شعر

دفتر سيجارة/ بول شاوول

 

 

 

1

 

كان المقهى مكتظا، والكراسي كلها مليئة. والطاولات أيضا، وكذلك فضاء المقهى بغيوم دخان السجائر، وحثي الزجاج واللمبات، كان كل شيء مكتظا.

 

ومع هذا كان كل الموجودين في المقهى يتكلمون، حتى الصامتون منهم. كأنهم ينافسون دخان السجائر.

 

2

 

كان يفتتح الصباح “أو الفجر” بسيجارة، بعدما كان يودع الليل بسيجارة أيضا، توقظه السيجارة صباحا، توقظ عينيه وحواسه وأصابعه وأنفه، والغرفة، وفنجان القهوة. كانت المنبٌه الدقيق الذي لا يخطئ رنينه الصامت.

 

كانت بمثابة الشمس التي تشرق بين أصابعه، وإذا شئت أكثر: كانت الشمس التي تبقي مشرقة حتى في الليل “كشمعة أخري” ربما في سهره أو فوق نومه. وهو يتمدد حالما بشموسي أخري قد تأتي وقد لا تأتي. أو ربما أتتْ ثم لم تأتي. أو ربما كالسيجارة أّتّتْ وذابت في دخان جاحد.

 

3

 

كان يدخٌن مائة سيجارة تقريبا في اليوم. مائة شمس تشرق وتنطفئ بين أصابعه. مائة سيجارة من صنف واحد. وكل سيجارة بنكهة مختلفة. فأول سيجارة ليست كالثانية ولا كالثالثة ولا كالأربعين أو ما بعدها: كل سيجارة تأخذ طعمها من كل شيء: تأخذ من الصبح نقاءه، ولا مانع عطر زهرة أو هديل اليمام. وتأخذ من الظهيرة قوتها وعنفها وإصرارها كميزان عدالة معلق في القبة السماوية.

 

ومن الليل هدوءه. طعم العتمة أو عبق الكتب أو شميم النساء العابرات في المقهى، ومن الشارع. روائح الأصوات والجلبة والسوق وحتى الخضار والواجهات والملابس: شميم الشارع عندما تختلط روائح الأرصفة بروائح الناس. وتّنّنّشقّها كلها في مجة سيجارة أشعلتها وسط الرصيف وأبقيتها في فمك على امتداد خطاك.

 

4

 

يحس أحيانا أن سيجارة لا تريد أن تنتهي. أن تبقي مولعة أكبر مدة ممكنة بين أصابعه أو شفتيه أو حتى في المنفضة. وفي مثل هذه الحالات يتركها على هواها. يمجٌها بهدوء ويرخيها في المنفضة هكذا لتعيش بصمت انطفاءها البطيء

 

5

 

لم تتخلف السيجارة كثيرا عن مرافقته “كأنها ملاكه الحارس”. لم تفارقه على امتداد سنواته من المراهقة المبكرة وحثي المشيب. نجحت معه في السرتيفيكا ثم في البكالوريا وتظاهرت معه في الجامعة وحزنت معه عندما غادره الأحباب والأصدقاء. وهربت معه من منطقة الى منطقة أثناء الحروب وخطِفتْ معه عدة مرات وكتبت معه وقرأت معه وسقطت معه في الخيبات، وهاجرت معه ونّجّتْ معه عدة مرات وعادت معه…

 

لم تتخلٌف السيجارة كثيرا عن مرافقته، ولا هو تخلٌف عنها.

 

إثنان في الطريق الطويل.

 

في الطريق المجهول.

 

6

 

لم يكن يهون علىها أن تراه حزينا أو أن تلمح “أحيانا” دمعةّ في عينيه. وتتمنى لو تمسح دمعته أو تشربها أو تمتصها أو تكفكفها أو تلامسها. حزنه يزيدها أحيانا اشتعالا ويزيدها أحيانا أخري ندما: في الحالة الأولي تستنفر جميع نارها لتشاركه. وفي الحالة الثانية تغفو وحدها في المنفضة لكي تتجنب رؤيته حزينا. على أنها كانت في جميع الأحوال أقرب الى عينيه من الدمعة، وأقرب الى أصابعه من الهواء.

 

7

 

تعرف السيجارة ومن مجرد تحسسه العلبةّ بمزاجه. فعندما يعدٌها واحدة واحدة تدرك أنه مفلس. وعندما كان يضعها أمامه على الطاولة ويتأملها بشرودي قاسي تدرك أنٌ شخصا عزيزا عليه فارقه أو ابتعد عنه. وعندما كان يسحبها وعلى مهل ثم يطرق عقبها على طرف الطاولة أو ظاهر كفه، تتكهن بأنه متوتر أو قلق.

 

ولهذا كانت تستسلم سلِسّة أمامه وتنفخ دخانها بهبات خفيفة بطيئة. وعندما كان يضعها بين شفتيه ويرفع الوّلاعة أو عود الثٌقاب ولا يشعلها، تعرف أن أمورا عويصة تدور في ذهنه. وعندما يشعلها ثم يطفئها قبل أن يكملها ثم يمعسها ليشعل سيجارة أخري تلقي المصير ذاته كانت تدرك أنه مقبل على خطوة صعبة أو غير واثقة. هي ربما ومن المرات النادرة لا تحب أن توضع في مثل هذه المواقف الحرجة. ولهذا كانت تود لو تنطفئ قبل أن يشعلها. أو تسقط من أصابعه قبل أن يرفعها بعنف الى فمه.

 

8

 

أشعل السيجارة وسجٌاها في المنفضة. دخانها نحيل. ووحيدة جدا. وكانت أصابعه بعيدة: يقرأ الجريدة أو يكتب أو ينظف النظارات.

 

كانت وحيدة تشتعل على طرف المنفضة. في ذلك الصباح والأسباب غير معروفة، تركها هكذا مشتعلة، تشعل نفسها بنفسها. تدخن نفسها بنفسها. تحرق نفسها بنفسها.

 

وعندما تدارك الأمر كانت على آخرها. وصلت الى شحبار الفلتر وصلت الى نفادها عندها شعر بذنب ارتكبه في حقها: بأن يهملها هكذا على حافة المنفضة البعيدة عن أصابعه كأنما كان يعاقبها ربما على شيء لم تقترفه. أو ربما اقترفته من دون قصد، أو ربما على ذنب اقترفه ولا يريد لا أن يتذكره ولا أن يعترف به.

 

9

 

يتذكر أنه كان يعرف أن الفجر قد شعشع عندما تشعل والدته أول سيجارة لها، كان يعرف وهو نصف نائم من »شحطة« عود الثقاب ومن ضوء السيجارة أن نهار والدته ابتدأ ولهذا صار كلما رأي عودّ ثقاب يشتعل حتى في النهار يتذكر والدته وهي تشعل النهار من أول أطرافه بأول عود ثقاب وبأول سيجارة.

 

10

 

لا يعرف لماذا يستهويه أحيانا النظر الى الأشياء من خلال دخان السيجارة »لعبة أطفال«. هكذا يشعل واحدة ثم يرفع رأسه وينفخ الدخان أمامه مرات متتالية فينتفخ ما يشبه الغيوم الشفافة الخفيفة المشٌّوشةّ أمامه. وعندها يكون له أن يري الهواء. الدخان جسم الهواء. ثم ينفخ على كل ما أمامه: الطاولة البنية فيتغير لونها لحظة هي والمنفضة والولاعة وفنجان القهوة ثم يغبش اللون الى ما يشبه اللالون ليتلاشي بين ألوان الطاولات واللمبة والجرائد والناس. آه عندما يخترق الدخان بخفة السحرة الوجوه والأنوفّ والملابسّ وحثي الكلام. ليجلس لحظة كطيف عابرِ الى كل الطاولات ويغادر.

 

مرات عديدة يشعر أن الدخان الذي أطلقه كعيون محجبة يتعثّر بالهواء. ويكاد يعرج أو يلتوي »كغيمة تغّيٌر مسارها «، وكأنه لا يريد . أن يتجمٌّد هكذا فوقه. ربما احتجاجا على أمر لا يعرفه. أو عنادا. »والدخان يعاند ككل الكائنات الحية والميتة«وعندها بالذات يتراجع الدخان عدة دوائر أو عدة ألوان، وكأنه نسي شيئا وراءه، ثم يتقدم تاركا وراءه خيطا رفيعا يحط على شعره أو على أنفه أو جيبه أو أذنه.

 

وعندها يشعر عندما ينفخ هذا الدخان أنه قد يكون خسر شيئا لا يستطيع أن يحدده »والدخان رحيل أيضا«. ولهذا يتبع المجةّ بأخرى فمجة أخرى لعله يستبقي شيئا ينظر من خلاله الى الأشياء العابرة حوله. الى ظله على الطاولة البنية اللامعة في المقهى.

 

11

 

عندما سّحّبّ آخر نّفّسي من السيجارة ورمي عقبها، شعر بشيء من الحزن. لطالما تمني لو انه لا يرمي الأعقاب: أن يحفظها كما يحفظ البوم الصور أو الطوابعّ البريدية أو بطاقات المعايدة.. أو حتى الرسائل القديمة، ولهذا ربما عندما يطفئ السيجارة بعد السيجارة في المنفضة وتمتلئ بالأعقاب والرماد وأحيانا بأعواد الثقاب يطلب من النادل أن يتركها عندما يأتي ليفرغ المنفضة »من باب النظافة«. ولذلك ربما لا يحب المنافض النظيفة »كأنها بلا ذكرى« ويحبٌ أن يري فيها شيئا مما يتركه في السيجارة كالرماد أو أعواد الثقاب. ولهذا كان يحتفظ بتلك المنافض القديمة »المحروقة« بأطراف السجائر، وما التصق في قعرها من آثار رماد.

 

هذا يشبه أن تحتفظ بشيء تركه عزيز لديك وتولي من دون أن تعرف ولا وجهته ولا مصيره.

 

12

 

قبل أن يشعلها رفعها أمام عينيه. ثم قلبها ثم حطها على الطاولة بين المنفضة وفنجان القهوة الأبيض والولاعة الزرقاء والورقة والقلم. وضعها بين كل هذه الأشياء وراح يستمتع بالمشهدية الجميلة. هذا هو المتاع الدائم الذي يحمله منذ مدة طويلة: لوحة حية لم تعبث يدج بألوانها أو بأشكالها. لكن عندما راح ينظر الى هذه الأشياء التي وزعها بطريقة فنية ارتجالية بدا له كم أن طريقه طويل، وكم أن متاعه قليل. وشعر بأنه إذا نقص شيء من هذا المتاع »المنقول« فسيصيبه خوف غامض. لأنه أحسٌ عميقا أنه أيضا جزء من هذا المتاع، وإذا سقط شيء من هذا المتاع كأنما سقط منه الى الأبد.

 

13

 

السيجارة في فمه، يتأمل ما حوله: المقهى، الشارع، الناس، الباعة ، السيارات، السيجارة التي وضعها في فمه مشعلة بقيت مدة طويلة من دون أن يسحب منها نّفّسا واحدا. تركها تشتعل وحدها من دون أن ينفض رمادها.

 

كانت الأشياء في ذلك اليوم غائبة كثيرا كأنها لم تكن في أمكنتها أو ربما هو أيضا لم يكن في مكانه.

 

والسيجارة مثله، لم تكن أيضا في مكانها.

 

14

 

كان يدخن السيجارة، أمس، ويراها جميعها. يتحسٌسها: تبغها، لونها، رأسها، عقبها، ويمررها على أنفه. كان يحس بها في فمه، وبين أصابعه، يحس »بزرزورها« ورمادها وحتى بأعقابها في المنفضة. وعندما يرفع يده ويضعها في شفتيه ويقيس تلك المسافة بينهما، كان يراقب الدخان الذي ينفثه وهو يأخذ كل الألوان التي يمرٌ بها.. والدخان أيضا لون وعدة ألوان.

 

بعد كل هذه السنوات، بات يحس كأن السيجارة هي التي ترفع نفسها الى فمه، وتدخن نفسها وحدها. أو أن شخصا آخر بات يدخنها، ويتذكره بكثير من الحنين.

 

15

 

مات والده بسبب السيجارة. ووالدته أيضا، وشقيقتاه، وعدة أصدقاء.. كلهم ماتوا بالسيجارة، مع هذا فعندما حضر جنازات هؤلاء، كانت السيجارة في فمه، وكأنها تشارك في التعزية. عزي وعانق وأدمع وحزن وضاقت به الدنيا والسيجارة في فمه. وعندما كان يغادر تبقي السيجارة في فمه. يفتح باب منزله والسيجارة في فمه. وعندما يضع رأسه بين يديه ويجهش ويأسف ويغضب ويخاف كانت السيجارة دائما تنفث دخانها بهدوء مضطرب.

 

كل هؤلاء الذين فقدهم أحبوا السيجارة مثله. وماتوا بها. هو أيضا كلما تّذّكٌّرهم وهم يدخنون يسحب سيجارة ويحييهم وهو يشعلها بين التذكارات والأسف والاشتياق.

 

16

 

كان يخطر له أن يشبٌه السيجارة بالمرأة، لكن المرأة تأتي ثم تذهب.

 

كان يحِبٌ أن يشبه السيجارة بالوردة لكن الوردة تذيل كثيرا

 

كان يحِبٌ أن يشبه السيجارة بالصداقة، لكن الصداقة لا تدوم.

 

كان يحِبٌ أن يشبه السيجارة بالموت لكن الموت لا يأتي سوي مرة واحدة.

 

عندها لم يكن له سوي أن يشبٌه السيجارة بالسيجارة.

 

17

 

لا يميٌز أحيانا ما إذا كان يفكر لكي يدّخٌن أو يدخن لكي يفكر.

 

أكثر: لا يميز أحيانا ما إذا كان يفكر لأنه يدخن، أو يدخن لكي يفكر أكثر، لا يميز أحيانا إذا كان يدخن من دون أن يفكر أو يفكر من دون أن يدخن.

 

هذا الالتباس تنافي الى حد جعله لا يميز دائما من يدخن الآخر:

 

هو يدخن السيجارة أم أن السيجارة هي التي تدخنه.

 

18

 

كتب هذا الصباح في المقهى خمسين سيجارة ثم محاها كلها بلا أسف يذكر.

 

19

 

رماد السيجارة سرٌها الدائم.

 

أمامها

 

20

 

لكنه السرٌ الذي يفوح علىك ولا تعرفه

 

21

 

يتذكر أن صديقه وجيه عندما منعه الطبيب عن التدخين بإلحاح بعد عملية قلب مفتوح عمد الى وضع السيجارة في فمه من دون أن يشعلها. بقيت هذه السيجارة في فم وجيه سنوات عديدة. وعندما مات وجيه بهدوء بقيت السيجارة في فمه غير مشتعلة.

 

وكان وجيه، كما يروي، سعيدا جدا بهذه النهاية التي بقيت فيها سيجارته غير المشتعلة آخر شيء لمسه في هذا العالم.

 

آخر رفيق ودٌّعه بعناق طويل.

 

22

 

قد لا يتذكر دائما السيجارة الأولى التي دخنها. لكن من يعرف متى سيدخن السيجارة الأخيرة؟

 

تساءل وهو يتذكر الأصحاب الذين لم يتذكروا السيجارة الأولي ولم يعرفوا متى سيدخنون سيجارتهم الأخيرة.

 

مع هذا رحلوا وهو يرجون أن تكون أمنيتهم الأخيرة سيجارة توضع بين شفاههم ولا يدخنونها. هكذا ربما كزهرة توضع على صدورهم. أو كمنديل في أيديهم، أو كقبلة على جباههم.

 

23

 

أيهما يتناوله قبل البحر في الصباح الباكر: أي ما هي أول »شّفٌّة« يأخذها: من القهوة أو من السيجارة؟ المسألة غير سهلة. فالصبح يحتاج الى ما يليق بتدشينه. والقهوة والسيجارة كلتاهما تليق به وأكثر.

 

ولهذا ومن باب التوازن وربما التراضي قسٌم الصباحات بينهما: يومٌ يشف السيجارة قبل القهوة وآخر يشف القهوة قبل السيجارة. لكن ماذا يفعل عندما يؤخذ أحيانا بسحر الصباح الطازج الباكر. وبسمائه والبحر المترامي أمامه من شرفته العالية وحديقته المليئة بالشجر والورد وهديل اليمام على أسلاك الكهرباء والسطوح.

 

في مثل هذه اللحظات تختلط الأمور وينسي الاعتبارات فيحمل السيجارة بيد وفنجان القهوة بالأخرى وهكذا تتوازن الأمور في مخٌه جيدا من دون أن يعرف ما إذا افتتح الصباح بالقهوة أم بالسيجارة.

 

24

 

يلاحظ أحيانا أن السيجارة في فمه تتقدم الى الأمام أكثر مما يتقدم.

 

تسبقه بجمرتها وبدخانها أحيانا الى حيث لا يريد أن يذهب.

 

25

 

يحس أحيانا وهو يشعل السيجارة وكأن أجراسا بعيدة تحترق علىها، وكأن دخانا عميقا آتيا من الحفر. والطفولة، والموتى يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة. وتحترق وراءه أجراس بعيدة وضباب يطلع من كل الأودية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتٌّولّتْ إلى الأبد.

 

26

 

شي في مؤخرة الجنازة. رآهم كلهم. والنعش المحمول على المناكب أيضا. وملابسهم الداكنة، ربطات عنقهم همسهم، صمتهم.

 

كانوا يودعون الميت برؤوس هادئة. هو سحب سيجارة وأشعلها وراءهم جميعا. ونفخ دخانها فوق رؤوسهم وتنهد: كان ذلك أجمل ما يمكن أن يقدمه في وداع الصديق الذي سّبقه وربما طويلا ومبكرا تماما كدخان السيجارة الذي يّتّبٌّدد بصمت فوق الرؤوس وفوق النعش المتهادي.

 

كانت السيجارة التي دخنها آخر دمعة يذرفها على صديقه الراحل.

 

27

 

عندما تشعل سيجارة تحس أن شيئا منك يرحل بهدوء مع دخانها.

 

وينساه.

 

28

 

شعر بأن أفكاره تأتي دائما متأخرة تلهث بعرقها البارد خلف دخان سيجارته.

 

29

 

الشفاه الباردة لا تجيد التدخين.

 

30

 

الشفاه الحارة تحرق السيجارة قبل أن تشعلها بعود الثقاب.

 

31

 

عندما قالت له »انزع السيجارة من فمك لكي تقّبٌلني« نظر إليها طويلا وقبٌّلها بعينيه.

 

32

 

مازلتّ بعد أكثر من 40 سنة من أول سيجارة أشعلتها بطريقة سيئة، تشعلها اليوم بطريقة سيئة أيضا، ذلك أن السيجارة كالشعر خطأ جميل.

 

33

 

كانت ثقيلة أول سيجارة حملتها قبل أكثر من أربعين عاما. وكانت أثقل عندما وضعتها بين شفتيك وأثقل عندما أشعلتها وأثقل عندما نفخت دخانها.

 

34

 

تلك السيجارة الأولي التي أشعلتها مازالت على عهدها الأول ثقيلة ثقيلة لكن أيضا بخفة كل السنوات التي انقضت بلا طائل.

 

35

 

مجٌ مجٌة عميقة من سيجارته ونفخها على وجه تلك المرأة حتى تغلغل الدخان في شعرها الطويل وعبقتْ رائحته في ثيابها وصدرها وعنقها، فكأنما استسلمت لتلك الملامس وكأنها أيقظت فيها أعشابا محترقة نامت طويلا على جلدها وشفتيها.

 

36

 

عندما رفع السيجارة أمامه وتملاٌها بجميع عينيه تذكر بعد أكثر من أربعين عاما سيجارته الأولي.

 

ابتسم وكأنه يقول: كّبرت السيجارة كثيرا لكنها مازالت أصغر مني بكثير. لكنه تدارك وكأنه يقول: مع هذا مازلت أكبر منها بسنوات كثيرة. وعندما أراد أن يعدٌ على أصابعه الأيام والسنوات، وضع السيجارة في فمه وأشعلها وتركها تعدٌ وحدها كل تلك السنوات التي رافقته فيها.

 

37

 

ماذا يمكن أن تفعل عندما يلتقي صمتان: صمتك وصمت السيجارة. ربما لا شيء وربما الكثير، لكن الأرجح أنك كلما ازداد صمتك ازددت تدخينا.

 

الفارق أن صمتك واضح كالطاولة أحيانا وصمت السيجارة مجهول الإقامة كالدخان.

 

38

 

يحب دخان السجائر أن تلاعبه، وتمازحه، كأن تنفخّ دوائر متتالية منه في الهواء دوائر كالأساور والخواتم بشكل الشفاه التي تطلعها. أو كأن تنفخه كبالونات تتلاشي فور استدارتها مثل تفاحة أو كرة، أو كأن تنفخه بقوة نحو الأسفل أو نحو الأعلى أو نحو قميصك، ويكون له أن يشبٌه نفسه بالهواء أو حتى بالنظرة »والدخان عين أيضا«. أو أن ترسله هبات هبات خفيفة هشة بالكاد تراها كغيمة على آخرها. ذلك لأن دخان السجائر يحب أن يشبٌه نفسه بالغيمة. لكن، ربما أكثر ما يستهوي دخان السجائر أن تنفخه بهدوء على الأصابع أو الوجوه أو حتى الشعر لكي يحلم أحيانا أنه يستطيع أن يصير شيئا من الحواس والثياب وخصوصا الشٌّعر.

 

ذلك أن دخان السيجارة لا يريد أن يصدٌق أنه فقط مجرد دخان سيجارة.

 

39

 

عندما يشعل سيجارة في غرفته الضيقة وهو ينفث دخانها بين الستائر والجدران والأبواب المغلقة لا يعرف لماذا يتذكر الشاعرة الأمريكية أميلي ديكنسون. تلك التي كأنها احتفظت بسيجارة واحدة في حياتها في غرفتها المنعزلة، ولم تشعلها أبدا. أو كأنها خبأت طويلا سيجارتها وراء عينيها وهي تنظر على امتداد ثلاثين عاما من الاعتزال من خلال زجاج النافذة العالم الذي أمامها كخيالات طويلة من دون أن تعرف لا من حيث أتت هذه الخيالات ولا الى أين تمضي. خيالات تطلع من غرفتها التي خبأت فيها سيجارتها الى ذلك الشارع المكتظ بنهاياته الدائمة.

 

40

 

يحس أحيانا وفي لحظات قاسية كأنه يدخن سجائره دمعة دمعة.

 

41

 

المقاهي تشبه السجائر التي يدخنها. هذا ما خطر له عندما أصابه الحنين الى المقاهي التي تردد علىها في صباه وفي مختلف السنوات اللاحقة. تذكر مقاهي البرج والروشة والحمراء وسن الفيل والحازمية. تذكرها واحدا واحدا. واستعاد بذلك ما كان يدخن من سجائر: مقهى اللاروندا يطل على ساحة البرج. في تلك الفترة كان يدخن اللاكي سترايك »يشتريها بالمفرق، فلت من رصيف الكريستال أو من أحد المحال في العاصمة«. ولهذا عندما خف به الحنين من رؤوس دخان سيجارته الى ذلك المقهى ذي الطابقين والدرج اللولبي، فاحّتْ في أنفه رائحة اللاكي سترايك التي صارت رائحة المقهى، وبدا له أن هذا المقهى »وغارسونه الرائع محمد« يشبه السيجارة التي كان يدخنها

 

42

 

آنئذي كأنٌّ دخان السجائر كان يرسم شكل المقهى. والدرج والبار والغارسونية والطاولات والكراسي: مقهى يشبه اللاكي سترايك وعبقه. المقهى عبق قديم مازال يفوح كلما تذكر تلك السيجارة في فمه وهو ينظر من خلال الزجاج ساحة البرج والترامواي وقهوة القزاز ومسرح فاروق وسينما ريفولي وسوق المتنبي »الغانيات« ومقهى الجميزة. كأن دخان السجائر الذي كان ينفثه يغطي تلك الساحة التي كان يحصي بلاطها وسينماها ومقاهيها ومحالها وساحتها الشهيرة. خطوة خطوة وسيجارة سيجارة.

 

43

 

عندما بدأ بارتياد الهورس شو في الحمراء كان حسم اختياره.. نهائيا: الغولواز بلا فلتر. وفي ذلك المقهى اختلفت وتنوعت كل أشكال السجائر وروائحها وألوانها: من المالبورو والكانت والجيتان و»إل. ام« وطبعا الغلواز تماما كما كانت تختلط وجوه النساء والكتٌاب والرواد بأعباقهم وأشكالهم وألوانها. ولهذا اكتشف بعدها أن رائحة الغلواز كانت الأضعف بين روائح السجائر والعطور و»الإفتر« شيف »بعد الحلاقة«. وهذا ما جعل المقهى بلا رائحة طاغية بل مقهى الروائح كلها. ولأن المقهى كان صغيرا الى حدٌ ما، فقد بدا أحيانا وكأنه ومن كثرة المدخنين يعوم على غيمة ملونة من دخان السجائر. بل كأنه كان غيمة صغيرة، وسط منفوخِة بكل الشفاه والوجوه التي كانت تدخن أيامها وكلماتها وصمتها وقبعاتِها وأوراقّها في فضاء واسع امتص ما امتص منها. وابتلع ما ابتلع منها، في تلك اللحظات التي كانت تشبه، كالمقهى، كل سيجارة أشعلت وأطفئت على وقع الأيدي والرؤوس التي نفخت دخانا كثيرا لم يتبق منه شيء بعد كل تلك الحروب والحرائق… والسنوات

 

44

 

ذلك أن المقهى يتلون أيضا بنوع السيجارة التي يدخنها…

 

واكتشف كم أن المقاهي كانت تتغير ألوانها مع تغير أنواع السجائر، ولكل دخان ينفث فيها شكله الخاص، وفضاؤه الخاص وكرسيه الخاص. فالمقاهي تشبه السجائر. تماما كما تشبه ناسها وأرصفتها وأسرارها. ولهذا كان يري أن الدخان يغّيٌر أحيانا ألوان الحيطان وكأنها تشارك بالتدخين، وتحسها ستسعل أو ستكح كأي مدخن. ولهذا أيضا يمكن إضافة ألوان دخان السجائر الى قائمة الألوان المعروفة: من أزرق إذا هبٌ من الشفتين عرفتّ أن الأفكار زرقاء، ومن أحمر منفوخ عرفتّ أن المشاعر خاصة جدا. ومن أخضر إذا توقف على الأنف عرفت أن غابة شفافة تطلع بكل هدوء.. ويمكن أن تتحري بشيء من الفضول الأشياء الموضوعة على الطاولة لتري مشهدية ممتعة من قوس قزح يغمرها بلا إذن ولا اعتذار.

 

ذلك أن الأشياء والمقاهي تصبح من ألوان السجائر وشميمها وأنسابها.

 

ذلك كأن السيجارة قد تصير ذاكرة متجولة تبدأ بالدخان وتنتهي بالدخان.

 

45

 

يتمازج دخان السيجارة والبخار المتصاعد من فنجان القهوة.. كما يتمازج النوم والغياب.

 

46

 

الوالدة رأت آخر سيجارة على سريرها الأخير. مستها مسٌا بشفتيها واطمأنت. تماما كما يطمئن المحكوم بالإعدام الى آخر سيجارة يطلبها ويمجها قبل أن ينسدل الستار الأخير علىه.

 

47

 

والوالد أيضا عرف كيف يخبئ تحت الوسادة سيجارته الأخيرة.. ويشعلها وينفخ دخانها أمامه وهو يغمض عينيه الى الأبد.

 

كأنما رحل وبقيت السيجارة على نصفها مشتعلة بين شفتيه. كأنما كان له ما أراده: أن يسبقها ولو بلحظة الى ذلك الانطفاء الدائم.

 

48

 

… وما نّغٌّص رحيل صديقي نبيل أنه لم يرّ بين الذين وّدٌّعوه من يحمل ولو سيجارة في فمه.

 

ولو سيجارة مطفأة. فعمد وبطريقة سينمائية. وهو يحب السينما، الى سحب سيجارة من تحت شرشفه الأبيض. وبابتسامة خافتة وقدمها الى أحد الذين انحنوا علىه لتوديعه.

 

وكانت ابتسامته الأخيرة مقابل دمعة صديقه التي سقطت حارة حارة على جبينه.

 

السيجارة كانت ابتسامته الأخيرة، مشهده الأخير.

 

49

 

في بعض التقاليد يدفنون مع الجنود البواسل سيوفّهم وأوسمتّهم تكريما لهم. تساءل: لماذا لا يدفنون معه ومع أصدقائه، ولو علبة سجائر واحدة ولو سيجارة ولو عقب سيجارة ولو عود كبريت ولو نفسا عميقا من مجة سيجارة على ملابسهم ووجوههم وصورهم.

 

50

 

يدفنون أوهام الجنودِ البواسل معهم من أوسمة وسيوف وإشارات، فلماذا لا يدفنون أجمل أوهام الذين لم يرموا السيجارة حتى آخر نفس من أنفاسهم حتى آخر وهم في دخان سجائرهم.

 

51

 

…. إنه الوهم الذي تراه، تضعه في جيبك . »وهل أجمل من وهم تضعه في جيبك«…

 

يشبه الهواء أحيانا أو الرماد أحيانا أخري أو الظل. وّهْمج بحجم الإصبع. وأرق. أو أغلظ. تسحبه تشعله، تمجه، تطفئه، ترميه، ثم تتكرر اللعبة: تسحبه، تشعله، تمجه، تطفئه ثم ترميه.

 

الوهم الخالص يستوطن أصابعك وصدرك ورئتيك وشرايينك ليجعلها وهما آخر.. يجعل الحياة كلها وهما آخر.

 

وهما قاتلا ككل الأوهام الجميلة.

 

– الى متى!

 

– لا أعرف

 

– ربما حتى النهاية؟

 

– لا أعرف

 

– ربما قبل النهاية؟

 

– ربما تسقط من يدي

 

– وتلمْها!

 

– ربما!

 

– ربما تسقطها من يدك.

 

– ربما

 

– ربما لا تسقط من يدك ولا تسقطها من يدك؟

 

– ربما.

 

– ربما انتزعت من يدك

 

– أشعل أخري

 

– ربما احترقت على شفتيك.

 

– أشعل أخرى

 

– ربما سبقتك بدون إنذار

 

– ربما أسبقها بدون إنذار

 

– ربما تخلٌت عنك قبل فوات الأوان

 

– ربما لا أتخلي عنها بعد فوات الأوان

 

– حتى النهاية؟

 

52

 

يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان سيجارته. ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معا هواء في هواء أو صمتا في صمت ورحيلا في رحيل.

 

53

 

لا يعرف لماذا عندما رأي دخان السيجارة يمتزج ببخار القهوة… أحس بحنين غامض. ذلك أن الحنين أحيانا يشبه تمازج دخان السيجارة ببخار القهوة الساخنة

 

لحظة لا تعرف الراحة.

 

54

 

أين يذهب دخان السيجارة عندما تبتلعه؟ كيف يشق طريقه في الزلعوم وكيف يتوزع في الصدر وصولا ربما الى البطن والكلي. في أي شريان يعلق ويقيم. أيٌّ رئة يختار: اليمني أو اليسرى هل تجري يتوقف في الحنجرة. هذا الدخان الشفاف الرقيق أيٌ منطقة سيخترق في هذه السيجارة التي تمجها بقوة اليوم، في أي منطقة قد تصير محظورة علىك ذات يوم أو ذات صباح أو ذات غياب طويل.

 

55

 

ربما عرفتّ متى دخنتّ أول سيجارة لكن من سيعرف متى ستطفئ آخر سيجارة قد ترميها في المقهى أو في الشارع أو في السيارة أو من على حافة سرير.

 

آخر سيجارة كأول سيجارة طازجة في مجيئها وأكثر طزاجة في رحيلها.

 

……………

 

*مقاطع مع ديوان “دفتر سيجارة”

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى