نصوص

الفصل الأول والثاني من كتاب “اعترافات روائي شاب”/ إمبرتو إيكو

 

 

 

“الكتابة من الشمال إلى اليمين”.. فصل من كتاب “اعترافات روائي شاب”/ امبرتو إكو

ترجمة ناصر الحلواني

 

1

 

الكتابة من الشمال إلى اليمين

 

عنوان هذه المحاضرات هو ” مذكرات روائي شاب ، وربما يتساءل المرء: لماذا “شاب”، وأنا أخطو إلى العام السابع والسبعين من عمري. لكن ما حدث هو أني نشرت روايتي الأولى ” اسم الوردة” عام 1980، ما يعني أني بدأت حياتي كروائي منذ ثمانٍ وعشرين سنة فقط. وهكذا، فإني أعتبر نفسي روائيا شابا، وبالتأكيد، روائيا واعدا، لم ينشر سوى خمس روايات حتى الآن، وسينشر العديد غيرها خلال الخمسين عاما القادمة.

 

هذا العمل المتواصل لمَّا ينتهي بعد (وإلا ما كان متواصلا) ولكني آمل أن يكون قد تراكم لدي ما يكفي من الخبرة كي ألقي بعض الكلمات حول طريقة كتابتي.

 

وتماشيا مع الروح العامة لـ “محاضرات ريتشارد إلمان”[1] سوف أركز على رواياتي لا على مقالاتي، رغم أنني أعتبر نفسي أكاديميا محترفا، أما كروائي فأراني مجرد هاو.

 

بدأت كتابة الروايات في طفولتي. كان العنوان هو أول ما يرد على خاطري، وغالبا ما كنت استوحيه من كتب المغامرات الرائجة في تلك الأيام، والتي كانت تشبه قصص ” قراصنة الكاريبي”[2]. وعلى الفور كنت أقوم برسم كافة أحداث الرواية، ثم أشرع لاحقا في كتابة الفصل الأول. ولكن، حيث أنني كنت أكتب بحروف كبيرة داكنة، محاكيا الكتب المطبوعة، فقد كان ينتابني الإعياء بعد صفحات قليلة، ومن ثَم أتخلى عن الأمر برمته.

 

كان كل عمل من أعمالي، بالتالي، عبارة عن تحفة فنية غير مكتملة، مثل سيمفونية شوبيرت الناقصة.

 

عندما بلغت السادسة عشرة، بدأت، بالطبع، في كتابة الأشعار، مثل أي مراهق. لا أذكر ما إذا كانت الحاجة للشِّعر هي ما أثمرت حبي الأول (الأفلاطوني وغير المعلن)، أم العكس. لقد كان المزيج كارثيا. ولكن، كما كتبت ذات مرة ـ وإن في شكل مفارقة تلفظت بها إحدى شخصياتي الروائية: ـ هناك نوعان من الشعراء: شعراء جيدون، وهم الذين يحرقون قصائدهم حينما يبلغون الثامنة عشر من عمرهم، وشعراء سيئون، وهم الذين يستمرون في كتابة الشعر مدى حياتهم.(1)

 

ما هي الكتابة الإبداعية؟

 

حين صرت في الخمسين من عمري، لم أشعر بالإحباط ، مثلما يحدث مع الكثير من الباحثين، من حقيقة أن كتابتي لا تنتمي إلى النوع الإبداعي من الكتابة.(4)

 

لم أفهم مطلقا لماذا يُعتبر هوميروس[5] كاتباً إبداعياً ولا يُعتبر أفلاطون[6] كذلك. لماذا يُعدُّ الشاعر السيئ كاتبا مبدعا، بينما لا يُعدُّ كاتب المقالات العلمية كذلك؟

 

في الفرنسية، يمكن التمييز بين مبدع écrivain: شخص يُنتج نصوصا “إبداعية” كالروائي والشاعر، وبين كاتب écrivant: شخص يسجل الوقائع، مثل كاتب البنك، أو رجل شرطة يسجل تقريرا عن قضية جنائية.

 

لكن إلى أي أنواع الكتَّاب ينتمي الفيلسوف؟

 

يمكننا القول: أن الفيلسوف كاتب محترف، يمكن اختصار نصوصه أو ترجمتها إلى كلمات أخرى من دون أن تفقد كل معانيها، بينما لا يمكن لنصوص الكاتب المبدع أن تُترجم معانيها بنحو تام، أو أن تعاد صياغتها في كلمات أخرى. لكن على الرغم من تأكد صعوبة ترجمة الشعر والروايات، فإن تسعين بالمائة من قرَّاء العالم قد قرأوا “الحرب والسلام”[7] و”دون كيشوت”[8] مترجمتين، وأحسب أن أعمال تولوستوي المترجمة هي أكثر إخلاصا للأصل من أي ترجمة إنجليزية لأعمال هيدجر[9] أو لاكان[10]. هل لاكان أكثر “إبداعا” من سرفانتس؟

 

لايمكن أن نعبر عن هذا الاختلاف بحسب الوظيفة الاجتماعية لنص محدد؛ إن نصوص جاليليو، بالتأكيد، على درجة كبيرة من الأهمية الفلسفية والعلمية، ولكنها تُدرس ، في المدارس الثانوية الإيطالية، كأمثلة للكتابة الإبداعية الجيدة ـ كعمل فني أصيل في أسلوبه.

 

لنفترض أنك قيِّم مكتبة، وقررت أن تضع ما يسمى بالنصوص الإبداعية في الحجرة (أ)، وما يسمى بالنصوص العلمية في الحجرة (ب)، فهل ستضع مقالات أينشتين مع “رسائل إديسون إلى رعاته”، في مجموعة واحدة، و” آه سوزانا”[11] مع “هاملت”[12] في المجموعة الأخرى؟

 

اقترح البعض، كمعيار للتفرقة، أن الكاتب “غير الإبداعي” أمثال: لينوس[13] وداروين، إنما أرادا نقل معلومات حقيقية عن الحيتان أو القِرَدَة، أما حين كتب ملفيل[14] عن الحوت الأبيض، وحكى بوروس عن “طرزان ابن القِرَدَة”، فقد تظاهرا فحسب بأنهما ينقلان الواقع، ولكنهما، في الحقيقة، اخترعا حيتانا وقِرَدَة ليس لها وجود، ولم يعبأ أحدهما بالحقيقي منها.

 

هل بإمكاننا القول، بدون أي شك، أن ملفيل، حين روى تلك القصة عن حيتان لا وجود لها، لم يقصد قول أي شبئ حقيقي عن الحياة والموت، أو عن الغرور والعناد البشريين؟

 

إنها إشكالية ؛ أن تصفه بأنه “مبدع” ذلك الكاتب الذي يخبرنا، ببساطة، بأشياء تخالف الواقع. لقد قال بطليموس[15] شيئا غير حقيقي عن حركة الأرض، هل ندعي حينئذ أنه أكثر إبداعا من كبلر[16]؟

 

يقع الاختلاف، بالأحرى، في الطرق المتباينة التي يمكن أن يستجيب بحسبها الكتَّاب لتأويلات نصوصهم؛ فإذا قلت لفيلسوف، أو لعالِم، أو لناقد فني : ” أنت كتبت ذا وذاك “، فيمكن للمؤلف دوما أن يرد بحسم قائلا : ” لقد أسأت فهم نصي، أنا أقصد العكس تماما”، لكن إذا طرح أحد النقاد تأويلا ماركسيا لرواية: “البحث عن الزمن المفقود”[17] ـ وقال: إنه في ذروة أزمة انحلال البرجوازية فإن الانغماس التام في مجال الذاكرة، قد أدى، بالضرورة، إلى عزل الفنان عن المجتمع ـ فإن هذا التأويل قد لا يروق لبروست، ولكن قد يكون من الصعب أن يدحضه.

 

كما سنرى في محاضرة لاحقة، فإن الكتاب المبدعين ـ كقرَّاء مدركين لأعمالهم ـ يملكون، بالتأكيد، الحق في تحدي التأويل غير ذي الصلة بأعمالهم.

 

ولكن ينبغي عليهم، عموما، احترام قرائهم، بما أنهم قد ألقوا بنصوصهم إلى العالم، كرسالة وضعت في زجاجة وألقيت في البحر، إذا جاز التعبير.

 

بعدما أنشر نصا عن السيميوطيقا[18] فإني أكرِّس وقتي إما للإعتراف بأنني كنت مخطئا، أو لإثبات أن أولئك الذين لم يفهموا النص، على النحو الذي عنيته، قد أساءوا قراءته.

 

وعلى العكس من ذلك، بعد نشري لرواية، فإني أشعر مبدئيا بأنه يجب عليَّ، من الوجهة الأخلاقية، ألا أتحدى تأويلات الناس لها (وألا أشجع أيَّا منها).

 

ذلك يحدث ـ وهنا يمكننا تمييز الفارق بين الكتابة الإبداعية والكتابة العلمية ـ وذلك لأنه في المقال النظري يريد المرء عادة أن يوضح فرضية معينة، أو أن يقدم إجابة لمسألة محددة.

 

بينما في حالة القصيدة أو الرواية، فإن المرء يرغب في أن يصور الحياة بكل تناقضاتها. يريد المرء حينئذ أن يَنظِم سلسلة من التناقضات، وأن يجعلها جلية ومؤثرة. ويطلب المبدعون من قرائهم محاولة الوصول إلى حل، إنهم لا يطرحون صيغة قاطعة (عدا كتَّاب الفن الهابط والكتَّاب العاطفيين، الذين يهدفون إلى تقديم التعزية الرخيصة).

 

وهذا هو سبب قولي، حين كنت ألقي كلمة حول روايتي الأولى عند صدورها: أنه يمكن للروائي، أحيانا، أن يقول شيئا لا يستطيعه الفيلسوف.

 

وهكذا، حتى كان عام 1978، عنها أحسست أني قد أتممت تحقيق كوني فيلسوفا وعالمًا سيميائيًا، حتى أني كتبت، ذات مرة، بلمسة تعجرف أفلاطوني: أن الشعراء والفنانين، عموما، سجناء أكاذيبهم، مقلدون لأمور مقلَّدة، بينما كنت، كفيلسوف، حائزا لمفاتيح عالم المُثُل الأفلاطوني الحقيقي.

 

يمكن القول، إذا استثنينا الإبداع، أن العديد من الباحثين قد أحسوا بالدافع إلى سرد قصص، وأسِفوا لعدم استطاعتهم تحقيق ذلك ـ وهذا هو السبب في أن أدراج مكاتب العديد من أساتذة الجامعة تمتلئ بروايات سيئة لم تُنشر. ولكني، عبر السنين، أشبعت رغبتي السرية في السرد الروائي بطريقتين مختلفتين:

 

أولا، بالانخراط في السرد الشفاهي، فكنت أقص الحكايات على أطفالي (لذا أصبحت في حيرة بعدما كبروا، وتحولوا من سماع القصص الخيالية إلى سماع موسيقى الروك)؛ ثانيا: صوغ كل مقال نقدي في قالب سردي.

 

حينما ناقشت أطروحتي للدكتوراه عن “الجماليات في فلسفة توما الأكويني” ـ وهو موضوع مثير للخلاف، إذ كان العلماء في ذلك الوقت، يعتقدون عدم وجود تأملات جمالية في مجموع أعماله الضخمة ـ اتهمني أحد الأساتذة المناقشين بنوع من “المغالطة السردية”؛ حيث قال: حين يشرع الباحث الناضج في عمل بحث ما، فإنه، حتمًا، يتقدم في بحثه عبر مسار التجربة والخطأ، يطرح ويرفض الافتراضات المختلفة، ولكن في نهاية البحث يكون قد تم هضم جميع هذه المحاولات، وعلى الباحث أن يعرض الاستنتاجات النهائية فقط، ثم أضاف قائلا: أنني، على النقيض من ذلك، قد تناولت قصة بحثي كما لو كان رواية بوليسية.

 

وكان الاعتراض وديا، وأوحى لي بفكرة جوهرية، مفادها: أنه ينبغي لكل النتائج البحثية أن “تُسرد” بهذه الطريقة.

 

يجب أن يكون كل كتاب علمي أشبه ما “بالرواية البوليسية”[19]، تقرير عن السعى إلى ما يشبه الكأس المقدسة Holy Grail[20]. وأحسب أنني قد حققت ذلك في كل أعمالي الأكاديمية اللاحقة.

 

كان يا ما كان

 

في بداية عام 1978، أخبرتني صديقة لي، تعمل في دار نشر صغيرة، أنها كانت تطلب من الكتاب غير الروائيين ( الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، والسياسيين، وأمثال هؤلاء ) أن يكتب الواحد منهم قصة بوليسية قصيرة.

 

للسبب الذي ذكرته توا، أجبتها بأني لا أهتم بالكتابة الإبداعية، وتأكدي من عدم قدرتي التامة على كتابة حوار جيد، وانتهيت (لا أدري لماذا) إلى القول، بنحو مستفز، بأنه إن كان ينبغي علي أن أكتب رواية بوليسية، فستكون في خمس مائة صفحة على الأقل، وستقع أحداثها في أحد أديرة العصور الوسطى. فقالت تلك الصديقة أنها لا تسعى إلى عمل رديء غير متقن، وانتهى لقاؤنا عندئذ.

 

بمجرد عودتي إلى المنزل، أخذت في تفتيش أدراج مكتبي مستعيدا بعض الخربشات المكتوبة منذ أعوام سابقة ـ قطعة ورق كتبت عليها أسماء بعض الرهبان. ومعنى ذلك أنه في أكثر أنحاء روحي سرية كانت تنمو، بالفعل، فكرة كتابة رواية، ولكني لم أكن واعيا بها. عند هذه النقطة، أدركت أنه سيكون أمرا جيدا أن يموت راهب بالسم بينما يقرأ كتابا غامضا، كان هذا كل شيء. وبدأت في كتابة” اسم الوردة”.

 

بعدما تم نشر الكتاب، كثيرا ما كان الناس يسألونني عن سبب قراري كتابة رواية، وكانت الأسباب التي ذكرتها ( والتي كانت تتنوع بحسب حالتي ) كلها حقيقية على الأرجح ـ أي أنها جميعا كانت زائفة. أخيرا، أدركت أن الإجابة الصحيحة الوحيدة هي أنني شعرت، في لحظة معينة من حياتي، بدافع يحثني على فعل ذلك ـ وأحسب أن هذا تفسير معقول وكاف.

 

كيف تكتب

 

عندما كان مقدمو البرامج يسألونني : “كيف تكتب رواياتك؟” فعادة ما أقطع الحديث عند هذه النقطة وأجيب : “من الشمال إلى اليمين”.

 

أدرك أن هذه إجابة غير مرضية، ويمكنها أن تثير بعض الدهشة في البلاد العربية وإسرائيل[21]. أما الآن فإن لدي الوقت لتقديم إجابة أكثر تفصيلا.

 

أثناء كتابة روايتي الأولى، تعلمت بعض الأشياء:

 

أولا: أن “الإلهام” كلمة سيئة، يستخدمها المؤلفون المخادعون ليبدوا ذوي مكانة فنية عالية. وكما جاء في القول المأثور : العبقرية : عشرة بالمائة إلهام وتسعون بالمائة جهد. وقد ذُكر أن الشاعر الفرنسي لامارتين وصف الظروف التي كتب فيها واحدة من أفضل قصائده، فزعم أنها جاءته كاملة في لحظة نورانية، ذات ليلة فيما كان يجوب الغابة. بعد موته، عثر أحدهم، في غرفة مكتب لامارتين، على عدد مثير للذهول من مسودات القصيدة ذاتها، التي كتبها، ثم أعاد كتابتها على مدار السنين. قال أول النقاد الذين عرضوا رواية” اسم الوردة” أنها كُتبت تحت تأثير إلهام إشراقي، وذلك، بسبب صعوباتها المفاهيمية واللغوية، الموجهة، فقط، لقلة من السعداء.

 

عندما لاقى الكتاب نجاحا ملحوظا، وبيعت منه ملايين النسخ، كتب نفس الناقد لتدبير مثل هذا العمل الرائج والممتع والأكثر مبيعا، فلا شك، أنه اتبع وصفة سرية.

 

بعد ذلك قالوا أن مفتاح نجاح الكتاب برنامجا حاسوبيا ـ ناسين أن أول حاسوب شخصي به برنامج للكتابة قد ظهر، فقط، في بداية الثمانينيات، عندما كانت روايتي تُطبع بالفعل. ففي أعوام 1978 ـ 1979، كان كل ما يمكنك أن تجده، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، هو أجهزة كمبيوتر صغيرة ورخيصة من إنتاج شركة تاندي، ولم يكن هناك من يمكنه استخدامها في كتابة أي شيء أكثر من رسالة.

 

في وقت ما، بعد ذلك، منزعجا قليلا من تلك الادعاءات الحاسوبية، صغتُ وصفة حقيقية لكتابة عمل يحقق أعلى المبيعات، باستخدام الحاسوب:

 

قبل كل شيء فإنك تحتاج إلى حاسوب، أمر واضح، وهو عبارة عن آلة ذكية تقوم بالتفكير لك. وقد يُعد ذلك تقدما حاسما بالنسبة لبعض الناس. وكل ما تحتاج إليه هو برنامج من عدة أسطر، يمكن حتى لطفل أن يفعل ذلك. ثم يقوم المرء بتغذية الحاسوب بمحتويات مائة أو نحو ذلك من الروايات، والأعمال العلمية، والإنجيل، والقرآن، وباقة من أدلة الهاتف ( مفيدة جدا بالنسبة لأسماء الشخصيات ). ولنقل، شيء مثل 120000 صفحة. بعد ذلك، باستخدام برنامج آخر، تجمع بعشوائية، أو بكلمات أخرى، تخلط كل هذه النصوص معا، وتقوم ببعض التعديلات ـ على سبيل المثال حذف كل حرف (e) ـ من أجل أن تحصل، ليس على رواية فحسب، بل على رواية أشبه بأعمال بيريك[22] الخالية من حروف معينة[23]. عند هذه النقطة، تضغط مفتاح “طباعة”، وحيث أنك قد حذفت كل حروف (e) فما سيخرج سيكون أقل من 120000 صفحة. وبعد أن تقرأها بعناية، عدة مرات، واضعا خطوطا تحت الفقرات المميزة، تذهب بها إلى المحرقة. ثم تجلس، ببساطة، تحت شجرة، مع قطعة من الفحم ولوح رسم، من نوع جيد، في يدك، وتطلق لعقلك العنان، وتكتب سطرين ـ مثل : “القمر عالي في السماء / وللغابة حفيف”. ربما لا يكون ما ينشأ في بادئ الأمر رواية، بل بالأحرى من شعر الهايكو الياباني[24] وبالرغم من ذلك، فإن الأمر المهم هو البدء. (25)

 

إذا تحدثنا عن تواتر الإلهام، فقد استغرقني العمل في كتابة “اسم الوردة” عامين فقط، لسبب بسيط؛ وهو أني لم أكن في حاجة لإجراء بحوث تتعلق بالعصور الوسطى. كما ذكرت آنفا، فإن أطروحتي لنيل الدكتوراه كانت حول جماليات العصور الوسطى، كما أنني قمت بدراسة إضافية كرستها للعصور الوسطى، فعلى مدار الأعوام قمت بزيارة الكثير من الأديرة الرومانسكية[26]، والكنائس القوطية[27]، وهكذا.

 

عندما قررت كتابة الرواية، بدا الأمر وكأني فتحت خزانة كبيرة، حيث كنت أراكم ملفاتي الخاصة بالعصور الوسطى لعهود. كل هذه المادة كانت متوفرة لدي، في متناول يدي، ولم يكن علي إلا أن أنتقي ما أحتاجه.

 

بالنسبة للروايات اللاحقة، كان الأمر مختلفا (رغم أن اختياري لموضوع محدد إنما يكون بسبب كونه مألوفا لدي). ويوضح ذلك السبب في أن رواياتي الأخيرة استغرقت وقتا طويلا ـ ثمان سنوات لأجل “بندول فوكو”، ست سنوات لأجل “جزيرة اليوم السابق”، وكذلك لأجل “باودولينو”. واستغرقت أربع سنوات فقط لأجل كتابة” اللهب الغامض للملكة لوانا”، بسبب أنها تتعلق بقراءاتي حينما كنت طفلا، في الثلاثينيات والأربعينيات، وقد كان لدي الاستعداد لاستخدام الكثير من المواد القديمة، التي في منزلي، مثل الرسوم الهزلية، والتسجيلات، والمجلات، والجرائد ـ باختصار مجموعتي الكاملة من ذكرياتي، وأسباب حنيني، وتوافهي.

 

بناء عاَلم

 

ما الذي أفعله خلال أعوام الحمل الأدبي؟

 

أجمع الوثائق، أزور أماكن، وأرسم خرائط، أسجل تصميمات المباني، أو السفن، كما في حالة رواية “جزيرة اليوم السابق”، كما أقوم بعمل رسوم تخطيطية لوجوه الشخصيات. بالنسبة لرواية ” اسم الوردة” فقد قمت بعمل لوحات فنية لوجوه كل الرهبان الذين كتبت عنهم.

 

لقد قضيت أعوام الإعداد هذه فيما يشبه القلعة المسحورة ـ أو، إذا كنتم تفضلون ذلك، في حالة انسحاب توحدي، لم يكن أحد يعرف ما الذي أفعل، حتى أفراد أسرتي.

 

كنت أعطي انطباعا بأني مشغول بالكثير من الأشياء المختلفة، ولكني كنت دائم الإنشغال في صيد الأفكار، والصور، والكلمات لأجل روايتي، فإذا رأيت سيارة عابرة في الطريق، أثناء كتابتي عن العصور الوسطى، فيحدث أن أتأثر بلونها، فإني أسجل هذه التجربة في دفتر ملاحظاتي، أو، ببساطة، في عقلي، فقد يلعب هذا اللون، لاحقا، دورا في وصف منمنمة فنية.

 

عندما كنت بصدد التخطيط لرواية “بندول فوكو”، كنت أقضي الليالي المتتالية، حتى لحظة الإغلاق ، أذهب وأجيئ عبر ممرات المعهد الوطني للفنون والحِرَف[28]، حيث تقع بعض أحداث قصتي، حتى أتمكن من وصف سير كازاوبون[29] الليلي عبر باريس، من المعهد الوطني للفنون والحرف إلى ميدان دي فويس[30]، قضيت عددا من الليالي متجولا عبر المدينة، بين الثانية والثالثة صباحا، وأنا أُملي، على جهاز تسجيل صغير، كل شيء يمكن أن أراه، حتى لا أخطئ في أسماء وتقاطعات الشوارع.

 

حينما كنت أجهز لكتابة “جزيرة اليوم السابق” ذهبت، بطبيعة الحال، إلى بحار الجنوب ، بالضبط إلى الموقع الجغرافي الذي حدده الكتاب، لرؤية ألوان البحر والسماء في ساعات مختلفة من اليوم، والتلاوين الشفيفة للأسماك والشعاب المرجانية.

 

وكذلك قضيت، عامين أو ثلاثة أعوام في دراسة رسوم ونماذج السفن السائدة في تلك الفترة، لأعرف كيف كان حجم القُمرة أو الكابينة، وكيف يمكن للشخص أن يتحرك من إحداها إلى الأخرى.

 

بعد نشر رواية “اسم الوردة” كان ماركو فيريري هو أول مخرج سينمائي يقترح تحويل الرواية إلى فيلم. قال لي : ” يبدو كتابك وكأنه قد تم تصوره بشكل صريح كسيناريو سينمائي، حيث يتسم الحوار بالطول الزمني المناسب”.

 

في البداية، لم أفهم السبب، تذكرت بعد ذلك أنني قبلما أبدأ الكتابة، كنت قد رسمت المئات من المتاهات وتخطيطات الأديرة؛ لذا، علمت كم من الوقت تستغرقه شخصيتان للذهاب من مكان إلى آخر، فيم يتحاورون أثناء ذهابهما، هكذا، فإن تصميم عالمي الروائي فرض الطول الزمني للحوار.

 

بهذه الطريقة، تعلمت أن الرواية ليست مجرد ظاهرة لغوية.

 

في الشعر، يصعب ترجمة الكلمات ؛ لأن المعتبر هو جَرْسُها[31]، إضافة إلى معانيها المتعددة والمقصودة، كما أن انتقاء المفردات هو ما يحدد المحتوى، بينما في السرد، تكون لدينا حالة مغايرة ؛ إنه الكَوْنُ الذي بناه المؤلف، والأحداث التي جرت فيه، وهذا هو ما يملي عليه الإيقاع، الأسلوب، بل وحتى اختيار المفردات.

 

السرد محكوم بالقاعدة اللاتينية: “إلزم الموضوع، وستنثال الكلمات”، بينما يجب علينا، في الشعر، أن نبدل ذلك إلى :”إلزم الكلمات، وسينثال الموضوع”.

 

السرد، أولا، وقبل أي شيء، هو مسألة كونية؛ لكي تسرد شيئا ما، تبدأ بما يشبه الخالق الذي يُنشئ عالما ـ وينبغي لهذا العالم أن يكون محدد التفاصيل إلى أقصى درجة، بحيث يمكنك التجوال في أرجائه بثقة تامة.

 

اتبعت هذه القاعدة بدقة، فعلى سبيل المثال، عندما أقول، في رواية “بندول فوكو” أن دارا نشر مانوزيو وجاراموند تقعان في مبنيين متجاورين، وبينهما ممر، فإني قد أنفقت الكثير من الوقت في رسم العديد من التخطيطات، متدبرا الكيفية التي يبدو عليها ذلك الممر، وما إذا كان يجب وجود بعض الدرجات لتعويض الفارق بين ارتفاع المبنيين. في الرواية، ذكرت الدرجات بإيجاز، ومر بها القارئ مرور الكرام، أظن، بدون أن يمنحها كثير اهتمام. لكن بالنسبة لي فقد كانت أمرا حاسما، وإذا لم أكن قمت بتصميمها فما كنت لأواصل كتابة قصتي.

 

يذكر الناس أن لوتشينو فيسكونتي[32] قام بشيء مشابه لذلك في أفلامه. فعندما يستدعي السيناريو من شخصيتين أن تتحدثا عن صندوق مجوهرات، فإنه يصر على أن يحتوي الصندوق، رغم أنه لن يُفتح أبدا، على مجوهرات حقيقية. وإلا فإن الممثلين سيؤدون أدوارهم بأداء أقل إقناعا.

 

من غير المفترض لقرَّاء رواية “بندول فوكو” أن يعرفوا التصميم الدقيق لمكاتب دار النشر، على الرغم من أن بنية عالم الرواية ـ الإعدادات الخاصة بأحداث وشخصيات القصة ـ جوهرية بالنسبة للكاتب، وغالبا ما يجب أن تظل قليلة الوضوح بالنسبة للقارئ. في رواية “اسم الوردة”، على أية حال، هناك رسم تخطيطي للدير في مقدمة الكتاب. وهو مرجع مخادع للكثير من الروايات البوليسية التقليدية التي تتضمن رسما تخطيطيا لمسرح الجريمة (مثل: مقر الكاهن، قصر مالك الضيعة)، وهذا نوع من العلامات الساخرة للواقع، أقرب إلى “الدليل” المبرهن على أن الدير موجود بالفعل. ولكني رغبت في أن يتصور قرائي، بوضوح، كيف تتحرك شخصياتي في الدير.

 

بعدما نُشرت رواية “جزيرة اليوم السابق”، سألني ناشري الألماني عما إذا كان ذا نفع أن تتضمن الرواية رسما تخطيطيا يبين تصميم السفينة. كان لدي مثل هذا الرسم التوضيحي، وقد استغرقني الكثير من الوقت في تصميمه، مثلما كان الأمر مع الرسم التخطيطي للدير لرواية “اسم الوردة”. لكن في حالة رواية “الجزيرة” فقد رغبت في أن يقع القارئ في حيرة ـ وكذا بطل الرواية، غير القادر على إيجاد طريقه في هذه السفينة المتاهة، التي يبدأ في استكشافها بعدما يتقرب بإراقة الكثير من الخمر. وهكذا، كنت في حاجة إلى إرباك قارئي فيما أحتفظ بأفكاري واضحة ـ وأشير دوما، وأنا آخذ في الكتابة، إلى الفضاءات الدروسة بدقة حتى آخر ملليمتر.

 

أفكار موحية

 

سؤال آخر غالبا ما يوجه إليَّ، وهو: “أي فكرة تقريبية، أو خطة تفصيلية، تشغل عقلك عندما تشرع في الكتابة؟” فقط، بعد روايتي الثالثة، أدركت تماما أن كل رواية من رواياتي إنما تنبثق من فكرة موحية أصغر قليلا من مجرد صورة. في كتابي “تأملات في اسم الوردة”ذكرت أني قد بدأت كتابة الرواية بسبب “أنني رغبت في قتل ناسك بالسم”. الواقع، أنا لم أرغب في تسميم ناسك ـ أعني، أنني لم أرد أبدا أن أقتل أي شخص بالسم، سواء كان ناسكا أو عالمانيا. لكنني، ببساطة، كنت مأخوذا بتصور أن ناسكا يموت بأثر السم بينما يقرأ كتابا. ربما كنت أتذكر تجربة مرت بي في عمر السادسة عشر: كنت أزور حينها ديرا بندكتيا[33] (دير سانتا سكولاستيكا في سوبياكو)،سرت عبر الأروقة القروسطية، ثم ولجت إلى مكتبة معتمة، حيث وجدت، على مائدة القراءة، كتاب “أعمال القديسين”[34] مفتوحا. تصفحت المجلد الضخم في سكون عميق، فيم تنسرب بعض شعاعات ضوء عبر زجاج النوافذ الملونة، لابد وأني أحسست بشئ كهزة إثارة. بعد أكثر من أربعين عاما، انبثقت هذه الإثارة من لاوعيي.

 

كانت تلك هي الصورة الموحية. أما الباقي فقد جاء رويدا رويدا، أثناء سعيي الدؤوب لأجل الوصول إلى معنى لهذه الصورة. وقد تجلى بذاته، تدريجيا، بينما أنقِّب في نتاج خمس وعشرين عاما من الكروت القديمة والمسوَّدة حول القرون الوسطى، والمقصود بها، أصلا، غرض مغاير تماما.

 

مع رواية “بندول فوكو” كانت الأمور أكثر تعقيدا؛ فبعد الانتهاء من كتابة “اسم الوردة” انتابني إحساس بأنني قد وضعت في روايتي الأولى (وربما الأخيرة) كل شيئ، حتى بنحو غير مباشر، يمكن أن أقوله عن نفسي. هل كان هناك أي شيئ آخر، يخصني حقا، يمكنني الكتابة عنه؟ انسابت صورتان إلى ذهني.

 

الأولى: كانت لبندول ليون فوكو[35]، الذي رأيته قبل ثلاثة عشر عاما في باريس، والذي ترك انطباعا هائلا في نفسي. هزة إثارة أخرى كانت قد طُمرت طويلا في روحي. الصورة الثانية: كانت لي وأنا أعزف الترومبيت في جنازة أقيمت لأعضاء من المقاومة الإيطالية[36]. إنها قصة حقيقية لم أتوانى عن تكرار ذكرها، لأني وجدتها جميلة ـ وأيضا ، لأنني أدركت ، بعدما قرأت أعمال جيمس جويس[37] لاحقا، أنني مررت بتجربة ما أطلق عليه جويس في روايته( ستيفن بطلا[38]): تجليا.

 

هكذا ، قررت أن أحكي قصة تبدأ بالبندول، وتنتهي بعازف ترومبيت صغير في مقبرة، ذات صباح مشرق. لكن كيف لي الانتقال من البندول إلى الترومبيت؟ ثمانية أعوام استغرقتها الإجابة على هذا السؤال، وكانت الإجابة هي الرواية ذاتها.

 

بالنسبة لرواية “جزيرة اليوم السابق”، فقد بدأت من سؤال طرحه عليَّ صحفي فرنسي: “لماذا تصف الأماكن بهذه الدقة العالية؟” لم ألتفت مطلقا لأسلوبي في وصف الأماكن، لكن بالتفكير في ذاك السؤال، فهمت ما قد قلت ـ أعني، أنك إذا قمت بتصميم التفاصيل الكاملة لعالم ما، فبإمكانك أن تصفه باعتباره مكانا، حيث أنه يتجسد أما ناظريك.

 

هناك صنف أدبي تقليدي يسمى التجسيد اللغوي للصورة ekphrasis [39] ، وهو عبارة عن وصف عمل فني معين (لوحة أو تمثال) بدقة عالية، حتى يمكن، لمن لم يشاهدوا ذلك العمل، أن يروه كأنه قائم أمام أعينهم. مثلما كتب جوزيف أديسون في كتابه “مُتَع التخيل”(1712): “إذا اختيرت الكلمات بدقة، فإنها تحوز قوة داخلية، حتى لنجد أن الوصف يقدم لنا أفكارا أكثر حيوية مما تقدمه رؤية الأشياء نفسها”. لقد قيل أنه عند اكتشاف تمثال لاوكون[40] في روما عام 1506، عرف الناس أنه ذلك التمثال اليوناني الشهير؛ بسبب الوصف الذي كتبه بليني الكبير في كتابه “التاريخ الطبيعي”.

 

فلم لا أحكي قصة يلعب فيها المكان دورا هاما؟ إضافة إلى ذلك (قلت لنفسي) ففي روايتيَّ الأوليتين تكلمت كثيرا عن الأديرة والمتاحف ـ وهذا عن أماكن ثقافية مغلقة. يجب أن أحاول الكتابة عن أماكن طبيعية مفتوحة. ولكن كيف يمكنني أن أملأ رواية بمثل هذه الأماكن الهائلة الاتساع ـ الطبيعية ولا شيئ آخر؟ بأن أضع بطل روايتي في جزيرة خالية.

 

في الوقت نفسه، كنت مفتونا بإحدى تلك الساعات التي تبين الوقت في كل بقعة على وجه الأرض، وبها علامة تشير إلى خط التوقيت الدولي[41] على المائة وثمانين خط زوال. كلنا يعلم بوجود هذا الخط، لأن الجميع قرأوا كتاب جوليوس فيرن “حول العالم في ثمانين يوما”، ولكننا، غالبا، لا نفكر فيه.

 

حسنا، فقد كان على بطل روايتي أن يكون غرب هذا الخط، ويرى جزيرة جهة الشرق، حيث كانت في اليوم السابق. لا يمكن أن يتحطم قاربه على شاطئ الجزيرة نفسها، بل يجب أن تتقطع به السبل على مرمى البصر منها، ويجب أن ألا يكون قادرا على السباحة، ولذلك سيكون مجبرا على أن يرنو بنظره إلى الجزيرة القاصية عنه مكانا وزمانا.

 

أظهرت ساعتي أن تلك البقعة الحاسمة تقع عند جزر أليوتيان[42]، ولكني ما كنت أعلم كيف أجعل الشخصية تعلق في هذا المكان. هل بإمكاني أن أجعل قارب بطلي يتحطم مصطدما بمنصة بترول؟ ذكرت آنفا أني أحتاج، حين الكتابة عن مكان محدد، أن أذهب إليه، ولكن فكرة الذهاب إلى منطقة شديدة البرودة مثل جزر إليوتيان لم تكن مقبولة لي على الإطلاق.

 

لكن بعدما فكرت في المسألة مليا، وتصفحت أطلس الخرائط، اكتشفت أن خط التوقيت الدولي يمر أيضا عبر أرخبيل فيجي. جزر جنوب المحيط الباسيفيكي لها روابط قوية بالكاتب روبرت لويس ستيفنسون[43]. أصبحت الكثير من هذه الأراضي معروفة للأوربيين في القرن السابع عشر، أنا أعلم ثقافة الباروك[44] جيدا ـ تلك كانت أزمان الفرسان الثلاثة والكاردينال ريتشيليو[45]. كان علي البدء، وبعد ذلك، فإن الرواية سوف تمضي بنفسها.

 

ما أن ينتهي المؤلف من تصميم عالمه السردي، فإن الكلمات ستنثال، وستكون على النحو الذي يتطلبه هذا العالم. لهذا السبب، فإن الأسلوب الذي استخدمته في رواية “اسم الوردة” كان أسلوب مؤرخ قروسطي: دقيق، بسيط، سطحي عند الضرورة (ناسك متواضع في القرن الرابع عشر لن يكتب مثل جويس، ولن تكون له ذاكرة بروست). من ناحية أخرى، فحيث من المفترض أنني أنسخ من إحدى ترجمات القرن التاسع عشر لنص قروسطي، فإن النموذج الأسلوبي كان، بنحو غير مباشر، هو لاتينية الرواة التاريخيين القروسطيين في ذاك الوقت، أما النموذج الأكثر مباشرة فهو أسلوب المترجمين المعاصرين لأعمالهم.

 

في رواية “بندول فوكو” لزم أن يكون هناك دور لعدد من اللغات: لغة منطقة آجليي [شمال إيطاليا] المثقفة والعتيقة، واللغة البلاغية شِبه الفاشية الانونزية[46] لأردنتي، واللغة الأدبية الجافة والمثيرة للسخرية لملفات بيلبو السرية (ما بعد حداثية حقا في استخدامها النهم للاقتباسات الأدبية)، إن أسلوب جاراموند المبتذل[47]، والحوار الفاحش للمحررين الثلاثة، خلال تخيلاتهم المستخفة بالعواقب، حيث يمزجون الإشارات الرصينة بالتوريات العابثة. لم تستند تلك “القفزات في اللائحة” إلى اختيار أسلوبي بسيط، ولكنها تحددت بحسب طبيعة العالَم الذي تجري فيه الأحداث، وبحسب الطبيعة النفسية للشخصيات.

 

في رواية “جزيرة اليوم السابق” كانت الحقبة الثقافية هي العامل المحدِّد. لم تؤثر في الأسلوب فحسب، بل في نفس بنية الحوار الجاري بين السارد والشخصية، فيم يُناشد القارئ باستمرار للمشاركة كشاهد متواطئ في ذلك الحوار. نشأ هذا النوع من الاختيار الماوراء سردي[48] من واقع أن على شخصياتي التحدث بأسلوب باروكي[49]، رغم أنني شخصيا لا أستطيع ذلك. لذا، كان يجب أن يكون لدي راو متعدد الأحوال المزاجية والمهام: فأحيانا يكون ساخطا من التجاوزات اللفظية لشخصياته، وفي أحيان أخرى يصير هو ضحيتهم، وفي غيرها، يحاول تخفيف تلك التجاوزات بالاعتذار إلى القارئ.

 

حتى الآن، فإني قلت: (1) نقطة بدئي هي فكرة موحية أو صورة، و(2) أن بنية العالم السردي هو ما يحدد أسلوب الرواية. وتأتي مغامرتي الرابعة في كتابة الرواية: “باودولينو “، لتُناقض هذين المبدأين. ففيما يخص الفكرة الموحية: فقد ظل لدي عدد من هذه الأفكار، لعامين على الأقل ـ وإذا كان هناك العديد من الأفكار الموحية، فتلك علامة على أنها أفكار عقيمة. عند نقطة معينة قررت أن يكون بطل روايتي صبي مولود في الإسكندرية، مسقط رأسي، والتي بُنيت في القرن الثاني عشر، وحاصرها فريدريك بارباروسَّا. إضافة إلى ذلك، فقد أردت أن يكون باودولينو ابنا لجاجلياودو الأسطوري، الذي قام، بإحباط خطة بارباروسا في اجتياح المدينة، بواسطة خدعة ماكرة، كذبة، حيلة، وإذا أردتم أن تعرفوها فاقرأوا الكتاب.

 

كانت رواية “باودولينو” فرصة طيبة للعودة إلى العصور الوسطى، الأثيرة لدي، إلى جذوري الشخصية، إلى افتتاني بتلفيق الأحداث. لكن هذا لم يكن كافيا. لم أكن أعلم كيف أبدأ، أي أسلوب أستخدم، أو من هو بطلي الحقيقي.

 

فكرت في حقيقة أنه في هذه الأيام، في مسقط رأسي، لم يعد الناس يتحدثون باللغة اللاتينية، بل استخدموا لهجات جديدة، شكلت بنحو ما اللغة الإيطالية المعاصرة، التي كانت حينئذ في مهدها. غير أنه لم يكن لدينا سجلات للهجة المستخدمة في تلك الأعوام، في شمال شرق إيطاليا. بالتالي، صرت حرا في اختراع تعبيرات شعبية، لغة افتراضية بسيطة تخص منطقة وادي بو، في القرن الثاني عشر، وأحسب أني قد أجدت صياغتها، إذ أخبرني صديق لي، يقوم بتدريس مقرر دراسي عن تاريخ اللغات الإيطالية، أن لغة باودولينو ـ على الرغم من أن أحدا لا يمكنه أن يؤكد أو أن يدحض ابتكاري ـ غير بعيدة الاحتمال.

 

هذه اللغة، التي جعلت مترجمي أعمالي الشجعان يواجهون مشاكل ليست هينة، أوحت إليَّ بالطبيعة النفسية لبطل روايتي، باودولينو، وجعلت من روايتي الرابعة تحولا إلى دنيا العوام من الناس، بالنسبة إلى رواية ” اسم الوردة”. فالأخيرة كانت قصة مثقفين يتحدثون بأسلوب راق، بينما “باودولينو” تتعامل مع فلاحين، محاربين، وشعراء يتصفون بالمجون[50]. وهكذا فإن الأسلوب الذي تبنيته هو الذي حدد القصة التي سأحكيها.

 

ينبغي لي الاعتراف، على أية حال، أن رواية ” باودولينو”، تقوم، أيضا، على صورة أولى مثيرة للمشاعر؛ فلطالما كنت مفتونا بالقسطنطينية ، التي لم أرها مطلقا، ولكي أجد مبررا لزيارتها، احتجت إلى أن أحكي قصة عن هذه المدينة، وعن الحضارة البيزنطية. لذلك ذهبت إلى القسطنطينية، واستكشفت سطحها البادي، وكذا ما تحته من طبقات، ووجدت صورة البداية لقصتي: لقد أحرق الصليبيون المدينة عام 1204.

 

القسطنطينية آخذة في الاشتعال، وشاب يختلق الأكاذيب، وإمبراطور جرماني، وبعض المتوحشين الأسيويين، وها قد صار لديك الرواية. أعترف أنها لا تبدو كوصفة مقنعة، ولكن بالنسبة لي فقد أدت عملها.

 

يجب أن أذكر هنا أنه بالقراءة المتبحرة حول الثقافة البيزنطية، اكتشفت نيكيتاس إكسونياتيس، وهو مؤرخ يوناني لهذه الفترة الزمنية، وقررت أن أحكي القصة برمتها في صورة تقرير يقدمه باودولينو ـ كاذب مزعوم ـ إلى نيكيتاس. كان لدي أيضا بنائي الماوراء سردي: قصة يكون فيها نيكيتاس، بل والسارد والقارئ أيضا، غير موقنين بما يرويه باودولينو.

 

قيــود

 

قلت آنفا أنني ما إن أجد الصورة الموحية ، فإن القصة تتابع تقدمها ذاتيا. هذا حقيقي ولكن إلى مدى معين. فلكي تُمكن القصة من المضي قدما، فعلى الكاتب أن يفرض بعض القيود.

 

القيود أمر جوهري في كل محاولة فنية. المصور الذي يقرر استخدام ألوان الزيت لا ألوان التمبيرا[51]، وأن يرسم على القماش وليس على الجدار، المؤلف الموسيقي الذي يختار مقام معين، الشاعر الذي يختار نظما إيقاعيا معينا، أو التفعيلة اليونانية الأحادية عشرة وليس التفعيلة السداسية السكندرية، جميع ذلك يؤسس لمنظومة من القيود. كذلك فعل الفنانون الطليعيون، الذين بدوا وكأنهم يتجاوزون القيود؛ ولكنهم، ببساطة، يؤسسون قيودا أخرى، لا يلاحظها أحد.

 

أن تختار الأبواق السبعة في سِفر الرؤيا كثيمة لأحداث متوالية، مثلما فعلت في “اسم الوردة”، هو قيد. البعض الآخر قد يجعل أحداث القصة تقع في وقت محدد بإحكام، لأنه، في فترات تاريخية محددة، يمكنك أن تجعل بعض الأشياء تحدث، ولا يمكنك في غيرها. مما يُعد قيدا أن تقرر، مجاراةً للهواجس الغامضة لبعض شخصياتي، أن رواية “بندول فوكو” في حاجة إلى أن تتكون من مائة وعشرين فصلا بالتحديد، لأنه يجب تقسيم القصة إلى عشر أجزاء، لتصبح مثل التجليات النورانية العشرة للكابالا[52].

 

قيد آخر في رواية “بندول فوكو”؛ إذ كان على الشخصيات أن تعايش احتجاجات الطلبة عام 1968. غير أن بيلبو حينئذ كان يسجل ملفاته على الحاسوب ـ والذي يلعب دورا أساسيا في القصة، عبر الاستلهام الجزئي لطبيعة نظامه الرقمي والعشوائي ـ وعلى ذلك فإن الأحداث النهائية يمكن أن تقع، فقط، في بداية الثمانينيات، وليس قبل ذلك؛ إذ أن أول حاسوب شخصي، يتضمن برنامجا لمعالجة الكلمات، كان قد بدأ تسويقه في إيطاليا عام 1982ـ1983. وحتى ينصرم الوقت من عام 1968 إلى عام 1983 اضطررت إلى إرسال بطل روايتي إلى مكان آخر، أين؟ أرجعتني ذكرياتي عن بعض الطقوس السحرية التي شهدتها إلى البرازيل، حيث جعلت كازاوبون يعيش لأكثر من عشر أعوام. رأى البعض في ذلك استطرادا طويلا، أما بالنسبة لي (ولبعض القراء الخيِّرين) فقد كان ذلك أمرا أساسيا، لأن ما حدث في البرازيل هو نوع من هلوسة الشعور المسبق بما سيحدث لشخصياتي فيما بقي من الكتاب.

 

إذا كانت شركتي الكمبيوتر الشخصي: آي بي إم، وآبل، قد بدأتا في تسويق معالج كلمات جيد، قبل ذلك الوقت بست أو سبع سنين، لجعل هذا روايتي مختلفة. فما كانت البرازيل لتوجد في الرواية ـ ومن وجهة نظري، فإن ذلك كان سيُعد خسارة كبيرة.

 

قامت رواية “جزيرة اليوم السابق” على سلسلة من القيود الزمنية. على سبيل المثال: أردت لبطل روايتي، روبرتو، أن يكون في باريس يوم موت ريتشيليو (4 ديسمبر 1642). هل كان من الضروري لروبرتو أن يكون حاضرا لموت ريتشيليو؟ أبدا، فإن روايتي ستظل كما هي، حتى وإن لم يرى روبرتو روتشيليو في نزعه الأخير، على سرير الموت. إضافة إلى ذلك، فحينما ضمَّنت هذا القيد، لم يكن لدي فكرة عن وظيفته الممكنة. كل ما أردته هو تصوير ريتشيليو وهو على شفا الموت. ببساطة كانت هذه سادية مني.

 

غير أن هذا القيد قد ألزمني بحل معضلة. كان على روبرتو أن يصل إلى الجزيرة في شهر أغسطس من العام التالي؛ لأن هذا هو الشهر الذي زرت فيه الجزر، بإمكاني أن أصف شروق الشمس، في قلب سماء يغشاها الليل، في هذا الموسم فقط. لم يكن من المستحيل أن تبحر سفينة شراعية من أوروبا إلى ميلانيزيا[53] في ستة أو سبعة أشهر، لكن عند هذه النقطة كان علي أن أواجه صعوبة هائلة؛ بعد أغسطس، كان على شخص ما أن يعثر على يوميات روبرتو فيما بقي من السفينة التي أقلته. غير أن من المحتمل أن يصل المكتشف الألماني آبل تاسمان إلى جزر فيجي قبل يونيو ـ أي قبل وصول روبرتو. وهذا يفسر التلميحات التي زججت بها في نهاية الفصل، لأقنع القارئ بإمكانية أن يمر تاسمان بالأرخبيل مرتين، من دون أن يسجل الزيارة الثانية في سجل السفينة (لهذا، فكلا من المؤلف والقارئ يتم حثهما على تخيل لحظات صمت، مؤامرات، وأحوال غامضة)، أو أن القبطان بلييه قد رسي على الجزيرة، فرارا من تمرد السفينة باونتي (فرضية إضافية مذهلة، ووسيلة جيدة وساخرة للمزج بين عالمين نصيين).

 

تعتمد روايتي على العديد من القيود الأخرى، ولكن لا يمكنني الكشف عنها جميعا. لكي تُكتب رواية ناجحة، فعلى المرء أن يحتفظ بوصفات معينة سرا.

 

بالنسبة لرواية “باودولينو” ، قلت أني أردت بدء القصة بحريق القسطنطينية، عام 1204. وحيث أن مقصدي أن يقوم باودولينو بتزوير رسالة منسوبة إلى يوحنا الكاهن[54]، وأن يكون له دور في تأسيس الإسكندرية، كان عليَّ أن أجعل مولده نحو عام 1142، وهكذا يكون في الثانية والستين من عمره عام 1204. بهذا المعنى، كان على القصة أن تبدأ من نقطة النهاية، إذ يحكي باودولينو عن مغامراته السابقة، عبر سلسلة من استرجاعات الذاكرة. لا مشكلة.

 

غير أن باودولينو يجد نفسه في القسطنطينية في طريق عودته من مملكة يوحنا الكاهن. الآن، فإن الخطاب الزائف للكاهن ـ من الوجهة التاريخية ـ قد تم تزويره أو إشاعته نحو عام 1160، وفي روايتي يكتب باودولينو خطابا ليقنع فريدريك بارباروسا بالتقدم نحو المملكة الغامضة. هكذا، فحتى لو كان على باودولينو قضاء خمسة عشر عاما، أو نحوها، مسافرا إلى المملكة، والبقاء هناك، والهروب من آلاف المغامرات، فليس بإمكانه أن يبدأ رحلته الطويلة تلك قبل عام 1198 (أيضا، فإنه من المقرر تاريخيا أن بارباروسا تحرك جهة الشرق في هذا العام فقط). إذن، مالذي أجعل باودولينو يفعله بين عام 1160 وعام 1190؟ لم لا يستطيع أن يبدأ رحلة بحثه مباشرة، بعد نشر الخطاب؟ كان ذلك أشبه إلى حد ما بأمر الحاسوب في رواية “بندول فوكو”.

 

هكذا، كان لزاما علي أن أجعله مشغولا، فجعلته يداوم على تأجيل إقلاعه. كان علي أن أخترع سلسلة من الحوادث لكي يصل أخيرا مع نهاية القرن. غير إنه بفعل ذلك وحده، فإن الرواية تخلق ـ ليس في باودولينو فحسب بل وفي قراءها ـ وخز الرغبة. يتوق باودولينو إلى المملكة، لكنه بنحو ثابت يؤجل بحثه. لذا فإن مملكة يوحنا الكاهن تنمو كغاية لشوق باودولينو، وأيضا، آمل، كغاية لرغبة القارئ أيضا. مرة أخرى، مميزات القيود.

 

تشفير مزدوج

 

أنا لا أنتمي إلى تلك العصابة من الكتاب السيئين، الذين يقولون أنهم يكتبون لأنفسهم فقط. الشيئ الوحيد الذي يكتبه الكتاب لأنفسهم هو قائمة المشتريات، التي تساعدهم في تذكر ما يرغبون في شرائه، ومن ثم يلقون بها. كل ما سوى ذلك، حتى قائمة الغسيل، هي رسائل موجهة إلى شخص ما آخر. هي ليست مناجاة، بل حوارات.

 

الآن، توصل أحد النقاد إلى أن رواياتي تتضمن سمة نموذجية من سمات ما بعد الحداثة ـ أعني: تشفير مزدوج.(55)

 

كنت واعيا بذلك منذ البداية ـ وذكرت ذلك في كتابي “تأملات حول اسم الوردة”ـ أنه، كيفما تكون ما بعد الحداثة، فإني أستخدم تقنيتان نموذجيتان من تقنيات ما بعد الحداثة. إحداهما: المفارقة التناصية: اقتباسات مباشرة من نصوص شهيرة أخرى، أو إحالات، أقل أو أكثر شفافية، إلى تلك الاستشهادات. ثانيها: الماوراء سردي: ايحاءات بأن النص يشكل طبيعته بنفسه، بينما نرى المؤلف يتحدث مباشرة إلى القارئ.

 

“التشفير المزدوج” هو الاستخدام المتزامن للمفارقة التناصية، والمناشدة الضمنية للماوراء سردي. تمت صياغة مصطلح “التشفير المزدوج” بواسطة المعماري شارلز جينكز، الذي يرى أن المعمار ما بعد الحداثي “يتحدث إلى مستويين، على الأقل، معا: إلى المعماريين الآخرين، ومعهم أقلية من المهتمين بالمعاني المعمارية بشكل خاص، وإلى عامة الناس، أو السكان المحليين، المشغولون بأمور أخرى معنية بالراحة، والبناء التقليدي، وطريقة الحياة”(56) ويضيف في تعريفه، قائلا: “إن المبنى ما بعد الحداثي، أو العمل الفني، إنما يخاطب، على نحو متزامن، الأقلية من النخبة، مستخدما شيفرات “عالية”، وجماهير العامة، مستخدما شيفرات شائعة”.(57)

 

سأستشهد بمثال للتشفير المزدوج من رواياتي: تبدأ رواية “اسم الوردة” بحكاية الكيفية التي صادف فيها المؤلف نصا قديما، من نصوص العصور الوسطى. تلك حالة صارخة للمفارقة التناصية، حيث نجد أن الحدث العادي (أي: المألوف أدبيا) للعثور على المخطوطة، ذو أصل جليل. المفارقة هنا مزدوجة، كما أنها أيضا ذات مسحة ما وراء سردية، إذ أن النص يدَّعي أن المخطوطة كانت متاحة، خلال ترجمة تمت في القرن التاسع عشر للمخطوطة الأصلية ـ وهي ملاحظة تبرر وجود بعض عناصر الرواية القوطية الجديدة في القصة. لن يستمتع البسطاء، أو عامة القراء، بما يلي من سرد، إلا إذا كانوا واعين بهذه اللعبة، لعبة الصناديق الصينية[58]، هذا الارتداد في رواية المصادر، هو ما يمنح القصة تلك الهالة من الغموض.

 

لكن إذا تذكرتم، فإن ترويسة الصفحة التي تتحدث عن المصدر القروسطي تذكره باعتباره “مخطوطة ، بالفعل”، إن كلمة “بالفعل” ينبغي أن يكون لها تأثير خاص على القراء المتمرسين، والملتزمون، الآن، بإدراك أنهم يتعاملون مع موضوع أدبي مألوف، وأن المؤلف يكشف عن “قلقه من سطوة التأثير”، بما أن الإشارة المقصودة (على الأقل بالنسبة للقراء الإيطاليين) إنما تشير إلى أعظم الروائيين الإيطاليين في القرن التاسع عشر، أليساندرو مانزوني، الذي بدأ روايته “المخطوبان” بادعاء أن مصدره هو مخطوطة تنتمي للقرن السابع عشر. كم قارئ يمكنه أن يفهم رنة التهكم في كلمة “بالفعل”؟ ليس الكثير، حيث أن العديد منهم قد راسلني ليسأل عما إذا كانت هذه المخطوطة موجودة فعلا. لكن إذا لم يفهموا هذا التلميح، فهل سيتمكنون من تقدير بقية القصة بنحو ملائم، وأن يحظوا بالاستمتاع بمذاقها الخاص؟ أحسب أن هذا ما سيحدث. لقد فاتهم مجرد تلميح إضافي.

 

أعترف أنه باستخدام تقنية التشفير المزدوج، يؤسس المؤلف لنوع من التواطؤ الصامت مع القارئ المتمرس، وأن بعض القراء من العامة، حينما لا يفهمون هذه التلميحات المثقفة، قد يشعرون بأن شيئا ما قد فاتهم. غير أن الأدب، في اعتقادي، لا يراد منه تسلية أو مواساة الناس فحسب، إنما يقصد به أيضا تحريض وإثارة الناس لقراءة النص ذاته مرتين، أو ربما لأكثر من مرة، لأنهم يرغبون في زيادة فهمهم له. وعلى ذلك، أعتقد أن التشفير المزدوج ليس خلجة أرستقراطية، وإنما هو وسيلة لإظهار الاحترام لذكاء وحسن نية القارئ.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

حواشي الفصل الأول “الكتابة من الشمال إلى اليمين”

 

[1] تقام هذه المحاضرات في جامعة إيموري، في الولايات المتحدة، تكريما لاسم ريتشارد إلمان (1918 1987)، أول من شغل منصب أستاذ كرسيّ في جامعة إيموري منذ عام 1980 حتى عام 1987. ويعتبر إلمان واحداً من أهم كتَّاب السير الأدبية، فقد كتب سيرة أوسكار وايلد وجيمس جويس، بالإضافة إلى أنه أكاديميّ ومتخصص بارز في ويليام بتلر ييتس، وصمويل بيكيت، وت.س إليوت، ووالاس ستيفنس، وغيرهم من الكتاب الحديثين. كما أنّ محاضراته العامة كانت موجهة إلى القراء في جميع بلدان العالم بسبب لغته التي دأبت على إغراء هذه الشريحة بالمشاركة الشخصية والإنخراط في الأدب الجاد. [المترجم]

 

[2] قراصنة الكاريبي :Pirates of the Caribbean سلسلة سينمائية ناجحة مكونة من 5 أفلام, طابعها الحركة والمغامرات الكوميدية، تدور أحداثها في البحر الكاريبي خلال أوائل القرن السادس عشر، عُرض جزأها الأول عام 2003، السلسلة بأكملها مبنية على لعبة في حديقة ديزني لاند الشهيرة، تسمى قراصنة الكاريبي. [المترجم]

 

(3) يقلع البعض عن نظم الشعر بعد الثامنة عشر من العمر بقليل ، مثل رامبو. (إكو)

 

(4) كتبت، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، عددا من الأعمال الساخرة والنثرية، مجموعة الآن في مجلد بعنوان “القراءة الخاطئة Misreadings” الناشر: New York: Harcourt, 1993) ولكنني أعتبر هذه الأعمال مجرد لهو.(إكو)

 

[5] هوميروس: شاعر إغريقي ملحمي، تُنسب إليها ملحمتا الإلياذة والأوديسة، عاش في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. [المترجم]

 

[6] أفلاطون (427 ـ 347 ق.م): فيلسوف يوناني، صاحب الفلسفة المثالية، الداعية إلى تحصيل المعرفة الشاملة، ألَّف العديد من المحاورات الفلسفية. [المترجم]

 

[7] الحرب والسلام: رواية للكاتب الروسي تولوستوي، نشرت حوالي 1865، وتدور أحداثها في فترة حكم القيصر وهجوم نابليون على روسيا وهزيمته. [المترجم]

 

[8] دون كيشوت: رواية للأديب الإسباني ميغيل دي ثيرفانتس، وتدور حول شخصية ألونسو الذي يتخيل نفسه فارسا من فرسان العصور الوسطى، فيجوب البلاد بفرسه ورمحه، وأخلاق الفرسان المثالية. [المترجم]

 

[9] هيدجر: فيلسوف ألماني (1889 ـ 1976م). [المترجم]

 

[10] لاكان (1901 ـ 1981م): لاكان جاك. محلل نفسي فرنسي. [المترجم]

 

[11] آه سوزانا: عرض غنائي كوميدي من تأليف ستيفن فوستر (1826ـ 1864). [المترجم]

 

[12] هاملت: مسرحية تراجيدية من تأليف وليم شكسبير (1564ـ 1616) كتبت تقريبا بين عامي 1599ـ1601. [المترجم]

 

[13] كارل نيلسون لينوس (1707ـ 1778) عالم سويدي في مجالات النبات، والحيوان، والفيزياء. [المترجم]

 

[14] هيرمان ملفيل (1819ـ1891) روائي وشاعر أمريكي ، ومن أشهر أعماله رواية “موبي ديك” وتدور أحداثها في سفينة لصيد الحيتان، ونحكي صراعاً رمزياً بين الحوت والإنسان. [المترجم]

 

[15] كلاوديوس بطليموس (83 ـ 161 بعد الميلاد) عالم رياضيات، وجغرافيا، وعالم فلك، كان قد ذهب إلى أن الأرض ثابتة وأنها مركز الكون. [المترجم]

 

[16] يوهان كبلر (1571 ـ 1630) عالم ألماني متخصص في الرياضيات والفلك ، ذهب بخلاف بطليموس إلى القول أن الكواكب تسير كل في مساره، فيما تحتل الشمس المركز. [المترجم]

 

[17] البحث عن الزمن المفقود: رواية في سبعة مجلدات من تأليف مارسيل بروست. [المترجم]

 

[18] السيميوطيقا: علم يُعنى بدراسة العلامات الرموز، ومعناها، وكيفية استعمالها. [المترجم]

 

Who-dun-it [19 ]أو whodunit : نوع من الأعمال الفنية ـ فيلم أو روايةـ تدور حول جريمة قتل، ولا يُعرف فيها الجاني إلا مع نهاية العمل. [المترجم]

 

[20] الكأس المقدسة Holy Grail: في الأدب والتراث المسيحي تعني تلك الكأس التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير، ويسعى الجميع إلى العثور عليها، وتضفي الأسطورة عليها سمة المعجزة، بالقول أنها تتضمن قوة ما، وعند بعض الجماعات المسيحية الأخرى فإنها رمز لوثائق ومخطوطات دفينة لأناجيل غير معروفة، تُذكر فيها الطبيعة البشرية للمسيح. [المترجم]

 

[21] يقصد أن هذه الدول تكتب من اليمين إلى الشمال، فربما تندهش من كونه يكتب من الشمال إلى اليمين. [المترجم]

 

[22] جورج بيريك (1936ـ1982) روائي فرنسي، وصانع أفلام، تحتوي رواياته على الكثير من تجارب اللعب بالكلمات، فإحدى روايته “فراغ A Void” تقع في 300 صفحة كتبت جميعها بدون أي كلمة تتضمن حرف”e”.[المترجم]

 

:lipogram [23 ]نوع من الكتابة المتكلفة، أو لعبة الكلمات، وهي عبارة عن كتابة فقرات أو أعمال طويلة يتجنب مؤلفها استخدام حروف معينة، وغالبا ما تكون من الحروف المتحركة مثل حرف”e”. [المترجم]

 

Haiku [24] الهايكو: نوع من الشعر الياباني، يتميز بقصره الشديد، وبساطة ألفاظه، والتعبير عن عميق المشاعر والأحاسيس، الذي قد لا يتجاوز البيت الواحد. [المترجم]

 

(25) (See Umberto Eco, “Come Scrivo, ” in Maia Teresa Serafini, ed., come si scrive un romanzo (Milan:Bompiani,1996).

 

:Romanesque [26]الطراز الرومانسكي هو أسلوب معماري للقرون الوسطى الأوربية، ويتميز بالأقواس شبه الدائرية، وضخامة الكتلة، والصلابة البادية، والقوة. [المترجم]

 

[27]الطراز القوطي Gothic: طراز معماري انبثق من الطراز الرمانسكي في العصور الوسطى الأوربية، ويتميز في المعمار الكنسي بالتأكيد على الاستطالة عاليا والخفة، كما تميز بالأقواس المحدبة، والقباب ذات الأضلاع، والدعامات الطائرة. [المترجم]

 

Conservatoire National des Arts et Métiers [28]المعهد الوطني للفنون والحِرَف: أسسته الحكومة الفرنسية عام 1794، وخصصته لتعليم وإجراء الأبحاث لأجل التطوير في مجالي العلوم والصناعة، ويتضمن متحفا كبيرا يضم آلاف الأعمال الفنية والابتكارات، ومن بينها النسخة الأصلية لبندول فوكو. [المترجم]

 

[29] كازاوبون: الشخصية الرئيسية في رواة بندول فوكو. [المترجم]

 

[30] ميدان دي فوي: هو أقدم مخطط بنائي في باريس، على شكل مربع تام، طول ضلعه 140 مترا، بناه هنري الرابع بين عامي 1605 -ـ1612، ويقع في مقاطعة ماريه. [المترجم]

 

[31] الجَرْسُ: التأثير الصوتي لألفاظ القصيدة، والذي ينتج عن حسن اختيار الكلمات، وموسيقاها الداخلية. [المترجم]

 

[32] لوتشينو فيسكونتي دي مودرون (1906ـ1976) مخرج مسرحي وسينمائي وأوبرالي وكاتب سيناريو إيطالي، من أشهر أعماله “النمر الأرقط”. [المترجم]

 

[33] بندكتي: إشارة إلى تكريس الحياة الروحانية، بحسب قاعدة القديس بنديكت، التي كتبها في القرن السادس، لمجتمعات الرهبنة، التي أسسها في وسط إيطاليا. [المترجم]

 

[34] أعمال القديسين: موسوعة في 68 مجلدا تدرس سير حياة القديسين المسيحين دراسة نقدية، ومرتبة بحسب يوم عيد كل قديس، نشرت عام 1643. [المترجم]

 

Foucault pendulum [35] بندول فوكو: سُمي باسم الفيزيائي الفرنسي ليون فوكو، وهو عبارة عن أداة بسيطة صُنعت لإثبات دوران الأرض، وهو عبارة عن بندول من الرصاص المطلي بالنحاس، وزنه 28 كيلوجرام، معلق في سلك طوله 67 مترا، ويمكن معرفة المزيد عنه في هذا الرابط:

 

https://en.wikipedia.org/wiki/Foucault_pendulum [المترجم]

 

The Italian resistance [36]حركة المقاومة الإيطالية: وهو تجمُّع للأحزاب الإيطالية الموالية للحلفاء في الحرب العالمية الثانية. [المترجم]

 

[37] جيمس جويس (1882-1941): قاص وروائي وشاعر ايرلندي، يعد من أهم وأكثر الكتاب تأثيرا في القرن العشرين، من أعماله الشهيرة: “عوليس”، و”صورة الفنان في شبابه”.[المترجم]

 

[38] ستيفن بطلا: رواية من تأليف الكاتب الايرلندي جيمس جويس. نُشِرَت الرواية في عام 1944، بعد وفاة جيمس جويس، الرواية المطبوعة لا تشمل كُلَّ النص الأصلي، حيث ضاعت أجزاء من المخطوطة. اقتبس جويس في كتابة “ستيفن بطلاً” عناصر من سيرته الذاتيَّة.[المترجم]

 

ekphrasis [39]: قمت بترجمتها إلى: ” التجسيد اللغوي للصورة “، وهي كلمة من أصل يوناني، تعني: كتابة وصف بلاغي لعمل فني (لوحة أو تمثال) على سبيل التمرين. [المترجم]

 

[40] تمثال لاوكون: تمثال تذكاري ضخم من المرمر، يوجد حاليا في متاحف الفاتيكان في روما. ويصور الكاهن الطروادي لاكون، وأبناءه أنتيفانتس وثيمبرايوس، يصارعون أفاعي بحرية. [المترجم]

 

[41] خط التوقيت الدولي: هو خط جرينيتش الوهمي، الواقع على خط الطول 180 درجة، وبه تتحدد المناطق الزمنية في أنحاء العالم، بحسب بعد المكان عنه، شرقا أو غربا. [المترجم]

 

[42] جزر أليوتيان: سلسلة جزر بركانية، غرب شبه جزيرة ألاسكا.[المترجم]

 

[43] روبرت لويس بلفور ستيفنسون( 1850 – 1894) روائي، وشاعر، وكاتب مقالات، وكاتب اسكتلندي، تخصص في أدب الرحلات، أبحر في يخت استأجره هو وعائلته من سان فرانسيسكو إلى جزر جنوب المحيط الهادي, زار خلالها ثلاثا وثلاثين جزيرة، وقد وصف بعض هذه الجزر كجزر الماكيز، وهاواي، وساموا، في كتاب “حاشية للتاريخ” عام 1892، وكتاب ” البحار الجنوبية”، ثم أصبحت جزيرة ساموا وطنه الدائم، منذ عام 1890 فمات فيها في ديسمبر عام 1894، ودفن جثمانه في قمة جبل “فيا” في هذه الجزيرة أيضا. [المترجم]

 

[44] الباروك: اصطلاح مستعمل في فن العمارة والتصوير، معناه الحرفي: شكل غريب، غير متناسق، معوج. يتميز الأسلوب الباروكي بالضخامة، ويمتلئ بالتفاصيل المثيرة. [المترجم]

 

[45] الفرسان الثلاثة: رواية لألكسندر دوماس، وكانت إحدى شخصياتها الكاردينال ريتشيليو، رجل دين ونبيل فرنسي، عين كاردينالا ورئيسا للوزراء في حكم لويس الثالث عشر. وهناك لوحة شهيرة له في متحف اللوفر. [المترجم]

 

[46] أنونزي: نسبة إلى جابرييل دانونزيو، كاتب روائي ومسرحي وشاعر وصحفي إيطالي، كان جنديا في الحرب العالمية الأولى، يميل إلى الفاشية. [المترجم]

 

[47] جاراموند: إحدى شخصيات رواية “بندول فوكو”: مالك دار جاراموند للنشر. [المترجم]

 

[48] ما وراء سردي: نوع من الكتابة الأدبية، يكون التركيز فيه على العمل نفسه، والذي يدخل في بنيته تنبيه القارئ، كل حين، بأنه يقرأ عملا روائيا. وبتعبير أمبرتو إكو: هو ” ايحاءات بأن النص يشكل طبيعته بنفسه، بينما نرى المؤلف يتحدث مباشرة إلى القارئ.” [المترجم]

 

[49] أسلوب باروكي: أسلوب فني، يتميز بالمبالغة في التراكيب والتفاصيل الفنية، وميل للغموض، واستخدام الحيل البلاغية في الأدب، لإظهار ترف اللغة. [المترجم]

 

Goliards [50]: جماعة صغيرة من الكهنة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، اشتهروا بكتابة الشعر الساخر، محتجين به على ما تعانيه الكنيسة من تناقضات، واتصفت حياتهم بالتسكع والانحراف. [المترجم]

 

[51] ألوان التيمبيرا: نوع من الألوان المستخدمة في التصوير، تتكون من مزيج من الصباغ، وصفار البيض، والماء. [المترجم]

 

[52] الكابالا: عقيدة صوفية سرية يهودية، وتؤمن بقوى عشرة للإله، يتحكم من خلالها بأبديته في العالم الزائل. [المترجم]

 

[53] ميلانيزيا: منطقة تقع في الجنوب الغربي للمحيط الهادي، وتمتد من جزيرة نيو غينيا، إلى بحر أرافورا، على الجانب الشرقي لجزر فيجي. [المترجم]

 

[54] يوحنا الكاهن: ملك مسيحي أسطوري، يقال أنه كان يحكم آسيا الوسطى، أو أثيوبيا، في القرون الوسطى، وقد حيكت حول أعماله وأوصافه العديد من الحكايات، وقد شغل الكثير من الرحالة في البحث عنه، وانشغل الكثير من الباحثين الحديثين في بحث أصل أسطورته. [المترجم]

 

(55) Linda Hutcheon, “Eco’s Echoes:Ironizing the (Post) Modern,” in Norma Bouchard and Veronica Pravadelli, eds .Umberto Eco’s Alternative (New York: Peter Lang, 1998); Linda Hutcheon, A Poetics of Postmodernism (London: Routledge’ 1988); Brian McHale, Constructing Postmodernism (London: Routledge, 1992); Remo Ceserani, “Eco’s (Post) modernism Fictions,” in Bouchard and vadelli, Umberto Eco’s Alternative.

 

(56) Charles A. Jencks, The Language of Post-Modern Architecture (Wisbech, U.K.: Balding and Mansell, 1978), 6.

 

(57) Charles A. Jencks, What is Post-Modernism? (London: Art and Design, 1986), 14-15. See also Charles A. Jencks, ed., The Post-Modern Reader (New York: Martin’s, 1992).

 

[ [58لعبة الصناديق الصينية: مجموعة من الصناديق المتزايدة في الحجم، يوضع الأصغر منها داخل الأكبر منه، وهكذا، حتى يكونوا صندوقا كبيرا واحد يحوي الجميع. [المترجم]

 

…………….

 

* الفصل الأول من كتاب “اعترافات روائي شاب” لأمبرتو إكو. الكتاب عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الكاتب المعروف أمبرتو إكو في جامعة إيموري، في الولايات المتحدة، في حفل التكريم السنوي لاسم ريتشارد إلمان (1918 1987)، أول من شغل منصب أستاذ كرسيّ في جامعة إيموري منذ عام 1980 حتى عام 1987. ويعتبر إلمان واحداً من أهم كتَّاب السير الأدبية، فقد كتب سيرة أوسكار وايلد وجيمس جويس، بالإضافة إلى أنه أكاديميّ ومتخصص بارز في ويليام بتلر ييتس، وصمويل بيكيت، وت.س إليوت، ووالاس ستيفنس، وغيرهم من الكتاب الحديثين. كما أنّ محاضراته العامة كانت موجهة إلى القراء في جميع بلدان العالم بسبب لغته التي دأبت على إغراء هذه الشريحة بالمشاركة الشخصية والإنخراط في الأدب الجاد.

 

الفصل الثاني

 

“المؤلف، والنص، والمؤولون”.. الفصل الثاني من كتاب “اعترافات روائي شاب” لإمبرتو إيكو

 

 

2

 

المؤلف، والنص، والمؤولون

 

يحدث أحيانا أن يسألني أحد المترجمين السؤال التالي: “إني في حيرة، ولا أدري كيف أترجم هذا المقطع؛ إذ إنه يتسم بالغموض، ويمكن قراءته بأوجه متباينة، فماذا كان قصدك؟

 

وطبقا للحالة، فإن لدي ثلاث إجابات محتملة، هي:

 

“هذا حقيقي. لقد اخترت التعبير الخاطئ. أرجو أن تستبعد أي سوء فهم محتمل”. وفي الطبعة الإيطالية التالية، سأكرر الأمر!

“لقد تعمدت أن أكون غامضا. وإذا قرأت بانتباه، فسوف تجد أن هذا الغموض ذا صلة بالطريقة التي يُقرأ بها النص. أرجو أن تبذل جهدك في الحفاظ على هذا الغموض في ترجمتك”.

“لم أدرك أن ثمة غموض هناك، صدقني، أنا لم أقصد أن أجعله هكذا. لكن كقارئ، فإني أجد هذا الغموض مثيرا للفضول، ومثمرا في كشف النص. أرجو أن تبذل جهدك في الحفاظ على هذا التأثير في ترجمتك”.

 

الآن، إذا ما كنت قد مِتُّ منذ أعوام (شرط مغاير للحقيقة، ولكن تزيد احتمالات حدوثه قبل نهاية هذا القرن)، فإن مترجم أعمالي، بسلوكه كقارئ، ومؤول عادي لنصي، بإمكانه، معتمدا على نفسه، الوصول إلى إحدى النتائج التالية، التي هي، في الواقع، نفس إجاباتي المحتملة:

 

لا معنى للغموض هنا، بالإضافة إلى أنه يربك فهم القارئ للنص. ربما لم يدرك المؤلف ذلك الأمر، لذا فمن الأفضل استبعاد ذلك الغموض. “حتى هوميروس العظيم يخطئ أحيانا “[1].

الأرجح أن المؤلف قد تعمد هذا الغموض، وسيكون جيدا أن أحترم هذا القرار.

من المحتمل أن المؤلف لم يدرك كونه غامضا. لكن، من وجهة نظر نصِّية ما، فإن هذا التأثير بعدم اليقين غني بالدلالات، والتلميحات الخصبة بالنسبة لمجمل الاستراتيجية النصية.

 

ما أحب أن أقوله هنا هو: أن هؤلاء الذين يقال عنهم كُتَّاب “مبدعون” (وقد شرحت آنفا ما الذي يمكن أن يعنيه هذا المصطلح المزعج) يجب ألا يقوموا، مطلقا، بتقديم تأويلات لأعمالهم الخاصة؛ فالنص أداة كسول، يرغب في أن يؤدي قراؤه جزءا من عمله؛ بمعنى، أن النصَّ أداة متخيَلة لاستنباط التأويلات (كما ذكرت في كتابي “دور القارئ”). إذا كان لدى المرء نص يبحثه، فمما لا صلة له بالموضوع أن يسأل المؤلف، وفي الوقت ذاته، لا يمكن للقارئ أن يطرح أي تأويل هكذا، معتمدا، ببساطة، على توهمه، بل يجب عليه التأكد من أن النص، بطريقة ما، يجيز، بل ويحث على قراءة معينة.

 

في كتابي “حدود التأويل”، أميز بين قصد المؤلف، وبين قصد القارئ، وبين قصد النص.

 

في عام 1962 كتبت “العمل المفتوح”، (تُرجم إلى الإنجليزية تحت عنوان The Open Work).(2) في هذا الكتاب، أكدت على الدور الفعَّال للمؤول، في قراءة النصوص الثرية بالقيم الجمالية. عندما كُتبت هذه الصفحات، ركَّز قرائي، بشكل أساسي، على الجانب “المفتوح” من مجمل العمل، مستخفين بحقيقة أن القراءة ذات النهاية المفتوحة، التي أدعمها، إنما هي فاعلية أُثيرت بواسطة (وتستهدف تأويل) العمل. بمعنى آخر، لقد كنت أدرس التفاعل بين حقوق النصوص وحقوق مؤوليها. وتولد لدي الانطباع، بأنه خلال العهود القليلة الماضية، فإن حقوق المؤولين قد تم المغالاة فيها.

 

وقد قدمت، في العديد من كتاباتي، شرحا وافيا للصيرورة اللامحدودة للعلامات[3]، التي صاغها تشارلز ساندرز بييرس أولا، غير أن فكرة الصيررة اللامحدودة للعلامات لا تقود إلى استنتاج أن التأويل غير منضبط بمعايير، لأمر واحد، أن التأويل اللامحدود يُعنى بالنظم لا بالعمليات.

 

لأوضح الأمر، المنظومة اللغوية هي أداة ينتج عنها، وبواسطتها، خيوط لغوية لا نهائية. فإذا رجعنا إلى القاموس لمعرفة معنى مفردة ما، سنجد العديد من المعاني والمرادفات ـ أي: كلمات أخرى ـ ومن ثم نبحث هذه الكلمات الأخرى لنعرف معانيها، ومن تعريفاتها يمكننا الانتقال إلى كلمات أخرى، وهكذا، لا نهائية محتملة.

 

القاموس، كما قال جيمس جويس في روايته “يقظة فينيجان”: هو كتاب جُعل لقارئ نموذجي يعاني أرقا نموذجيا. القاموس الجيد ينبغي أن يكون دائريا ـ يجب أن يقول ما معنى كلمة “قِطْ” باستخدام كلمات أخرى، وإلا لكان كافيا أن تغلق القاموس، وأن تشير إلى قط، وتقول: “هذا قط”. سهل جدا، وقد تلقينا جميعا ما يكفي من مثل هذه التفسيرات في طفولتنا. غير أن تلك ليست الطريقة الملائمة التي نعرف بها معنى كلمات مثل: “ديناصور”، و”على أية حال”، و”يوليوس قيصر”، و”حرية”.

 

على النقيض من ذلك، فالنص، بقدر ما ينشأ عن التلاعب باحتمالات منظومة لغوية ما، لا يكون مفتوحا بنفس الطريقة. فالمرء بتأليفه لنص ما يختزل مجال الاختيارات اللغوية الممكنة. إذا كتبنا: “جون يأكل …”، فهناك احتمال قوي أن الكلمة التالية ستكون اسما، وأن هذا الاسم لن يكون “سُلَّما” (رغم أنه في سياق معين يمكن أن تكون الكلمة “سيف”). بتقليص احتمال توليد خيوط لا نهائية، يقلل النص أيضا من احتمال تجربة تأويلات محددة. في معجم اللغة الإنجليزية، نجد أن الضمير “أنا”، ما زال معناه: “الشخص الذي يتلفظ بالعبارة التي يرد فيها الضمير “أنا” ـ وبالتالي، فإنه بحسب مجموعة من الاحتمالات المقدمة من قِبَل المعجم، فإن “أنا” يمكن أن تشير إلى الرئيس لينكولن، أو أسامة بن لادن، أو جروشو ماركس، أو نيكول كيدمان، أو أي شخص من بلايين الأفراد الآخرين الذين يعيشون في الحاضر، أو الماضي، أو المستقبل. غير أن خطابا موقعا باسمي، فإن الضمير “أنا” فيه سيعني: “أمبرتو إكو”، بغض النظر عن الاعتراضات التي وجهها جاك دريدا لجون سيرل[4] أثناء نقاشهم الشهير حول التوقيع والسياق.(5)

 

أن نقول أن تأويلات نص ما قد تكون غير محدودة، لا يعني أن التأويل لا يملك موضوعا ـ أي: ليس لديه شيء موجود (حقيقة أو نص) ليركز عليه. وقولنا أن نصا ما قد لا تكون له نهاية، لا يعني أن كل تأويل يمكن أن ينتهي نهاية سعيدة. ويبين هذا السبب في أنني اقترحت ، في كتابي “حدود التأويل”، نوعا من الضابط المعياري للتكذيب (مستوحى من الفيلسوف كارل بوبر[6]): وبرغم صعوبة تقرير ما إذا كان تأويلا مُعطى هو تأويل جيد، أو تقرير أي التأويلين للنص نفسه هو الأفضل، فمن الممكن دوما الإخبار بأن تأويلا معينا هو تأويل خاطئ بشكل صارخ، تأويل مجنون، أو تأويل مستبعد.

 

بعض النظريات النقدية المعاصرة تؤكد على أن القراءة الوحيدة الجديرة بالثقة هي قراءة خاطئة، وأن النص يحيا، فقط، بفضل سلسلة الاستجابات التي يثيرها. غير أن هذه السلسة من الاستجابات تمثل الاستخدامات اللانهائية، التي يمكن أن نجعلها للنص (فبإمكاننا، على سبيل المثال، استخدام الإنجيل بدلا من قطعة خشب كوقود للمدفأة)، وليس مجموعة التأويلات التي تعتمد على بعض التخمينات المقبولة حول قصد النص.

 

كيف يمكننا أن نبرهن على أن تخمينا ما حول قصد النص هو تخمين مقبول؟ الطريقة الوحيدة تكون بمقابلته بالنص ككل متماسك. وتلك فكرة قديمة وترجع إلى أوغسطين[7] (حول العقيدة المسيحية): إن تأويل أي جزء من النص يمكن قبوله إذا تأكد ـ ويمكن أن يُستبعد إذا عورض ـ من قِبل جزء آخر من النص نفسه. بهذا المعنى، فإن التماسك الداخلي للنص هو المتحكم في البواعث غير المحكومة للقارئ.

 

دعوني أقدم مثالا، خاص بنص يشجع بنحو قصدي ومبرمج على أكثر التأويلات جرأة ـ أعني: رواية “يقظة فينيجان”. في الستينيات، في جريدة A Wake Newslitter، كان ثمة مناقشة حول التلميحات التاريخية الحقيقية، التي قد يتم التعرف عليها، في رواية “يقظة فينيجان” ـ على سبيل المثال، تلميحات إلى اتفاقية أنشيلوس [الضَّم][8] للوحدة السياسية بين ألمانيا والنمسا ، ومعاهدة ميونيخ[9] في سبتمبر 1938. ولأجل أن يتحدى هذه التأويلات، أشار ناثان هالبر، إلى أن كلمة أنشيلوس لها معنى دارج غير سياسي (مثل كلمتي “ارتباط” و”اندماج”)، وأن النص لا يدعم القراءة السياسية. ولكي يبين سهولة العثور على أي شيء في رواية “يقظة فينيجان”، أخذ هالبر مثال بيريا[11]. بداية، ففي مستهل “حكاية النملة والجندب”[12] عثر [هالبر] على تعبير “So vi et!” [صوتيا تعني “سوفييت” نسبة إلى الاتحاد السوفييتي] فظن بإمكانية ارتباطها بمجتمع النمل شبه الشيوعي. ولكن بعد صفحة واحدة عثر على تلميح إلى “berial”، والتي تبدو للمحة الأولى كتنويع لكلمة “burial” [الدفن].هل يمكن أن تكون كناية عن الوزير السوفييتي لافرنتي بيريا؟ لكن بيريا لم يكن معروفا في الغرب حتى 9 ديسمبر 1938، عندما تم تعيينه مفوضا للداخلية (قبل ذلك، كان مجرد موظف في درجة أقل)، وفي ديسمبر 1938 كانت مخطوطة جويس في المطبعة. غير أن كلمة “berial” كانت موجودة في نسخة عام 1929 التي نشرت في الجريدة الأدبية transition 12. يبدو السؤال قائما على أسس من الأدلة الخارجية ـ رغم أن بعض المؤولين كانوا على استعداد لأن يضفوا على جويس قوى مقدسة، والقدرة على التنبؤ بظهور بيريا. أمر مثير للضحك حقا ـ غير أنه بين المعجبين بجويس، يمكنك إيجاد أمور أكثر سخافة.

 

الأدلة الداخلية هي الأكثر أهمية، أي: الأدلة النصية. في عدد لاحق من مجلة Awake Newslitter ، أشار رث فون فَلْ إلى أن “So vi et” قد يكون المقصود منها ما يشبه كلمة “آمين” التي يتلفظ بها أعضاء الهيئات السلطوية الدينية، وبذا لا يكون السياق العام لتلك الصفحات سياسيا بل إنجيليا؛ حيث تقول النملة Ondt : “بقدر ما يزداد حقل ببي إزهارا، بقدر ما يزداد سلطاني ازدهارا”، وحيث أن “ببي” هي صيغة تصغير إيطالية لـ”يوسف”، وحيث يمكن لكلمة “berial” أن تكون خيالا متحورا لشخصية يوسف الإنجيلية (ابن يعقوب وراشيل)، الذي دُفن مرتين على نحو مجازي؛ في الجُبّ، وفي السجن، والذي أنجب إفرايم، الذي، بدوره، أنجب بيريا (أخبار الأيام الأول 23:10)، وحيث أن كان لآشر Asher أخو يوسف ولد يُسمّى بيريا (سفر التكوين 45:30) وهكذا دواليك.(13)

 

كثير من الأوهام التي عثر عليها فون فَلْ هي، بلا شك، مستبعدة، ولكن يبدو أنه لا يمكن تجاهل أن كل هذه التلميحات، في هذه الصفحات، هي تلميحات إنجيلية في طبيعتها. وهكذا، فإن الدليل النصي، أيضا، يُقصي لافارنتي بيريا من كتاب جويس، وأحسب أن القديس أوغسطين كان ليوافق على ذلك.

 

النص أداة متخيلة من أجل أن ينتج قارئه النموذجي[14]. هذا القارئ ليس هو من يقدم التخمين “الصحيح الوحيد”. بإمكان النص أن يتوقع قارئا نموذجيا مخولا بتجربة تخمينات لا نهائية. القارئ التجريبي، هو، ببساطة، من يقوم بعمل تخمينات حول القارئ النموذجي الذي يفترضه النص. حيث أن قصد النص، بالدرجة الأولى، هو إنتاج القارئ النموذجي، القادر على القيام بتخمينات تخص النص، فمهمة القارئ النموذجي تتأسس على أن يتعرف على المؤلف النموذجي ـ وهو ليس المؤلف التجريبي ـ الذي يتوافق جوهريا مع قصد النص.

 

معرفة قصد نص ما تعني: معرفة الاستراتيجية السيميائية. في بعض الأحيان تكون الاستراتيجية السيميائية قابلة للكشف على أساس من التقاليد الأسلوبية المنشأة. إذا بدأت القصة بـ”كان ياما كان”، يكون لديَّ سبب وجيه لافتراض أنها قصة خرافية، وأن القارئ النموذجي المثار والمفترض هنا طفل (أو مراهق شغوف بالانفعال بروح طفولية). من الطبيعي، أن تكون هناك مسحة من السخرية، وفي مثل هذه الحالة فإن النص اللاحق يجب أن يُقرأ بطريقة أكثر تمرسا. لكن، على الرغم من أن المرء يمكنه القول ـ من خلال كشف النص ـ أن هذه هي الطريقة التي يجب أن يُقرأ بها، الأمر المهم هو ملاحظة أن النص يتظاهر بأنه يبدأ كقصة خرافية.

 

عندما يخرج نص إلى العالم كمثل رسالة في زجاجة أُلقيت في البحر ـ وهذا لا يحدث مع الشعر أو النثر فقط، بل أيضا مع كتب مثل كتاب كانط ” نقد العقل الخالص” ـ بمعنى، أنه عندما يتم إنتاج نص، لا من أجل مرسل إليه واحد، بل من أجل جمع من القراء، يعلم المؤلف أنه ـ أو أنها ـ سوف يؤوَّل لا وفق مقاصده ـ أو مقاصدها ـ بل وفقا لاستراتيجية معقدة من التفاعلات، التي تشمل القُرَّاء أيضا، مع كفاءتهم في لغتهم كخزينة اجتماعية. وأعني بقولي: “خزينة اجتماعية” ليس فقط مجرد لغة محددة تضم مجموعة من القواعد النحوية، ولكن أيضا مجمل الموسوعة التي تولدها مباشرة هذه اللغة: التقاليد الثقافية التي أنتجتها هذه اللغة، وتاريخ التأويلات السابقة للعديد من نصوصها، متضمنة النص الذي يكون القارئ بصدد قراءته.

 

يجب على فعل القراءة أن يأخذ في حسبانه كل هذه العناصر، على الرغم من أن الاحتمال بعيد في أن يحيط قارئ مفرد بها جميعا. وهكذا، فإن كل فعل للقراءة هو إجراء معقد بين كفاءة القارئ (العالم المعرفي للقارئ) وبين نوع الكفاءة التي يفترضها نص معين لكي تتم قراءته بطريقة “اقتصادية” ـ أي بطريقة تعمل على زيادة فهم النص والاستمتاع به، ويدعمها السياق.

 

إن القارء النموذجي للقصة ليس هو القارئ التجريبي. القارئ التجريبي هو أنت، أنا، أي شخص، حينما نقرأ نصا. القراء التجريبيون بإمكانهم القراءة بطرق عدة، وليس ثمة قانون يعين لهم كيف يقرأون، بسبب أنهم، غالبا، ما يستعملون النص كواسطة لمشاعرهم الخاصة، والتي يمكنها المجيئ من خارج النص، أو ربما يثيرها النص مصادفة.

 

دعوني أعرض لبعض المواقف الظريفة التي قد تحصل من أحد قرائي كقارئ تجريبي، بأكثر منه كقارئ نموذجي. كتب إلى أحد أصدقاء الطفولة، الذي لم أره منذ أعوام، بعد نشر روايتي الثانية “بندول فوكو” : ” عزيزي أمبرتو، لا أذكر أنني أخبرتك بالقصة الشجية لعمي وعمتي، لكني أحسب أنك لم تكن حصيفا في استخدامها في روايتك”. حسنا، ففي كتابي أسرد بعض الوقائع التي تتعلق بالعم شارلز والعمة كاترين، وهما، في القصة، عم وعمة بطل الرواية جاكوب بيلبو. حقيقة أن مثل هؤلاء الناس موجودون بالفعل. مع بعض التعديلات، فقد كنت أقص قصة من زمن طفولتي تتعلق بعم وعمة لي ـ بالطبع كان لهما اسمين غير اسمي شخصيات الرواية. ردد على صديقي قائلا أن العم شارلز والعمة كاترين هما أقارب لي، وليسوا أقاربه (لذا فإني أملك حق النشر)، وأنني حتى لم أكن على علم بأن له عم أو عمة. اعتذر صديقي بأنه كان مستغرقا تماما بالقصة حتى أنه ظن أنه تعرف على بعض الأحداث التي وقعت لعمه وعمته ـ مما لا يستحيل حدوثه، لأنه في زمن الحرب (الفترة التي عدت إليها بذاكرتي) فإن نفس الأشياء كان يمكن أن تقع لأعمام وعمات آخرين.

 

ما الذي حدث لصديقي؟ لقد رأى في قصتي شيئا كان يقع في ذاكرته الشخصية، فهو لم يكن بصدد تأويل قصتي، بل بالأحرى كان يستخدمها. من الصعب منع استخدام نص لأجل أحلام اليقظة، وجميعنا نفعل ذلك في كثير من الأحيان ـ لكن هذه ليست مسألة عامة. استخدام النص بهذه الطريقة يعني التحرك داخله، كما لو كان جريدة خاصة.

 

هناك قواعد معينة للعبة، والقارئ النموذجي هو شخص متشوق إلى ممارسة هذه اللعبة. لقد نسي صديقي اسم اللعبة، وركَّب توقعاته الخاصة كقارئ تجريبي على التوقعات التي أرادها المؤلف من القارئ النموذجي.

 

في الفصل 115 من رواية “بندول فوكو”، كان بطل روايتي، كازاوبون، في ليلة 23/24 يونيو 1984، بعدما حضر مراسم احتفال سحري في معهد الفنون والحِرَف في باريس، يمشي، كما لو كان مأخوذا، على طول شارع سان مارتين، عابرا شارع الدب Rue aux Ours، إلى أن وصل إلى مركز بوبورج، ثم اتجه إلى كنيسة سان ماري، ثم واصل المسير عبر شوارع عديدة، أسماؤها جميعا مذكورة في كتابي، حتى وصل إلى قصر فوجْ.

 

كما ذكرت آنفا، من أجل أن أكتب هذا الفصل تابعت نفس الجولة لعدة ليال، حاملا جهاز تسجيل، مسجلا ملاحظاتي عن كل ما يمكنني رؤيته، وأثره عليَّ (إني هنا أكشف عن منهجي كمؤلف تجريبي). بالإضافة إلى ذلك، وحيث أني أملك برنامجا حاسوبيا يريني كيف تبدو السماء في أي وقت، في أي عام، في أي خط طول أو خط عرض، حتى أني علمت، أنه في تلك الليلة كان هناك قمر، وأنه كان بالإمكان رؤيته من مواقع معينة في أوقات عديدة. لقد فعلت ذلك، لا من أجل محاكاة واقعية إميل زولا، ولكن (كما ذكرت) لأنني أحب أن أحوز المشهد الذي سأكتب عنه أمامي حين أقوم بالسرد.

 

بعد نشر الرواية، تلقيت خطابا من رجل، من الواضح أنه ذهب إلى المكتبة الوطنية لقراءة كل الصحف الصادرة في 24 يونيو 1984، واكتشف أنه عند ناصية شارع رومر ـ والذي لم أذكر اسمه بالفعل، ولكنه يمر عبر شارع سان مارتين في نقطة معينة ـ وبعد منتصف الليل، أقل أو أكثر قليلا من الوقت الذي مر فيه كازاوبون بالشارع، كان هناك حريق، حريق كبير وإلا لما كتبوا عنه في الصحف. يسألني القارئ: كيف اتفق أن لم يرى كازاوبون هذا الحريق.

 

أجبت بأن من المؤكد أن كازاوبون رأى الحريق، ولكنه لم يذكره لسبب غامض، لا أعرفه ـ والذي كان مرجحا جدا في قصة دسمة بالأحداث الغامضة، الحقيقية والزائفة معا. إن قارئي، بلا شك، مازال يحاول معرفة السبب الذي من أجله لم يذكر كازاوبون ذلك الحريق، شاكا في حصول مؤامرة أخرى قام بها فرسان المعبد. الحقيقة أنني ربما لم أمر بهذا الجانب من الشارع في منتصف الليل، بل ربما مررت به قبل اشتعال الحريق، أو بعد إطفائه بوقت قصير، لا أدري. كل ما أعلمه أن قارئي كان يستخدم نصي لأغراضه الخاصة: لقد رغب في أن يكون النص متجانسا، في كل تفاصيله، مع ما حدث في الواقع.

 

الآن، دعوني أخبركم بقصة أخرى تتعلق بالليلة ذاتها. الفرق هو ما يلي: في الحالة التي ذكرت توا، فإن القارئ المشغول بالتفاصيل غير المهمة أراد لقصتي أن تتوافق مع أحداث العالم الحقيقي، بينما يريد القارئ، في المثال التالي، أن يتوافق العالم الحقيقي مع روايتي الخيالية ـ حالة مختلفة قليلا وأكثر فائدة.

 

اثنان من طلبة مدرسة الفنون الجميلة في باريس أتيا ليرياني ألبوم صور أعادا فيه تصوير مجمل الجولة التي قام بها كازاوبون. لقد عثرا على كل الأماكن التي ذكرتها، وقاما بتصويرها واحد بعد آخر، في نفس الوقت من الليل. في نهاية الفصل 115 يخرج كازاوبون من مصرف مياه المدينة ويدخل، عبر القبو، حانة أسيوية تمتلئ بالزبائن الذين يكسوهم العرق، براميل جعة، وبصقات لزجة. لقد عثر الطالبان بالفعل على هذه الحانة، والتقطا صورا لها. غني عن البيان أن هذه الحانة كانت من اختراعي، مع أني قمت بتصميمها وفي ذهني الحانات العديدة في الجوار، لكن هذان الطالبان اكتشفا، بلا شك، الحانة الموصوفة في كتابي. أكرر، هذان الطالبان لم يضيفا إلى مهمتهما كقارئين نموذجيين اهتمام القارئ التجريبي، الذي يريد أن يختبر ويرى إذا ما كانت روايتي تصف باريس الحقيقية. بل بالأحرى، أرادا تحويل باريس “الحقيقية” لتكون المكان الموجود في روايتي. الحقيقة، أن من بين كل ما أمكنهم العثور عليه في باريس، فقد اختارا، فقط، تلك المظاهر التي تتوافق مع التوصيفات التي قدمها نصي.

 

هذه الحانة موجودة في نصي، بالرغم من ذلك، أعتقد أنني، ببساطة، قمت بتخيلها. وبإزاء وجودها في النص، يصبح قصد القارئ التجريبي، بالأحرى، لا علاقة له بالموضوع. كثيرا ما يقول المؤلفون أشياء غير مدركين لها؛ فقط، بعدما تصلهم ردود أفعال قرائهم، يكتشفون ما الذي قالوه.

 

هناك، على أية حال، حالة يمكن أن تكون مضيئة وكاشفة للنظر إلى مقاصد المؤلف التجريبي، تكون والمؤلف ما زال حيا، وبعدما يقدم النقاد تأويلاتهم للنص، ويمكن لأحدهم أن يسأل المؤلف إلى أي مدى كان ـ هو أو هي ـ كشخص تجريبي، مدركا للتأويلات المتعددة التي يدعمها النص. عند هذه النقطة، فإن استجابة المؤلف تُستخدم، ليس من أجل إثبات تأويلات النص، ولكن لبيان التضارب بين قصده أو قصدها وبين قصد النص. الغرض من التجربة نظري أكثر منه تجريبي.

 

أخيرا، هناك الحالة التي يكون فيه المؤلف، أيضا، منظِّرا نصيا. في هذا المثال ربما يستجيب المؤلف بطريقتين مختلفتين. يمكن أن تكون استجابته: “لم أعني ذلك، لكن يجدر بي الموافقة على أن النص يقول ذلك، وأشكر القارئ على أن نبهني للأمر”. أو يمكن أن تكون الاستجابة: “بعيدا عن حقيقة أنني لم أعني ذلك، فإني أعتقد أن القارئ الحصيف لا ينبغي له قبول مثل هذا التأويل؛ لأنه تأويل غير اقتصادي”.

 

الآن، دعوني أعرض لبعض الحالات التي يجب عليّ فيها، كمؤلف تجريبي، أن أستسلم في مواجهة قارئ تمسك بشدة بقصد نصي.

 

في كتابي “تأملات في اسم الوردة”، قلت أنني شعرت بهزة إثارة ارتياح عندما قرأت عرضا للكتاب يتضمن اقتباسا لتعليق ذكره ويليام في نهاية المحاكمة، في الفصل المعنون “اليوم الخامس، تاسعة”. “ما أكثر ما يخيفك في الطهارة؟” سأل أدسو. وأجاب ويليام: “التعجل”. لقد أحببت، ومازلت أحب ذلكما السطرين بشدة. لكن حينها، أشار لي أحد القراء إلى أنه في نفس الصفحة، يقول برنارد، مهددا قيِّم الدير بالتعذيب: “العدالة لا تكون بوازع من العجلة، كما يعتقد الرسل الزائفون، وعدالة الرب لديها مئات الأعوام رهن أمرها”. كان القارئ محقا في سؤالي عن الصلة التي هدفت إلى إنشائها بين التعجل التي يخشاه ويليام وبين غياب التعجل الذي أطرى عليه برنارد. لم أتمكن من الرد.

 

الحقيقة، أن الحوار الذي دار بين أدسو وويليام غير موجود في المخطوطة الأصلية؛ لقد أضفت هذا الحوار الموجز أثناء صف الكتاب، لأسباب تتعلق بالتوازن والإيقاع، فقد كنت في حاجة إلى إدخال بعض الأسطر قبل أن أعطي الكلمة لبرنارد مرة أخرى. وقد نسيت ذلك الأمر تماما؛ فبعدها بقليل يتكلم برنارد عن التعجل. فهو يستخدم تعبيرا نمطيا، من النوع الذي نتوقع صدوره من قاض ـ مألوفا مثل: “الكل سواء أمام القانون”. فيا أسفاه، حينما توضع جنبا إلى جنب التعجل الذي ذكره ويليام، فالتعجل المذكور من قِبَل برنارد يُعطي الانطباع بأنه يقول شيئا موضوعيا بدلا من شيء رسمي؛ ولدى القارئ ما يبرر تساؤله عما إذا كان الرجلان يعنيان الشيء ذاته، أو عما إذا كان الاشمئزاز من التعجل الذي عبَّر عنه ويليام لا يختلف كثيرا عن الاشمئزاز من التعجل الذي عبَّر عنه برنارد. النص موجود، وينتج تأثيراته الخاصة. وسواء أردته على هذا النحو أم لا، فإننا الآن مواجهون بمشكلة، بغموض مستفز ـ وأنا نفسي محتار في الكيفية التي أحل بها هذا التضارب، رغم إدراكي من أن هناك معنى مستتر (وربما الكثير من المعاني).

 

المؤلف الذي جعل عنوان كتابه “اسم الوردة” عليه أن يكون مستعدا لمواجهة تأويلات متشعبة لعنوانه. كمؤلف تجريبي، كتبت (في كتاب تأملات) أنني اخترت هذا العنوان بالتحديد لكي أمنح القارئ الحرية: ” الوردة شكل غني جدا بالمعاني، حتى أنها الآن لا تكاد تحمل أي معنى منها: وردة دانتي الغامضة[15]، و”هيا، وردتي الحبيبة”[16]، وحرب الوردتين[17]، و”الوردة المريضة”،[18] وأغنية “الكثير جدا حول روزي، وعبارة شكسبير: “وردة بواسطة أي اسم آخر”، وتعبير جيرترود شتاين الشعري:”الوردة هي وردة هي وردة هي وردة”، و”أعضاء جمعية الصليب والوردة[19] …”. إضافة إلى ذلك، أكتشف أحد الباحثين أن بعض المخطوطات المبكرة لكتاب: “ازدراء العالم”، لمؤلفه: برنارد دي مورلِيه ـ الذي استعرت منه النص السداسي التفعيلة الذي ختمت به روايتي: “stat rosa pristina nomine, nomina nuda tenemus ” (“وردة العام الماضي لم يبقى إلا اسمها، الأسماء وحدها هي كل ما نملكه”) ـ يمكن قراءتها: “روما القديمة لم يبقى إلا اسمها stat Roma pristine nomine”، والتي تبدو، بعد كل شيء، أكثر توافقا مع سائر القصيدة وصورها الخيالية عن بابل المفقودة[20]. لذا، فإن عنوان روايتي، بما أني لقيت نسخة أخرى من قصيدة مورلِاي، كان يمكن أن يكون:” اسم روما” (وبذا كان ليكتسب إيحاءات فاشية).

 

لكن العنوان هو بالفعل: “اسم الوردة”، وأنا أدرك الآن كيف كان صعبا تقليص السلسة اللانهائية للدلالات التي تثيرها كلمة “وردة”. ربما قصدت إلى زيادة القراءات المحتملة للدرجة التي يكون معها أي من هذه القراءات لا صلة لها بالموضوع، وكمحصلة، أكون قد أنتجت سلسلة شاسعة، لا مفر منها، من التأويلات. غير أن النص قد خرج إلى العالم، وعلى المؤلف التجريبي أن يبقى صامتا.

 

عندما أطلقت اسم كازاوبون على الشخصية الرئيسية في رواية “بندول فوكو” كنت مشغولا بالتفكير في إسحاق كازاوبون، الذي أثبت عام 1614 أن النصوص الهرمسية[21] نصوص زائفة، والمرء عند قراءة “بندول فوكو” يمكن أن يعثر على بعض التماثلات بين ما فهمه عالِم اللغة العظيم وبين ما فهمته شخصيتي آخر الأمر. لقد كنت مدركا أن قليلا من قرائي سوف يفهم التلميح، ولكني كنت مدركا بالقدر ذاته، من حيث الإستراتيجية النصية، أن هذا النوع من المعرفة ليس مما لا يمكن الاستغناء عنه. (أعني: أنه من الممكن للمرء أن يقرأ روايتي وأن يفهم شخصية كازاوبون حتى وإن لم يكن يعرف شيئا عن شخصية إسحاق كازاوبون التاريخية. بعض المؤلفين يميلون إلى تضمين بعض الإحالات الخاصة في نصوصهم، لأجل متعة القراء المتمرسين).

 

قبلما أنتهي من كتابة روايتي، اكتشفت قدرا أن كازاوبون كان إحدى شخصيات رواية ميدل مارش للكاتبة الإنجليزية جورج إليوت، رواية كنت قد قرأتها منذ عهود مضت، ونسيت أمرها. وهذه حالة، بحسبها، كمؤلف نموذجي، حاولت إقصاء أية إشارة ممكنة إلى جورج إليوت. في الفصل العاشر تتضمن الترجمة الإنجليزية الحوار التالي بين بيلبو وكازاوبون:

 

“بالمناسبة، ما اسمك؟”

 

“كازاوبون”.

 

“كازاوبون. ألم يكن اسم شخصية في رواية ميدل مارش؟”

 

“لا أعلم. هناك أيضا عالم لغة في عصر النهضة يحمل الاسم نفسه، لكننا لسنا أقارب”.

 

لقد بذلت ما في وسعي لأجل تجنب ما اعتبرته إشارة غير مجدية إلى المؤلفة ماري آن إيفانز، والشهيرة باسم جورج إليوت، لكن حينها، لاحظ قارئ ذكي، هو دافيد روبي، أن كازاوبون في رواية إليوت كان بصدد تأليف كتاب بعنوان “مفتاح كل الأساطير”، كقارئ نموذجي، شعرت أني ملزم بقبول هذه الصلة. النص، بالإضافة إلى المعرفة الموسوعية، تُمكّن أي قارئ موهوب من إيجاد هذه العلاقة. إنها معقولة. أمر سيئ بالنسبة للمؤلف التجريبي، الذي لم يكن بقدر ذكاء قارئه.

 

على نفس المنوال، جعلت عنوان روايتي: “بندول فوكو” لأن البندول الذي تتحدث عنه اخترعه ليون فوكو. إذا ما كان مُخترعا بواسطة بنيامين فرانكلين، لكان عنوان الرواية بندول فرانكلين. هذه المرة، كنت مدركا منذ البداية بأن شخصا ما قد يشم رائحة تلميح إلى ميشيل فوكو: إن شخصياتي مهوسة بالتشبيهات، وقد كتب ميشيل فوكو عن صيغ التشابه في نمط التفكير الغربي في القرن 16. كمؤلف تجريبي، لم أكن سعيدا بمثل هذه الصلة المحتملة. إنها تبدو أشبه بالمزحة، لا كصلة متقنة. غير أن البندول الذي تم اختراعه بواسطة ليون فوكو كان هو بطل قصتي، وبحسبه تحدد عنوانها، لذا فإني آمل ألا يحاول قارئي النموذجي إقامة روابط سطحية مع ميشيل فوكو. لقد كنت مخطئا ـ وكثير من القراء الأذكياء يُخطئون. النص موجود، وربما كانوا مصيبين، وربما أكون أنا المسئول عن تلك المزحة السطحية، وربما لا تكون المزحة بهذه السطحية. لا أدري. فالآن، صار الأمر برمته خارجا عن سيطرتي.

 

الآن، دعونا نتأمل حالات، أعتقد بحسبها ـ ولعلي نسيت مقاصدي الأولية، بينما أقوم بدور القارئ النموذجي، وفحص النص ـ أن لي الحق، مثل أي إنسان آخر، في رفض التأويلات التي لا تبدو اقتصادية.

 

قبل أن تقوم هيلينا كوستيوكوفيتش بترجمة رواية” اسم الوردة” إلى الروسية (ترجمة بارعة) كتبت مقالا طويلا عنها.(22) عند نقطة معينة، تذكر كتابا لإميل هنريوت، اسمه: “وردة براتيسلافا” (1946)، والذي يتناول ملاحقة مخطوطة غامضة، ويُختتم بدمار المكتبة في الحريق. والقصة تدور أحداثها في مدينة براج، وفي بداية قصتي أذكر براج. بالإضافة إلى ذلك فإن أحد أمناء المكتبة في روايتي يُدعى برنارد، وأحد أمناء المكتبة في كتاب هنريو يُدعى برنارد.

 

أنا لم أقرأ رواية هنريو، لم أكن حتى أعلم بوجودها. لقد قرأت تأويلات يُظهر نقادي فيها مصادر أعلمها، وقد كنت سعيدا للغاية لمقدرتهم البارعة على اكتشاف ما قمت بإخفائه بدهاء، لكي أقودهم إلى العثور عليه ـ على سبيل المثال: حقيقة أن سيرينوس زيتبلوم، وأدريان ليفركوهن، في رواية “دكتور فاوست” لتوماس مان، كانا النموذج للعلاقة الحوارية بين أدسو وويليام في” اسم الوردة”. لقد أعلمني القراء بمصادر لم أسمع عنها قبلا، وسعدت أن يُظن أني واسع المعرفة بنحو كاف لأن أقتبسها (ومؤخرا، أخبرني أحد الشباب المتخصصين في القرون الوسطى، أن قيِّم المكتبة الأعمى سبق أن ذكره كاسيودوروس، في القرن السادس قبل الميلاد). لقد قرأت تحليلات نقدية يكتشف فيها المؤوِّل مؤثرات لم أكن أفكر فيها حين الكتابة، ولكن من المؤكد أني قرأتها في شبابي، ومن الواضح أني تأثرت بها بنحو غير واع. قال صديقي جيورجيو تشيللي، على سبيل المثال، أن قراءاتي القديمة قد تضمنت ولابد روايات الكاتب الرمزي ديميتري ميرزكوفسكي، ولقد تبين لي صحة ذلك.

 

كقارئ عادي لرواية” اسم الوردة” (لندع جانبا حقيقة أنني المؤلف)، أحسب أن إدعاء هيلينا كوستيوكوفيتش لا يثبت شيئا ذا أهمية. البحث عن مخطوطة غامضة، ودمار المكتبة في الحريق، من الموضوعات الأدبية الشائعة للغاية، وبإمكاني التنويه إلى الكثير من الكتب الأخرى التي تستخدمهما. ذُكرت مدينة براج في بداية الرواية، ولكن إذا كنت ذكرت بودابست بدلا من براج، فسيكون الأمر سواء. براج لا تلعب دورا حاسما في القصة.

 

بالمناسبة، فعندما تُرجمت رواية” اسم الوردة” في إحدى دول أوروبا الشرقية، قبل البريسترويكا[23] بوقت طويل، اتصل بي المترجم قائلا أن افتتاحية الرواية التي تشير إلى الغزو الروسي لتشيكوسلوفاكيا، قد تسبب مشاكل. أجبته بأني لا أوافق على أي تغييرات في نصي، وإذا ما تم إجراء عمل رقابي عليها، فسوف أوقف عقد الناشر. حينئذ، أضفت قائلا، على سبيل المزاح: “لقد ذكرت براج في البداية؛ لأنها واحدة من مدني السحرية، ولكني أحب دبلن أيضا، ضع “دبلن” بدلا من “براج”، فلن يكون ثمة فرق”. اعترض المترجم قائلا: “لكن روسيا لم تغزو دبلن!” فرددت قائلا: “هذا ليس خطأي”.

 

أخيرا، فإن أسماء مثل: “بيرنجار” و”برنجارد” يمكن أن تحدث مصادفة. على أية حال، فعلى القارئ النموذجي أن يعترف أن هذه المصادفات الأربع ـ المخطوطة، والحريق، ومدينة براج، وبرنجارد ـ مشوقة. وكمؤلف تجريبي، فليس لي حق الاعتراض. وبالرغم من كل ذلك، فقد لقيت مؤخرا نسخة للنص الفرنسي لإميل هنريو، واكتشفت أن اسم قيم المكتبة في كتابه ليس بيرنار بل بيرنهارد مار. ربما أعتمدت كوستيوكوفيتش على الطبعة الروسية، التي نُقل فيها الاسم مترجما، على نحو خاطئ، إلى سيرليك. وهكذا، تكون إحدى المصادفات المثيرة للفضول قد تم إقصائها، ويمكن لقارئي النموذجي أن يستريح قليلا.

 

غير أن هيلينا كوسيوكوفيتش كتبت شيئا آخر لإثبات التماثلات بين كتابي وكتاب هنريو. فقالت: في رواية هنريو، كانت المخطوطة المبتغاة هي النسخة الأصلية من مذكرات كازانوفا. وقد حدث ـ في روايتي ـ أن كانت هناك شخصية ثانوية تُدعى هيو النيوكاسلي (واسمه في الطبعة الإيطالية: أوجو النيوكاسلي). انتهت كوستيوكوفيتش إلى أنه “بالانتقال من اسم إلى آخر، يمكن الوصول إلى تصور لاسم الوردة”.

 

كمؤلف تجريبي، يمكنني القول أن شخصية هيو النيوكاسلي ليست من اختراعي، إنما هي شخصية تاريخية ذُكرت في المصادر القروسطية التي استعنت بها: فواقعة لقاء البعثة الفرنسيسكانية وممثلي البابوية مستمدة، في الواقع، من السجل التاريخي لأحداث القرن الرابع عشر. لكن ليس من المتوقع أن يكون القارئ عارفا بذلك، كما لا يمكن لردي على ذلك أن يؤخذ في الحسبان. لكن يبقى أن من حقي أن أقرر رأيي كقارئ عادي. أولا، فإن “نيوكاسل” ليست هي ترجمة كلمة “كازانوفا”، بل إن ترجمتها تكون: “البيت الجديد” (من الوجهة المعرفية، فإن معنى الاسم اللاتيني “Novocastro نيو كاسل” هو: “المدينة الجديدة” أو “المعسكر الجديد”). وبالتالي، فإن الاسم “نيوكاسل” قد يُلمح إلى “كازانوفا” بنفس الدرجة التي يلمح بها إلى “نيوتن”.

 

غير أن هناك عناصر أخرى يمكنها ـ من الوجهة النصية ـ أن تبرهن على أن افتراض كوستيوكوفيتش غير اقتصادي. أولا، فإن هيو النيوكاسلي يلعب في الرواية دورا هامشيا للغاية، ولا علاقة له بالمكتبة. وإذا ما كان النص راغبا في اقتراح علاقة وثيقة الصلة بين هيو وبين المكتبة (كما هي بينه وبين المخطوطة)، لكان قد قال شيئا إضافيا بهذا الصدد، غير أن النص لم يذكر شيئا عن ذلك. ثانيا: لقد كان كازانوفا، حسب المعرفة الموسوعية والمشتركة ثقافيا، عاشقا محترفا وخليعا فاجرا، بينما لا نجد في الرواية حتى ما يثير الشبهة في فضيلة هيو. ثالثا: ليس ثم علاقة واضحة بين مخطوطة تخص كازانوفا ومخطوطة تخص أرسطو، كما أن الرواية لم تشر في أي موضع منها إلى الفجور باعتباره سلوك مستحق للثناء. باعتباري قارئا نموذجيا لروايتي، أحسبني مخولا بالقول: أن النظر إلى “الرابطة بكازانوفا” لا يؤدي إلى شيء.

 

ذات مرة، أثناء أحد الحوارات، سألني أحد القراء عما قصدته بعبارة: “إن السعادة العظمى تكون في امتلاك ما هو لك”. أصابني الارتباك، وأعلنت أني أبدا، لم أكتب هذه العبارة. كنت موقنا من ذلك، ولأسباب عدة؛ أولا: أني لا أعتقد أن السعادة في امتلاك ما هو في حوزة المرء، حتى تلك الشخصية الكارتونية سنوبي، ما كان ليشارك في مثل هذه التفاهة. ثانيا: من المستبعد أن ترى شخصية تنتمي للقرون الوسطى أن السعادة تكون في امتلاك ما يمتلكه بالفعل، حيث أن السعادة ـ في العقل القروسطي ـ كانت حالة مستقبلية يُبتغى تحصيلها عبر المعاناة الحاضرة، وبالتالي، فقد كررت القول بأنني لم أكتب هذا السطر أبدا، فنظر إليّ محاوري كما لو كنت غير قادر على تذكر ما كتبته بنفسي.

 

لاحقا، صادفت هذا المقطع، الذي يظهر في رواية” اسم الوردة”، في غضون وصف نشوة إدسو الحسية في المطبخ. هذه الواقعة، كما يمكن لأكثر قرائي خمولا أن يخمنها، معمولة بالكامل من اقتباسات من “نشيد الإنشاد”، ومن مؤلفات الصوفيين في القرون الوسطى. على أية حال، فإن لم تكن المصادر محددة، فبإمكان القارئ الإخبار بأن هذه الفقرة تصور مشاعر شاب بعد تجربته الحسية الأولى (وربما الأخيرة). إذا أعاد أحدهم قراءة ذلك السطر في سياقه (أعني: في سياق الرواية، لا سياق المصادر القروسطية) سيجد التالي: “آه، يا إلهي، عندما يبلغ الوجد بالروح مبلغه، فإن الفضيلة الوحيدة تكمن في الحصول على ما تراه، فالسعادة القصوى تكمن في الحصول على ما أنت حاصل عليه”. هكذا فأن كون “السعادة تكمن في الحصول على ما أنت حاصل عليه” ليس على عمومه، ولا في كل لحظة من حياتك، لكن، فقط، في لحظة الخيال النشوان. تلك حالة، لا يكون من الضروري فيها أن تكون عارفا بقصد المؤلف التجريبي: قصد النص فيها شديد الوضوح. وإذا كانت مفردات اللغة الإنجليزية ذات معنى تقليدي، فإن المعنى الفعلي للنص ليس هو المعنى الذي يعتقد القارئ ـ خاضعا لإلحاح خاص وغريب ـ أنه المراد توصيله. فبين قصد المؤلف غير الممكن إحرازه، وبين قصد القارئ القابل للأخذ والرد، ثمة القصد الشفيف للنص، الذي يدحض التأويلات المتهافتة.

 

لقد استمتعت بقراءة كتاب جميل من تأليف روبرت ف. فليسنر: “وردة باسم آخر: مسح دراسي للوردة الأدبية من شكسبير إلى إكو” ـ وآمل لو كان شكسبير قد شعر بالفخر أن يجد اسمه مرتبطا باسمي. بينما كان فليسنر يناقش العلائق المختلفة، التي وجدها بين وردتي وبين كل الورود الأخرى في عالم الأدب، يقول شيئا مثيرا للغاية، فهو يرغب في أن يبين: “كيف أن وردة إكو مستلهمة من مغامرة شيرلوك هولمز “وثائق المعاهدة البحرية”، لكونان دويل، التي، بدورها، تدين بالكثير، إلى إعجاب التحري كفْ بالزهور في رواية “حجر القمر”[24] “.(25)

 

أقول، أني من مدمني قراءة أعمال ويلكي كولنز، لكني لا أتذكر (خاصة حين كتابة روايتي) أن شخصية الرقيب كَفْ كان لها شغف بالورود. أحسب أني قرأت كل ما كتب أرثر كونان دويل، ولكن يجدر بي الاعتراف أنني لا أتذكر “مغامرة وثائق المعاهدة البحرية”. هذا لا يهم، ففي روايتي يوجد العديد من الإشارات الصريحة إلى شيرلوك هولمز، ما يعني أنه يمكن لنصي أن يدعم هذه العلاقة أيضا. لكن على الرغم من انفتاحي العقلي، أحسب أن الناقد فليسنر قد أفرط في التأويل، محاولا إثبات إلى أي مدى كان ويليام في روايتي مرددا لصدى إعجاب هولمز بالورود، لقد اقتبس المقطع التالي من كتابي: “سِدر مسهل”، قال ويليام فجأة، منحنيا لينظر نبتة عرفها، في ذلك اليوم الشتائي، من شجيرتها الحاسرة. “يُصنع منقوعا جيدا من قشرته ..”.

 

المثير للفضول أن فليسنر توقف في الاقتباس عند كلمة “قشرته”، فبعد فاصلة، يستمر نصي في إكمال العبارة كما يلي: “لعلاج البواسير”. وبأمانة، أحسب أن القارئ النموذجي غير مدعو إلى اعتبار “شجيرة السدر” كتلميح للوردة.

 

كتب جيوسو موسكا تحليلا نقديا لرواية “بندول فوكو”، وأنا أعتبرهُ من ضمن أفضل الأعمال التي قرأتها. [26] غير أنه في مستهل التحليل يُقرُّ أنه قد فُتن بنشدان التماثلات مع شخصيات روايتي ـ وأخذ في التفتيش عن الروابط. لقد نبَّه ببراعة إلى العديد من الاقتباسات والتشبيهات الأسلوبية شديدة الخفاء، والتي رغبت في يتم اكتشافها: لقد وجد روابط أخرى لم أفكر فيها، ولكنها تبدو مقنعة، ولعب دور القارئ المهووس، واكتشف روابط أذهلتني، ولكني غير قادر على دحضها ـ رغم علمي أنها تضلل القارئ. على سبيل المثال: يبدو أن الاسم الذي وضعته لجهاز الحاسوب: أبولافيا Abulaphia، بالإضافة إلى أسماء الشخصيات الرئيسية الثلاث: بيلبو Belbo، وكازاوبون Casaubon، وديوتاليفي Diotallevi، قد أثمرت الحروف الاستهلالية ABCD ، من غير المفيد أن أقول أن هذا صحيح حتى أفرغ من كتابة مخطوطتي، لقد كان للحاسوب اسما آخر، ويمكن للقرَّاء أن يعترضوا بأني غيرته بشكل غير واع لأجل تحصيل هذا التسلسل الألفبائي. ويبدو أن جاكوبو بيلبو مولع بالخمر، كما أن حروف اسمه الأولى، بغرابة شديدة، هي: JB. ومن غير المفيد أن أعلن أنه، خلال كتابة الرواية، لم يكن اسمه الأول جاكوبو بل ستيفانو، وأنني غيرته إلى جاكوبو في اللحظة الأخيرة. ليس ثمة تلميح إلى نوع الخمر J&B.

 

فقط، ما أقدر على تقديمه من اعتراضات كقارئ نموذجي لروايتي: (1) أن التسلسل الألفبائي ABCD، من الوجهة النصية، غير ذي صلة؛ إذا لم تكن أسماء الشخصيات الأخرى تواصل التسلسل إلى X,Y,Z. (2) أن بيلبو يشرب المارتيني أيضا، بالإضافة إلى أن معاقرته المعتدلة للخمر ليست أكثر ملامح شخصيته تميزا.

 

على العكس من ذلك، فإني لا أستطيع مجادلة قارئي، عندما يلاحظ أيضا أن سيزار بيفيز، وهو كاتب أحببته، ومازلت أحبه جدا، قد ولد في قرية تُدعى سانتو ستيفانو بيلبو، وأن شخصيتي الروائية بيلبو، البيدمونتي السوداوي، يتذكر بيفيز. الحقيقة (رغم أنه من غير المفترض لقارئي النموذجي أن يعرف هذه التفاصيل)، أنني قضيت فترة طفولتي على ضفاف نهر بيلبو، حيث مررت ببعض التجارب القاسية التي نسبت حدوثها إلى جاكوبو بيلبو. حقيقي أن هذا حدث منذ فترة طويلة وقبل أن أعلم شيئا عن سيزار بيفيز، لذلك بدلت الاسم الأصلي لستيفانو بيلبو إلى جاكوبو بيلبو، بالتحديد، لأتجنب حصول صلة صارخة ببيفيز. غير أن هذا لم يكن كافيا، وكان قارئي محقا في العثور على صلة بين بيفيز وجاكوبو بيلبو. وربما كان محقا حتى لو كنا جعلت لبيلبو أي اسم آخر.

 

بإمكاني مواصلة تقديم الأمثلة على هذا النوع من الارتباطات، لكني آثرت الاقتصار على تلك الأمثلة الأكثر يسرا في فهمها. وتجاوزت أمثلة أخرى، هي حالات أكثر تعقيدا، وإلا أكون مخاطرا بالغوص في تأويلات فلسفية أو جمالية. آمل أنكم توافقون على أني قدمت المؤلف التجريبي في هذه اللعبة، فقط، لكي أركز على عدم صلته بالموضوع، ولكي أجدد التأكيد على حقوق النص.

 

وحيث أني قاربت على إنهاء ملاحظاتي، على أية حال، فإني أشعر أني كنت سخيا بالكاد بالنسبة للمؤلف التجريبي. هناك حالة واحدة، فقط، على الأقل، التي يمكن بحسبها لشهادة المؤلف التجريبي أن تحقق وظيفة مهمة: ليس إلى درجة أن تجعل القراء أفضل فهما لنصوصه، لكن، بالتأكيد، تساعدهم على فهم المسار الذي يصعب التنبؤ به في كل عملية إبداعية. فهم العملية الإبداعية يعني أيضا: فهم كيف أن حلولا نصية معينة تتحقق وحدها قدرا، أو كنتيجة لآلية اللاوعي. ذلك يساعدنا على فهم الفرق بين استراتيجية النص ـ الموضوع اللغوي الذي حازه القراء التجريبيون أمام أعينيهم، ليمكنهم من الوصول إلى أحكام تتعلق به، مستقلين عن مقاصد المؤلف التجريبي ـ وبين قصة تطور ذلك النص.

 

يمكن لبعض الأمثلة التي قدمتها أن تعمل في هذا الاتجاه. دعوني أذكر مثالين آخرين مثيرين للفضول، ولهما ملمح خاص: وهما يتعلقان، فقط، بحياتي الشخصية، وليس لهما أي نظير نصي يمكن اكتشافه. هما ببساطة يخبران كيف يمكن للنص ـ الذي يُعتبر آلة متخيلة لإثارة التأويلات ـ أن ينبثق من صهارة عميقة الغور لا علاقة لها ـ حتى الآن ـ بالأدب.

 

القصة الأولى: في رواية “بندول فوكو”، يقع كازاوبون الشاب في غرام فتاة برازيلية اسمها أمبارو. يجد جيوسو موسكا ـ ويا للسخرية ـ رابطا بينها وبين الفيزيائي أندريه ماري أمبير، الذي بحث القوة المغنطيسية بين التيارات الكهربائية. يا للذكاء، أنا لم أعرف لماذا اخترت هذا الاسم. وقد علمت أنه ليس اسما برازيليا، لذا قررت أن أكتب (في الفصل 23): “لم أفهم أبدا كيف أن أمبارو، سليلة المستوطنين الألمان في ريسيف، الذين تزاوجوا مع الهنود والسودانيين السود ـ بوجهها الجامايكي، وثقافتها الباريسية ـ قد خُدشت بهذا الاسم الأسباني”. بمعنى آخر: أني أختار الاسم “أمبارو” كما لو كان قد جاء من خارج روايتي.

 

بعد شهور من نشر الكتاب، سألني صديق: “لماذا “أمبارو؟” أليس هذا اسم جبل، أو اسم فتاة تنظر إلى الجبل؟” ثم بين لي شارحا: “هناك أغنية، “فتاة من جوانتانامو”، يرد فيها شيء مثل “أمبارو”. يا إلهي، إني أعرف هذه الأنشودة جيدا، على الرغم من أني لا أذكر ولو كلمة واحدة منها. لقد تغنت بها، في منتصف الخمسينيات، فتاة كنت أحبها، في ذاك الوقت. كانت أمريكية لاتينية، رائعة الجمال، لم تكن برازيلية، ولا ماركسية، ولا سوداء، ولا هيستيرية، مثلما هي أمبارو، ولكن من الواضح أنني عندما كنت بصدد اختراع فتاة أمريكية لاتينية فاتنة، فكرت بشكل غير واعي في تلك الصورة الأخرى في شبابي، عندما كنت في مثل سن كازاوبون.

 

لقد فكرت في أن هذه الأغنية، وبشكل ما الاسم “أمبارو” الذي كنت قد نسيته تماما، قد رحلا من لاوعيي إلى الصفحة. ليس لهذه القصة علاقة البتة بتأويل الرواية. وبقدر ما ينصب الاهتمام على النص، فإن أمبارو، هي أمبارو، هي أمبارو، هي أمبارو.

 

القصة الثانية: أولئك الذين قرأوا رواية” اسم الوردة” يعرفون أنها تدور حول مخطوطة غامضة، وأن المفقود هو الجزء الثاني من كتاب فن الشعر لأرسطو، الذي لُطخت صفحاته بالسم، والذي وُصِف (في فصل: اليوم السابع، ليلا) هكذا: “قرأ الصفحة الأولى بصوت عال، ثم توقف، كما لو كان مُعرضا عن معرفة المزيد، وبسرعة قلَّب الصفحات التالية، حتى لقي مقاومة بعد بضع صفحات، إذ كانت بعض الصفحات ملتصقة معا عند الزاوية العليا للحافة الجانبية، مثلما يحدث عندما تشكل الرطوبة مع مادة الورق المتحللة نوعا من العجينة اللاصقة”.

 

كتبت هذه السطور عند نهاية عام 1979. في الأعوام التالية، ولأني بدأت، بعد نشر رواية “اسم الوردة”، في التعامل المتكرر مع قيِّمي المكتبات، وجامعي الكتب (بالتأكيد بسبب أن لدي بعض المال)، أصبحت جامعا للكتب النادرة. لقد حدث من قبل، في مسار حياتي، أن اشتريت بعض الكتب القديمة، لكني فعلت ذلك دون تخطيط لذلك، وعندما كان سعرها رخيصا. فقط في الخمس والعشرين سنة الماضية، أصبحت جامعا جادا للكتب ـ وكلمة “جاد” تعني أن على المرء أن يستشير قوائم الكتب المتخصصة، كما يجب عليه أن يجعل لكل كتاب ملفا فنيا، يتضمن البيانات التاريخية والبيبليوجرافية للكتاب، والوصف الدقيق للحالة المادية للطبعة المملوكة، وهذا العمل الأخير يتطلب لغة اصطلاحية فنية، لتحديد ما إذا كان الكتاب ملطخ ببقع صفراء بفعل الزمن، أو صارت صفحاته بنية، وما إذا كانت عليه آثار بقع مائية، أو متسخا، وما إذا كان فيه أوراق ممسوحة أو هشة، مقصوص الحافات، مواضع المحو، تجليد محشو، غلاف مهترئ الزوايا، وهكذا.

 

ذات يوم، وأنا أفتش في الأرفف العليا في مكتبة منزلي، عثرت على نسخة من “فن الشعر” لأرسطو، علق عليها: أنطونيو ريكوبوني، مدينة بادوا، عام 1587. كنت قد نسيتها تماما. الرقم 1000 كان مكتوبا بالقلم الرصاص على الصفحة الأخيرة، ويعني: أنني قد اشتريت الكتاب من مكان ما بألف ليرة (ما يساوي اليوم حوالي سبعين سنتا أمريكيا)، تقريبا، في الخمسينيات. تقول قوائمي أنها كانت الطبعة الثانية، ليست شديدة الندرة، وأن هناك نسخة منها في المتحف البريطاني. لكني كنت سعيدا بامتلاكها؛ فمن الواضح أنه يصعب الحصول على مثلها، وعلى أية حال فإن تعليقات ريكوبوني كانت أقل شهرة، وأقل في الاقتباس منها، من تعليقات روبرتيللو، أو تعليقات كاستيلفيترو.

 

هكذا بدأت في كتابة وصفي للكتاب. نسخت صفحة العنوان، واكتشفت أن هذه الطبعة تتضمن ملحقا عنوانه “Ejusdem Ars Comica ex Aristotle”، زاعما تقديم كتب أرسطو المفقودة حول الكوميديا. من الواضح أن ريكوبوني قد حاول إعادة بناء الجزء الثاني من كتاب “فن الشعر”. وهذا، على أية حال، لم يكن مسعى غير معتاد، وأخذت في إكمال الوصف المادي للمجلد. عندها، مررت بتجربة شبيهة بتلك التي لزاسيتسكي، الذي وصف حالته العالم السوفيتي، المتخصص في علم النفس العصبي: أ. ر. لوريا.(27) زاسيتسكي كان قد فقد جزءا من مخه خلال الحرب العلمية الثانية، ومعه، فقد كل ذاكرته، وقدرته على النطق ـ غير أنه ظل قادرا على الكتابة. كانت يده تكتب بشكل آلي كل المعلومات التي لم يكن قادرا على التفكير فيها، وخطوة بخطوة، أعاد بناء هويته بقراءة ما كتبه.

 

كذلك، كنت أنظر بهدوء وبنحو فني إلى الكتاب، مسجلا وصفي له، وفجأة، أدركت أنني أعيد كتابة رواية ” اسم الوردة”. الاختلاف الوحيد كان بداية من الصفحة 120، عند بداية جزء” فن الكوميديا”، فإن الحواشي السفلية هي ما كانت شديدة التآكل، وليست الحواشي العلوية كما في الروايةـ غير أن بقية الوصف كان هو نفسه. صارت الصفحات داكنة بشدة، مبقعة بأثر الرطوبة، ملتصقة عند الحواف، وبدت كما لو كانت ملطخة بمادة دهنية مقرفة.

 

كنت أحمل بين يدي، في شكل مطبوع، المخطوطة التي وصفتها في روايتي. لقد كنت أحوزها لأعوام في بيتي، فوق رف مكتبتي.

 

لم يكن الأمر مصادفة غير عادية، ولا حتى معجزة. لقد اشتريت الكتاب في فترة شبابي، نظرت فيه نظرة سريعة، وأدركت أنه شديد الاتساخ، لكنه هناك في مكان ما، ونسيت أمره. لكن باستخدام نوع من الكاميرا الداخلية، كنت قد صورت هذه الصفحات، ولعهود، قبعت صورة هذه الصفحات المسمومة، في القسم الأعمق من روحي، كما لو في قبر، حتى لحظة نشورها ـ لا أدري لماذا ـ واعتقدت أنني قد اخترعت هذا الكتاب.

 

هذه القصة كالقصة الأولى، لا شأن لها بالتأويل المحتمل لروية “اسم الوردة”. المغزى، إن وجِد، أنه يصعب سبر غور الحياة الشخصية للمؤلفين التجريبيين، إلى حد ما، بأكثر من نصوصهم. وبين المسار الغامض للإبداع النصي، والتدفق المتعذر ضبطه لقراءاته المستقبلية، يظل النص ذاته، يمثل حاضرا مريحا، نقطة يمكننا الانطلاق منها بسرعة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

حواشي الفصل الثاني: المؤلف، والنص، والمؤولون

 

[1] تهويمات هوميروس: تعبير يُستخدم للدلالة على استمرار الخطأ، صاغه الشاعر الروماني هوراس في كتابه “فن الشعر”، في العبارة اللاتينية “Quandoque bonus dormitat Homerus” التي ذكرها إكو، حيث ظهر في إلياذة هوميروس بعض الأخطاء مثالها: يقتل مينالوس في “الإلياذة” إحدى الشخصيات الثانوية، ولاحقا نجد ذلك المقتول حيا يشهد مصرع ابنه. [المترجم]

 

(2( Umberto Eco, The Open Work (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1989).

 

[3] صيرورة العلامة Semiosis: عملية تنطوي على التكامل بين مكونات ثلاثة: علامة، وموضوعها، ومعناها. وقد صاغ شارل ساندرز بيرس هذا المصطلح للدلالة على العملية التي بموجبها تصبح العلامة علامة، أي ذات معنى، وبحسبه فإن هذه العملية ذات ثلاث أركان أساسية: الدَّال(Representamen): وهو شيء ملموس يمثل شيئا ما، وهو العلامة. الموضوع (Object): وهو موضوع العلامة، وهو ما نراه، أو نشمه، أو نسمعه، أو نلمسه، أو نتذوقه. المدلول (Interpretants): وهو معنى العلامة في ذهن متلقيها، كما أنه الواسطة بين العنصرين الآخرين، لإنشاء علاقة داخلية بينهما، وبالتالي ينشئ العلاقة بينه وبينهما، وبحسب هذه العملية تتولد في ذهن المرء علامة ما، تشكل نقطة بدء في عملية مماثلة لإيجاد علامة جديدة، وهكذا يصير لا محدودا. [المترجم]

 

[4] جون روجر سيرل: فيلسوف أمريكي معاصر، دار بينه وبين جاك دريدا نقاش شهير عام 1977 حول المعنى، فقال سيرل بحرفية المعنى، وقال دريدا أن ليس ثم أساس مستقر للمعنى، وتضمن النقاش الكلام عن توقيع المؤلف باسمه على أعماله، ولدريدا في ذلك مقال بعنوان: “التوقيع، الحدث، السياق”.[المترجم]

 

(5 (See Jacques Derrida, “Signature Event Context” (1971),Glyph, I (1977): 172-197, reprinted in Derrida, Limited Inc., trans. Samuel Weber and Jeffrey Mehlman (Evanston,I11.: Northwestern University Press, 1988); and John Searle, “Reiterating the Differences: A Replay to Derrida,” Glyph, I (1977): 198-208, reprinted in Searle, The Construction of Social Reality (New York: Free Press, 1995).

 

[6] كارل ريموند بوبر: (1902ـ1994) فيلسوف إنجليزي متخصص في فلسفة العلم، قال بمعيار قابلية التكذيب، ومعناه: إجراء اختبار تكذيب للنظرية بعد التوصل إليها، فإن أمكن تكذيبها كانت نظرية علمية، وإن لم يمكن تكذيبها لم تكن كذلك، أي أن قيمتها العلمية تتحدد بقدر إمكانية خضوعها للتجريب.[المترجم]

 

[7] أوغسطين: (354ـ430) لاهوتي وفيلسوف من أصل أمازيغي لاتيني، ولد في شمال أفريقيا، وكتابه “عن العقيدة المسيحية” يتكون من أربعة أجزاء يصف فيه كيفية تأويل وشرح الكتب المقدسة.[المترجم]

 

[8] Anschluss كلمة ألمانية تعني “الضم”: هو الاسم الذي أطلق على الاتفاقية التي تضمنت ضم النمسا إلى ألمانيا النازية، في مارس 1938.[المترجم]

 

[9] معاهدة ميونيخ: كانت بين ألمانيا النازية وبين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، في 30 سبتمبر 1938، منحوا بمقتضاها ألمانيا جزءا من تشيكوسلوفاكيا.[المترجم]

 

(10) See Philip L. Graham, “Late Historical Events,” A Wake Newslitter (October 1964): 13-14; Nathan Halper, “Notes on Late Historical Events,” A Wake Newslitter (October 1965): 15-16.

 

[1[1]] بيريا: هو لافرنتي بافلوفيتش، رئيس البوليس السري السوفييتي في عهد ستالين، قتله مساعدوه بتهمة الخيانة بعد موت ستالين.[المترجم]

 

[12] حكاية النملة والجندب: قصة خيالية من “حكايات إيسوب”، استخدمها جيمس جويس في روايته “يقظة فينيجان”.[المترجم]

 

(13) Ruth Von Phul, “Late Historical Events” A Wake Newslitter (December 1965): 14-15.

 

[14] القارئ النموذجي: ” إنّ من سمات  القارئ النموذجي [عند إكو] أنّه لا يباشر النّص وهو خاوي الذّهن، بل يباشره وهو يحمل استراتيجيّة قرائيّة، يواجه بها مسكوت النّص وغموضه، موظّفا كفاءات لسانيّة وغير لسانيّة، تساعده على استنطاق النّص، واستخراج ما لم يقله صراحة. وينتج عن هذا أنّ معنى النّص حدث ديناميّ يتولّد بمساهمة القارئ عبر فعل القراءة. ولكن “إيكو” اشترط في فعل القراءة أن يكون للتأويل سند نصيّ يحميه من الخطأ واللا منطق.” (المصدر: تشكّل المعنى بين دلالات النّص وتأويل القارئ عند “أمبرتو إيكو” أ. الميلود حاجي) [المترجم]

 

[15] وردة دانتي: في “الكوميديا الإلهية” يصور دانتي الفردوس كوردة هائلة، تذخر بالضوء والملائك. [المترجم]

 

[16] هيا، وردتي الحبيبة Go, lovely Rose: قصيدة للشاعر الإنجليزي إدموند والار (1606-1687). [المترجم]

 

[17] حرب الوردتين: حرب أهلية دارت بين أسرتين إنجليزيتين، على مدى ثلاثين عاما، حول أحقية كل منهما في عرش إنجلترا، واتخذت كلتا الأسرتين الوردة شعارا لها، إحداهما حمراء والأخرى بيضاء، وكان شكسبير هو من أطلق على هذه الحرب اسم “حرب الوردتين” في مسرحية “هنري السادس”. [المترجم]

 

[18] Rose thou art sick الوردة المريضة: قصيدة للشاعر الإنجليزي وليام بليك (1757-1827). [المترجم]

 

[19] جمعية الصليب والوردة Rosicrucian: جمعية سرية باطنية تأسست في القرن السابع عشر، ورمزها الصليب وفي منتصفه الوردة.[المترجم]

 

(20) يجب الانتباه إلى أنه من جهة مقاطع الكلمة، فإن حر ف”o” في كلمة “Roma” هو حرف مد، وبالتالي فإن التفعيلة السداسية لن تكون مضبوطة، وبذلك فإن كلمة “Rosa” هي القراءة الصحيحة لتنضبط التفعيلة. (إكو)

 

[21] المتون الهرمسية، أو الهرموتيكا: هي مجموعة كتب حكم، يونانية فرعونية، كتبت ما بين القرنين الثاني والثالث الميلادية، وتتناول مواضيع حياتية وفلسفية، بأسلوب تخاطب ما بين معلم، وهو هرمس الهرامسة، ومريديه الطالبين للمعرفة. والمتون هي أساس الفكر الهرمسي. تشمل مواضيع المتون: الله، الكون، الفكر، والطبيعة، وبعضها يتطرق للخيمياء، والتنجيم، وما يتعلق بهم. [المترجم]

 

(22) Helena Costiucovich, “Umberto Eco: Imja Rosi,” sovriemiennaja budoziestviennaja literature za rubiezom, 5 (1982): 101ff.

 

[23] البيريسترويكا : وتعني “إعادة الهيكلة”، هي برنامج للإصلاحات الاقتصادية أطلقه رئيس الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، وتشير إلى إعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفيتي. صاحبت البيريسترويكا سياسة جلاسنوست وتعني الشفافية. وقد أدت تلك السياستين إلي انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه سن 1991. [المترجم]

 

[24] حجر القمر: أول رواية بوليسية إنجليزية، أحد شخصياتها هو الملازم كفْ، تحري بوليسي مولع بالزهور. [المترجم]

 

(25) Robert F. Fleissner, A Rose by Another Name: A Survey of Literary Flora from Shakespeare to Eco (West Cornwall, U.K.: Locust Hill Press, 1989), 139.

 

(26) Giosue Musca, “La camicia del nesso,” Quaderni Medievali, 27 (1989).

 

(27) A.R. Luria, The Man with a Shattered World: The History of a Brain Wound (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1987).

 

 

ناصر الحلواني

قاص ومترجم مصري

موقع الكتابة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى