موسيقا

الموسيقا بين البقر والإنسان/ سلام الكواكبي

 

 

 

في العقود الأخيرة، تطورت الأبحاث العلمية في مجال تطوير الثروات الحيوانية في مختلف أصقاع العالم، وقد تبيّن بشكل شبه محسوم بأن الموسيقا الكلاسيكية ترفع نسبة الإدرار لدى إناث المواشي كما أنها تسبب ارتياحاً عصبياً يُؤثّر على نوعية اللحم الأحمر المخصص للاستهلاك الإنساني. وقد عمد العلماء والخبراء المتخصصون بهذه الأمور العلمية الموصوفة، إلى الحثّ على تقديم الموسيقا كما ولو أنها طبقٌ غذائي عندما يُتاح لهم إلى ذلك سبيلاً. وبدا للمراقب بأن المُزارع في المدن المتطورة يسعى بشكل منهجي إلى إسماع الموسيقا الكلاسيكية لمواشيه ويحصل بذاك على أفضل الأنسال . وفي أكثر من مجال، تبين أن للموسيقا، وخاصة الكلاسيكية منها، تأثيراً إيجابياً على المرضى من الأطفال، مما دفع كثيراً من المستشفيات المتخصصة إلى تنظيم جلسات استماع للاستفادة القصوى من هذا العلاج. فالموسيقا عموماً، والكلاسيكي منها خصوصاً، عاملٌ مساعدٌ على تعزيز الشعور بالاطمئنان وعلى هدوء الأعصاب وصفاء الروح.

في المقابل من الحيوانات والأطفال المرضى، استعرض التاريخ عدداً لا بأس به من مواقف تم توثيقها لكبار رجال العصابات المنظمة في أمريكا وفي أوروبا التي سطع نجمها في عشرينات القرن الماضي كآل كابوني والمافيا بمختلف عرّابيها وأسمائهم، الذين كانوا يستمعون إلى الموسيقا الكلاسيكية كما كانوا يحضرون حفلات الأوبرا ويبكون تأثراً على الرغم من حملهم لوزر المئات بل الآلاف من حيوات الناس الأبرياء. وبالتوازي مع حب القتلة من أهل العصابات للموسيقا الكلاسيكية وتعلّقهم بها تأثّراً، برزت العلاقة الجدلية مع الموسيقا لشخصيات سياسية اشتهرت بحبها للقتل والتدمير كما استعباد البشر إضافة إلى حروبها المجنونة للسيطرة على العالم كما أدولف هتلر وبنينو موسوليني. وكان المجرمان آنفا الذكر، يستمتعان بالاستماع إلى فرق موسيقية محترفة في كبريات الصالات الألمانية او الإيطالية. وتقول بعض كتب التاريخ إنهما كانا على علمٍ لا بأس به بتاريخ الموسيقى الكلاسيكية بدءاً من حفظ اسماء المؤلفين الى حيثيات ما أحاط بإنتاج العمل وعناصره التاريخية والمجتمعية.

وفي العودة إلى الحيوانات، وخصوصاً البقر منها، فالعزف بهدوء أو تمرير شريطٍ صوتيٍ هادئ في حظائرهم وعلى مسامعهم، والمثبتة نجاعته علمياً وحقلياً، يُميّزها عن الإنسان. فالوثائق التاريخية التي تسرد مراحل المعتقلات السياسية على أنواعها، تشير إلى أن بعض مسؤولي السجون، كما بعض الجلادين، كانوا من أعتى عتاة المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية ومتابعين لحفلاتها.

كل هذه المقدمة الطويلة للإشارة، وبمرارة، إلى حديثٍ جمعني، رغماً عن أنفي، بعازف سوري متميّز نسبياً، ومقيم في دولة أوروبية، يدين بالحب وبالوفاء لمن يرسل البراميل إلى المدنيين الذين “يستحقونها” لأنهم “تكفيريون وإرهابيون”. كما أنه يُجابه ويُفنّد وينفي، من دون أية نسبية ولا تردد، كل المقولات التي تم تداولها حول أطفال مدارس درعا وحمزة الخطيب والكيميائي. كل ذلك كان اختراعاً من أعداء الوطن وأصحاب المؤامرات التي تُحاك لاستنزاف ثرواته ـ أو ما تبقى منها بعد استنزاف جُلّها من أولياء الأمر ـ وللسيطرة على أراضيه والانتقاص من سيادته. وذهب إلى التفصيل مرتاحاً للغضب الساطع على وجهي، فصال وجال على مجازر البيضا وبانياس والحولة وحمص والغوطة معتبراً بأنها كلها، وبالجملة، لم تحصل إلا في مخيال المغرضين وأعداء الوطن. إضافة الى ذلك كله، فأقوام سوريا، وهو من تلويناتهم، لا يستحقون وصمة الانتماء إلا بمقياس الولاء، أما إن هم أو بعضهم، طالبوا بحقوق ثقافية وبحريات أساسية، فقد صاروا شيطاناً رجيماً يستحق ما حاق ويحيق وسيحيق به.

إنه موسيقيٌ يعزف بشكل جيد نسبياً حتى لا نميل إلى المبالغة ونعتبره مُبدعاً فعلاً، وهو عندما يُعانق آلته الموسيقية أثناء الحفل على المسرح، يبدو كمن يُعانق الحبيبة ويبدأ برسم تعابير التأثر والسمو الروحي على وجهه الأسمر. الفنان هذا يعزف المقطوعات الكلاسيكية ضمن فرقة صغيرة مجتهدة. عزفٌ واندماجٌ في الحالة، لم يؤثّرا البتة على رفع مستوى الشعور الإنساني. فنفي المجازر التي حصلت في سوريا، عدا عن أنه يدخل ضمن ما ستقوم العدالة الانتقالية يوماً ما بمساءلة أصحابه، يدل إن دل على فراغٍ روحي مدمر وابتعاد عظيم عن أدنى معايير السمو الإنساني التي يظن الناس بأن الفن يؤجّجها ويُنمّيها.

لقد أراد الكثيرون أن يتم الفصل بين السياسة والرياضة وألا يُطالب الرياضي بأن يأخذ موقفاً سياسياً ملتزماً أو إنسانياً واضحاً لابتعاد العقل عن العضلات في غالب الأحيان. وفي هذا ما يُقال تأكيداً أو نفياً. بالمقابل، تعتبر ممارسة الفن، على تنويعاته، وخصوصاً الموسيقا الكلاسيكية منه، جزءاً من ممارسة أسمى المشاعر الإنسانية والتعبير عنها. ولكن يبدو من خلال استعراض علاقة رجال العصابات والنازيين والفاشيين بالموسيقى الكلاسيكية، كما موقف عازفنا المتميّز، عاملاً أساسياً للدفع باتجاه التمييز بين الإنسان والحيوان. فالبقر كما سبق ذكره، يشعر بما يسمع، وينعكس هذا فيما يُعطي، أما بعض الإنسان، فمهما سمع أو عزف من موسيقا رفيعة ومليئة بالمشاعر، فقد لا يُثنيه ذلك عن الوقوف إلى جانب الشر والظلم والاستبداد وممارسة النكران السمج.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى