الناس

ولكن، من هو الشيخ بسام ضفدع؟/ حسام جزماتي

 

 

“اصبر يا مريد/ حتى الله يريد”

بين لقاءات بشار الأسد الكثيرة مع وفود الوجهاء والفاعلين المحليين، خلال 2011، استقبل، ذات يوم من أيار، وفداً من مشايخ ريف دمشق الثائر. وعقب الخروج من اللقاء سيصرّح أحد حضوره، بسام ضفدع، أنه تميز بالصراحة والإجابة عن الأسئلة بشكل واضح وواف. “ما ترك عند العلماء ارتياحاً كبيراً، وأبدوا استعدادهم الكامل للقيام بدورهم في هذه المرحلة الدقيقة التي تتطلب تعاون الجميع للوصول إلى الإصلاح المنشود”.

لن يعرف الشيخ أن دوره سيتأخر سبع سنوات، أثناء معركة النظام للسيطرة على الغوطة، حين سيبث تسجيلاً يقول فيه: “إلى أهلي وإخواني في كفربطنا والغوطة الشرقية، نمُرّ جميعاً بظروف تتطلب منا أن نتعاون من أجل المصلحة العامة، ونكون يداً واحدة للوصول إلى ما فيه خيرنا ومصلحتنا، بحقن الدماء وإيجاد الحل”.

والحق أن بسام ضفدع (دفضع حسب الكتابة الرسمية) لن يستطيع استنتاج الكثير عن مستقبله الغامض. منذ ولادته، لأسرة مزارع متواضع، في البلدة التي كانت تبدو بعيدة عن العاصمة في ذلك الوقت من أواسط الخمسينيات، وتمكنه من متابعة دراسته، بتحفيز من أحد أفراد العائلة البارزين، ينتمي إلى حزب البعث الذي صار حاكماً منذ 1963، وشجّع قريبه اليافع على الانتساب إليه وإلى شبيبته أثناء المرحلة الثانوية، فيما كان أمراً غير واسع الانتشار.

سيختار الشاب مساراً أكثر غرابة لدراسته الجامعية كذلك، حين سيقدّم أوراقه لكلية الفنون الجميلة، متكئاً على موهبة لافتة في الرسم. في الكلية سيتعرّض لهزّات غير متوقعة، عندما سيستمع إلى أحاديث جديدة من زملائه الشيوعيين، إبان المد الماركسي في السبعينيات. سيتأثر بهم مدة لن تطول، إلى أن يشعر أنه ينتمي أكثر مما كان يظن إلى القيم المحافظة التي يتحدر منها، ويبدأ مسيرته الخاصة في “البحث عن الله”.

في طريقه هذا، الذي تزامن مع متابعة الدراسة في الكلية ونيل شهادتها، سيتأثر أول الأمر بالتيار السلفي (الوهابي) الذي كان نشطاً نسبياً في دمشق، دون نزوعات حركية أو جهادية. لكن ضفدع سيغادر السلفية بسرعة، لينحاز إلى بيئة الإسلام “الشامي”، عبر الاطلاع الشخصي ثم بالأخذ عن المشايخ، وصولاً إلى الدراسة المنهجية في “معهد الفتح الإسلامي”.

سيبدأ المتدين الشاب من الصف الرابع في المعهد، اعتماداً على ما قد حصّله من قبل. وسيتعلم درساً مركزياً في ذلك الزمن من صدام النظام مع الإخوان المسلمين مطلع الثمانينيات، وهو أنه ثمة مكان آمن “لأرباب الشعائر” إذا التزموا بدورهم هذا دون أن يخالطه الإسلام الحركي أو التدخل في الحياة العامة خارج إطار الوعظ المجمل. سيتيح هذا الموقع للشيخ نتائج مدهشة، من نوع أن يحافظ على لحيته أثناء خدمته العسكرية برتبة ملازم. وسيناسب نزوعَه الصوفي المتصاعد الذي أقلق حتى أساتذته، وزملاءه اللاحقين حين سيصبح مدرساً في المعهد الذي يعدّ التصوف أحد مفرداته لكن دون الوصول إلى الدرجة التي بلغها ضفدع بالتأثر، أولاً، بالشيخ عز الدين الخزنوي، وهو من أشد شيوخ التصوف السوري غلواء وطقسية، ثم الاستقرار على سلوك فرع للطريقة الرفاعية لا يقل ميلاً إلى الشطح والخوارقية.

عام 1990 سيؤلف الشيخ كتابه الوحيد، تقريباً، “الكون والإنسان بين العلم والقرآن”. وفيه سيصفّي حسابه مع مرحلة الإلحاد التي مرّ بها، عبر تجميع، غير متخصص ولا موهوب ومغمور بالإنشاء، لطروحات سابقة عن الإعجاز العلمي في خلق الأرض والنجوم والكواكب والبروج وجسم الإنسان والحيوان والنبات… إلخ. وسوى ذلك سينجز كتيبات عن توسلات محيي الدين بن عربي بأسماء الله الحسنى، وأدعية الشيخ أحمد الحارون، وشرح منظومات ورسائل شرعية.

بالتوازي مع ذلك سيصبح خطيب جامع كفربطنا الكبير (القديم) ويبدأ التدريس فيه على نطاق ضيق. قبل أن يسهم تلاميذه، ومنهم عائلة صوفية محلية ميسورة، في بناء جامع لدعوته التي فاضت، قليلاً وببطء، إلى زبدين وجسرين وسقبا وحزة، باسم “الجامع العمري”. أثناء ذلك عاش ضفدع حياة شيخ تقليدي. خطب في المناسبات وصار وجيهاً اجتماعياً. تزوج أكثر من مرة. زكّى لمريديه رجلاً لتشغيل أموالهم، وكانت النتيجة هرب التاجر بما جمع. وفي 2007 ترشح الشيخ لعضوية مجلس الشعب، دون أن ينجح.

في الجامع نفسه سيدلّ الشيخ رجال الأمن على شابين، من خارج البلدة، كبّرا بهدف إطلاق مظاهرة، في الأسابيع الأولى للثورة. لم يخرج الشقيقان من السجن حتى الآن، فيما يقول آخرون إنه أسهم في إطلاق سراح متظاهرين من جهاز المخابرات الجوية. ستعمّ “الفتنة” كفربطنا والغوطة، ويصبح موقف ضفدع، المناهض للثورة والداعي إلى الثقة بوعود الأسد في الإصلاح، مستفزاً للثوار ولكثير من السكان، فيتوقف عن الخطابة وينكفئ في منزله، حتى يغادر بلدته، لسنوات، إلى زبدين الأهدأ ولكن في الغوطة التي كانت، خلال هذا الوقت، قد خاضت معركتها مع النظام، وحُرّرت، وحوصرت.

لم يصبح الشيخ شرعياً في “فيلق الرحمن”، كما أشاع مغرمون بروايات المغامرات، لكن الصراع بين “الفيلق” و”جيش الإسلام”، في 2016، أطلق باب عودة ضفدع ومن يشبهه إلى التأثير. كانت حرب القوتين الكبريين في الغوطة، والتي خلفت مئات القتلى وتجددت لاحقاً، صدمة للأهالي الذين يعيشون نتائج الحصار وقصف النظام وتبعات تعثر وقصور الإدارات الوليدة. وآذت بعمق سمعة الفصيلين اللذين حاولا استرضاء الناس عبر استقطاب الوجاهات المحلية، كل منهما في بيئته ومنطقته، بتساهل في معايير الحراك الثوري المعتمدة سابقاً. وبالمقابل كان السكان قد سئموا توجه شرعيي الفصائل، وقد اهتزت الثقة في مصداقيتهم الآن، وحنّوا إلى خطاب أقل تحيزاً. وفضلاً عن هذا وذاك، كانت لدى “الفيلق” أسباب إضافية لاستقطاب المشايخ ذوي الميول الصوفية في معركته العقائدية مع “الجيش” سلفي التوجه. في ظل هذه الظروف، ومع بقاء بسام ضفدع داخل الغوطة، وامتناعه لوقت طويل عن إظهار مواقف ضد الثورة، أصبح عضواً في “الهيئة الشرعية لدمشق وريفها” التي شكلت نوعاً من المرجعية النظرية العليا لما عرف بالقطاع الأوسط، حيث يسيطر “الفيلق”، دون أن يعني ذلك توافقها معه كلياً أو تبعيتها له.

لم يستعد الشيخ مكانته، رغم ذلك، ولكنه رجع إلى الخطابة في مناسبات دينية أو اجتماعية عاد فيها إلى تصدر المجالس مؤقتاً، كما استأنف بعض الدروس لحفنة من المريدين، وأنشأ مدرسة، بتمويل سخيّ مجهول، اقتصر العمل فيها على المقرّبين. ولعل أبرز آثار تلك المرحلة هي صور جمعته بمشايخ “الفيلق” أو “الجيش” في مآدب أو لقاءات موسعة.

عندما بدأت الحملة الأخيرة على الغوطة التزم الشيخ الصمت. لكن بعد أكثر من أسبوعين أخذت معالم الهزيمة تلوح أمام أنظار السكان المكدّسين في الملاجئ في ظروف إنسانية قاسية للغاية، تتخاطف أسماعهم أخبار سقوط البلدات سريعاً ودخول قوات النظام التي وجدها الكثيرون فوقهم فجأة، دون إعلان، أو مجرد تحذير مسبق، من “الفيلق” الذي انهار أداؤه العسكري وتخبط إعلامياً. في هذه المرحلة، أي الأسبوع الثاني من آذار 2018، نشط دعاة المصالحات في بلدات الغوطة. وبعد تواصلهم مع مسؤولين في دمشق قالوا إنه يمكن إيقاف القصف، الذي شل حتى إمكانية الهرب، إذا خرج الأهالي في مظاهرات تحمل علم النظام، تمهيداً لدخول قواته.

من الصعب رسم صورة تلك الأيام القيامية بالتفصيل. لكن بسام ضفدع دعا، كنظرائه في بلدات أخرى، إلى الخروج في مظاهرة “للمصالحة”، فاستجابت قلة من تلامذته ومن الناس الباحثين عن أي حل. خلال أيام اتسعت المظاهرات، فيما كانت الأخبار تتوارد عن المعارك في سقبا اللصيقة. لم يتوقف القصف رغم الوعود، وحصلت مجازر كبيرة بسببه، لكن متظاهري العلم الأحمر ظلوا متمسكين بما ظنوا أنه الأمل الوحيد في أجواء الموت اليومي والقلوب التي بلغت الحناجر والاضطراب الهائل الذي شمل الفصائل بالطبع، فأطلقت النار على متظاهري كفربطنا… وقادت حملة، تخللتها تصفيات، على بارزيهم…

القدر، والحميّة الأهلية، هما ما حمى ضفدع من الموت. عندما أخذ عدد متزايد من أبناء بلدته في “الفيلق” بالوقوف في وجه أمنيّي فصيلهم والقوة المهاجمة. خاصة أن “هيئة تحرير الشام”، المعتبرة “جبهة النصرة”، “الغريبة”، بدت كرأس حربة قمع المتظاهرين “من أهل البلد”.

دون أبعاد ولا “خفايا”، في ظروف من الزلزلة تحول مئات من مقاتلي كفربطنا إلى “ضفادع”، دون تنظيم مسبق ولا تبعية خاصة تربطهم بالشيخ الذي لعب دوراً يناسب قناعاته وأملته الظروف وسمحت به، وجرى تضخيمه وأسطرته بفعل الهزيمة وللتنصل من مسؤوليتها. وفي النهاية، لم يلعب “الضفادع” دوراً عسكرياً مؤثراً في سقوط الغوطة؛ لكن قصتهم، المحوّلة إلى نوع من “وادي الذئاب”، أسست لانهيار معنوي ولنزعة شكاكة عبّرت عنها حمى بوستات “كم ضفدعاً بيننا؟!”…

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى