مراجعات كتب

دكان الحلاقة والمقهى: سيرة العوام في تاريخ أهل الشام/ محمد تركي الربيعو

 

 

■ «لقد شعرت بالغيرة من كتابات التاريخ الأوروبية الحديثة، وهي تميط اللثام عن تاريخ الطحان مينوكيو الغريولي، الذي عاش في القرن السادس عشر». بهذه العبارة تفتتح المؤرخة الفلسطينية في جامعة بوسطن دانا السجدي كتابها الأخير والمترجم حديثاً للعربية («حلاق دمشق» ترجمة سرى خريس).

فحالة الغبطة التي تشعر بها الكاتبة، وربما يشاركها العديد منا في ذلك، تجاه ما وصل إليه التاريخ الجديد، وفق تعبير المؤرخ الفرنسي الراحل جاك لوغوف، في ما يتعلق بدراسة الحياة اليومية في القرون الوسطى الأوروبية، وحتى الحديثة سرعان ما سيدفعها إلى خوض مغامرة البحث عن سيرة موازية لسيرة الطحان الأوروبي في دمشق العثمانية.

مع ذلك تؤكد السجدي أنها سرعان ما ستصاب بالإحباط؛ إذ باءت كل محاولاتها بالفشل، بعد أن «قضيت عاماً كاملاً في قراءة النتاج التاريخي لعلماء الشام في القرون الوسطى، آملة أن أتمكن من البحث عن دور العامة من الناس، لكن بدون نتيجة تُذكر، كنت أشعر بإحباط شديد»، بيد أن الصدفة سرعان ما ستنقذها من حالة القلق والخوف من الفشل في كتابة شيء جديد عن تاريخ العوام. فبينما كانت الكاتبة تقلب في عدد من الدراسات الحديثة، إذ بها تعثر في أحد هوامشها – كما تروي- على كتاب لمؤلف حلاق من القرن الثامن عشر! حلاق ويكتب عن التاريخ في القرن الثامن عشر؛ يُدعى ابن بدير؛ كان يمتلك دكاناً للحلاقة في حي باب البريد الراقي، الواقع في مركز دمشق المسوّرة؛ وفي هذا المكان استطاع ابن عكام (حمال) خرق قواعد الكتابة التاريخية، من خلال إعادة تعريفه للتاريخ، بوصفه تقريراً عن الأحداث اليومية، وكأنه أشبه بالصحيفة اليومية التي تنقل الأخبار المحلية بدل الانشغال بالماضي وعبره. لقد مكّنه وجوده داخل دكان للحلاقة، الذي كان يتداخل في ذلك الوقت بطريقة لا مفر منها مع مؤسسة المقهى، من الانفتاح على السيرة الشعبية الشفهية، وغيرها من الأنماط الأدبية المحكمة.

شكّل هذا الانفتاح على التاريخ والكتابة عن الحياة اليومية ظاهرة جديدة في حياة دمشق وبعض مدن بلاد الشام، تدعوها سجدي ظاهرة «محدثو الكتابة»، وتتمثل في وصول مؤلفين جدد من أصول اجتماعية ليس لها صلة بالعلم إلى حيز التأريخ الذي كان حكراً على العلماء. فغالباً ما اختار هؤلاء المحدثون كتابة التاريخ في نمط اليوميات، وتسجيل الأحداث التي عاصروها بدل الانشغال بالكتابة عن الماضي.

ولكن كيف نفسر ظهور هؤلاء المحدثين؟

في حالة حلاقنا، تشير السجدي إلى جملة من التحولات التي كان يشهدها الفضاء الذي يحيط به في القرن الثامن عشر. فمن ناحية كانت المدينة على موعد مع ظهور عائلات جديدة لحكم المدينة (عائلة العظم)، ما أفسح المجال لأشكال عمرانية وقصور جديدة بالظهور؛ كما شهدت هذه الفترة انتشار ثقافة متعة التنزه، وتواجد أوسع للنساء في الأسواق والفضاء العام؛ وأخيراً اندلاع العنف في الشوارع بين أحياء المدينة القديمة مع الأحياء التي كانت تتشكل خارج ما يسمى بالأسوار (حي الميدان)؛ هذا التغيير في الاقتصاد السياسي، وفي الأسس التقليدية للمدينة، ساهم في إحداث تغيير في النصوص الأدبية منها والشعرية، فالأدب الجديد أو «اقتصاد الكتابة الجديد» وفق تعبير السجدي كان فوضوياً في التغيير، كما كان عليه حال المدينة، وسعى إلى هدم الأنماط التقليدية في السلطة الكتابية.

 

حلاق يكتب التاريخ!

 

لم يسبق ابن بدير إلى الكتابة أي شخص مارس مهنة الحلاقة من قبل. واللافت في قرار ابن بدير لا يتعلق باسترجاع الحلاق للذكريات، بل في اختياره شكلاً لهذه الذكريات؛ وتحديداً التأريخ، الشكل الأدبي الذي ابتدعته وخلدته نخبة العلماء، بعناصر من السيرة الشعبية المحكية، لجعل تأريخه تاريخاً مألوفا لجمهوره الخاص. وبذلك يعيد عبر هذا التطعيم تقييم الأخلاقيات والأجندة السياسية المتضمنة في شكل التأريخ، فيحوله من نوع أدبي هدفه فرض النظام، إلى نوع مثير للجدل والمعارضة.

لكن كيف استطاع ابن بدير تطعيم كتابة التاريخ في القرن الثامن عشر؟

هنا تقترح علينا السجدي زيارة المشهد الأدبي العربي في تلك الفترة، للاطلاع على النماذج التي كانت متوفرة لدى زبائن حلاقنا. كانت دكاكين الحلاقة بديلاً عن المقاهي التي اغلقتها السلطنة العثمانية في أكثر من مناسبة، لما عدته أنشطة تحريضية، لذلك كان الارتباط بين المؤسستين (المقهى ودكان الحلاقة) وثيقاً؛ ولكون المقهى/دكان الحلاقة مكاناً لشرب القهوة، وقص الشعر وتبادل الأحاديث، فقد كان منصة لسرد الحكايات التي تجسدها السير، أو للحديث عن الموسيقى والرقصات ومسرحيات خيال الظل، ولذلك فقد اتخذ دكان الحلاق الموقع الذي تقاطعت فيه خطابات ثقافية متعددة، حيث جلس القيمون على النماذج النصية الأدبية الجديرة بالعلماء بلحاهم التي شذبت للتو، إلى جانب من امتهنوا سرد النماذج الشعبية المحكية. وعند هذا التقاطع تحديداً، وفي هذه البؤرة التي جمعت بين الأشكال الخطابية والاجتماعية المتباينة وحتى المتعارضة، ولد وتشكّل تأريخ الحلاق.

 

المضمون: كل شي صار منقلبا

 

لفهم كيف انقلب ابن بدير على الأشكال الكتابية للتاريخ، التي استخدمها العلماء، تقترح السجدي إجراء مقارنة بين نصه وتاريخ ابن كنان/وهو من العلماء الذين عاصرهم ابن بدي/. أولى المقارنات التي تجريها السجدي هنا تتعلق بالافتتاحية. إذ ترى أن العلماء الذين شغلوا مناصب رسمية في المؤسسات الشرعية والعلمية والإدارية داخل السلطنة، غالباً ما كانوا يعبرون عن شكرهم لواهبيهم النعم، بمناشدة النظام السياسي في بداية مؤلفاتهم، بالإضافة الى ذلك جعل المؤرخون العلماء نظام السلطنة أحد القواعد التنظيمية لنصهم، فيبدأ ابن كنان العالم وأقرب المعاصرين، تأريخه الحولي «الحوادث اليومية لتاريخ أحد عشر وألف مية» بعبارة تعلن وجود الدول. في المقابل تلاحظ السجدي ان ابن بدير يبدأ تاريخه في يومياته غير المحققة (خلافاً لتحقيق القاسمي) على نحو عاجل، وطارئ وقلق، وخال من أي شعور بالالتزام تجاه السلطة: «وفي سنة أربع وخمسين بعد الألف والماية كان أولها نهار السبت وأظهرت فيها الأعوام أنها في مدينة دمشق يظهر زلزلة عظيمة تتهدم فيها أماكن كثير وأن الرجال تقلب نسا (نساء)». هنا يلُاحظ أن الحلاق يبدا تأريخه متحدثاً بصوت العوام، الذي يرتفع كنذير شؤم متنبأً بوقوع دمار وشيك؛ وهذا لا يعني أن ممثلي نظام السلطة لا يظهرون في نصه، بل نجدهم، ليس تخليداً لذكراهم، أو الاحتفاء بإنجازاتهم، وإنما يُستحضرون للاستجواب؛ فباسم «الأصاغر» يجعل ابن بدير رجالات الدولة عرضة للمساءلة بسبب حالة الفوضى العامة، ويوضح باستمرار إهمال المسؤولين وفسادهم وإخفاقهم في تحمل مسؤولية تنظيم الفضاء العام.

ويمثل سب الدين وقمع العوام وجهين لظاهرة الفوضى التي يعزوها ابن بدير، بدون تردد، إلى إهمال الحكام وعدم اهتمامهم بشؤون الرعية. ولا تتجلى هذه الفوضى، في الطرق غير المنظمة فقط، بل في أسعار السلع التي لم تُضبط، وكذلك في اختلال الأخلاق العامة، فعلى سبيل المثال يقول ابن بدير بلغته التي تمزج بين الفصحى والعامية: «لان الغلا معلق بالشام… والمعاملة مغشوشة والفلوس غير منقوشة، والخلق نايمة ومطروشة، والنسا باحت والرجال ساحت، والحدود طاحت، والأكابر مشغولة ومروءة الرجال مغلولة وكل منهم مشغول بحاله».

يعكس ربط ابن بدير غلاء أسعار السوق بفجور العامة «النساء باحت» وخصاء الرجال «الرجال ساحت» مقدار القلق الذي ينتاب الحلاق. فالحديث المستمر عن خصاء الرجال، سواء عبر صور «رجال ساحت» أو أن «الرجال ستنقلب نسا»، يذكر ابن بدير وجمهوره من الرجال الذين تجمعوا داخل دكانه، أن الدولة مسؤولة عن الحرمان المادي، بالإضافة إلى العجز اجتماعياً. في حين نجد عند العودة لنص ابن كنان أن الرعاع والنساء الفاجرات والرجال المخصيين لا يدخلون نصه؛ ففي العالم المهذب والمنظم بفضل السلطة لا تمثل مثل هذه التجاوزات الاجتماعية تهديداً لعالم واثق من مكانته.

أما أسعار الأطعمة فموضوع آخر يتكرر في تأريخ ابن بدير؛ فهو يزودنا بقوائم الأسعار على نحو منتظم، ثم يُتبِعها دائماً بشكوى والتماس ملح. أما في تأريخ العالم ابن كنان فالحال مغاير، إذ قلما يذكر ابن كنان أسعار الأطعمة، فهو يذكرها خمس مرات فقط في تأريخه الذي يغطي فترة واحد واربعين عاما. ولا ينقل لنا ابن بدير الكثير من لحظات المرح في المدينة، فحفلة الزفاف الوحيدة التي ينقلها لنا هي تلك التي أقامها موظف الدولة العثمانية أمين الخزانة فتحي الفلاقنسي لابنته. يصف ابن بدير، الذي ربما لم يحضر الحفل، أحداث الاحتفال الذي دام سبعة أيام مستنكرا مدته ثم يختم بالملاحظات التالية: «وقد بدع في آخر يوم من الفرح، وبذلك الأمر أرادوا أشهر (إشهار) قلة الأدب وانتشروا بقبايح الأعمال وأكثروا من الفسق والضلال».

تُفضي مقارنة المؤلفة بين مضمون نصي ابن كنان وابن بدير إلى أنه على النقيض من التأريخ المنظوم حول السلطنة الذي كان يكتبه العالم والذي يورد الأحداث الرتبية العادية الروتينية على نحو منتظم، يؤرخ كتاب ابن بدير الوجود الهش في مواجهة الفقر والعنف والفوضى والتهديد الدائم بتجريد الرجال من رجولتهم وسلطتهم وامتيازاتهم. وعلى الرغم من أن النصين قد يعالجان موضوعات مشتركة، إلا أن معالجة الحلاق لها تختلف اختلافاً إشكالياً عن ذات العالم، إذ يجرّد ابن بدير التأريخ من انتظامه الدوري، ويحوّل النظرة الفوقية المصونة لنظام السلطنة إلى عالم من الفوضى والقلق، يظهر من خلال منظور دوني متزعزع. وبوصفه شهادة على تجارب الحياة، يقدم تأريخ ابن بدير الحياة كصراع مستمر ضد الصعاب، كامتحان لذكوريته ومكانته الاجتماعية وهي تجربة عاطفية غالباً ما نجدها في السيرة الشعبية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى