاص للمنتحرين، للرماة وللنساء اللائي ينشرن الغسيل). ذلك ما نستشعره في منازل البندقية: يفضي الباب البري إلى جانب من عالم محدود، إلى جزيرة، في حين يفضي الباب الذي يُفتح على الماء مباشرة إلى بعد بلا حدود.

عندما قلت بأننا نستشعر هذه الأشياء لم أعبر كما يليق على ما أعتقد: يتعلق الأمر بمناخ نفسي معين تفرضه البندقية حولنا، -هندسة خاصة أو-كما كنت أقول- غير أقليدي  والذي يطلق عنان خيالنا عبر طرقات غير مألوفة؛ بينما ليس هناك على مستوى الأحاسيس المستشعرة، ما هو أكثر لامحدودية، يُفتح الفضاء وينسد أمامنا حسب مظاهر مختلفة دوما. فأقصى التنوع، وعدم التشابه في تجربة متجانسة هو النتيجة المذهلة للبندقية. […]

نلحظ أكثر فأكثر في مشاريع مدن المستقبل دائما ظهور نموذج البندقية، في مشاريع الحضريين، لحل مشكل السير في لندن مثلا: ثمة طرق مخصصة للسيارات التي تمر في العمق، في حين يسير السابلة في أزقة مرتفعة وفوق الجسور. صارت في وقتنا الحاضر كل المدن متأزمة: وأضحى العديد منها غير صالح للعيش؛ وبات لزاما على عدد كثير منها أن تُعاد بنيتها أو أن يُعاد إنشاؤها من جديد حسب تصاميم مطابقة لنموذج البندقية. لكن السعي إلى التفكير في بندقية جافة يعني بتر النموذج  مما يميزه في العمق: المدينة المائية مثل نموذج أصلي للمخيلة ومثل بنية تستجيب لحاجات أنثربولوجية أساسية. أثق في مستقبل المدن المائية، في عالم مأهول ب “بندقية” متعددة. […]

تنتقل البندقية لدى كالفينو من النموذج الأصلي إلى مرتبة النموذج المثالي. ما ليسته، بالمعنى الصارم، حواضر “المدن الخفية”، هذا الكتاب الذي اعتبره النقاد “صعب الإدراج في خانة ما”، “متقلب” ومتغير دائما في استفهامه المجازي حول الواقع. ربما يشبه إذن، من وجهة نظر معينة، الشيء العجيب الذي تحدث عنه بودلير: “شيء متغير، واع، يجسد لدى كل حركة من حركاته حياة متعددة وترفا نشوانا لعناصر الحياة جميعها”. فهو مشكال تُحركه بشكل مواز يدُ قلق ويد رغبة. ذلك أنه حسب كالفينو، فالذي ينقله لنا الكتاب الكبار، “هو معنى أشكال مقاربة التجربة أكثر منه معنى التجربة المتقنة؛ وسرهم هو حسن الحفاظ على قوة الرغبة سليمة.”

تحدث جون أوبديك بخصوص الترجمة الأمريكية  لـ”المدن الخفية” والتي أنجزها وليام ويفير، عن “ملحمة حضرية رائعة”، ولاحظ ما يلي: “يوحي الإشعاع  الذي لا يفتر لخيال كالفينو، إلى أي حد يهتم بالطريقة التي  يتعايش بها الناس.” يتعلق الأمر بشيء ثابت عند هذا الكاتب، عبر كل التجدد الذي أفضى إليه نتاجه كله. كان قد أكد ذلك مرة أخرى في محاضرة في 1983 حول “المدن الخفية”: “أسمع بعض الأصدقاء المهتمين بالشأن الحضري يقولون بأن الكتاب يمس عددا من جوانب إشكالياتهم، وليس ذلك عبثا لأن انشغالنا معا واحد. ومدينة “الأرقام القياسية” لا تظهر فقط قبيل آخر الكتاب؛ وحتى ما يشبه ذكر مدينة عتيقة، لا معنى له إلا إذا فكرنا فيها وكتبناه، واضعين نصب الأعين مدينة اليوم.

مجلة أوروبا عدد مارس 2017.

(عدد خاص حول الكتابة والهندسة المعمارية)

ضفة ثالثة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى