وجها لوجه

مارغريت أتوود: الحريّة عمل شاق وليست هديّة

“حكاية الجارية” تتربّع على قائمة الروايات الأكثر مبيعاً

بعد ثلاثة عقود من إصدارها تعود رواية “حكاية الجارية” للتربّع على قائمة الروايات الأكثر مبيعاً، بعد أن تمّ تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني ناجح، بدأ عرض موسمه الثالث هذا العام. وسبب ذلك أنّ الحاضر ما يزال يعاند حقوق المرأة ويفرض عليها خطوطاً حمراء كثيرة سبق لهذه الرواية أن وصفتها بالتفصيل. لكن لا شك أن ثمّة سبباً آخر، وهو أنّ صاحبة الرواية الكاتبة الكندية الشهيرة مارغريت أتوود (أوتاوا، 1930)، قرّرت هذا العام أن تصدر تتمّة لـ”حكاية الجارية” بعنوان “الوصايا”، وهي رواية نزلت إلى الأسواق قبل فترة وجيزة. ومعروف عن أتوود أنّها كاتبة غزيرة الإنتاج، حيث نشرت أولى قصائدها عام 1969، ومنذ ذلك الحين لم تتوقّف عن النشر، إذ يصل مجمل أعمالها إلى 60 كتاباً (بمعدّل كتاب واحد كلّ عام، بما في ذلك المقالات وكتب الأطفال والقصص القصيرة والمصورة).

تضمّنت نهاية رواية “حكاية الجارية” قدراً كبيراً من التشويق (في الحقيقة، جاءت الجملة الأخيرة من الكتاب بهذا الشكل: “هل هناك أيّ سؤال آخر؟”)، ويستمرّ هذا التشويق في الحبكة مع الرواية الجديدة “الوصايا”، التي أُحيط خبر صدورها بسرّية تامّة، منذ توقيعها لدى الناشر إلى حين الإعلان عن ترشّحها لنيل جائزة مان بوكر المرموقة. وتقع أحداث الرواية الجديدة بعد مرور 15 سنة على نهاية أحداث الرواية الأولى، وتتخلّلها شهادات ثلاث نساء: العمّة الشرّيرة ليديا، التي تحكي قصّتها الخاصة، وشابّتان أخريان مرتبطتان بـ”أوفريد”. ولمزيد من التفاصيل عن هذه الرواية في ما يلي ترجمة مقاطع من آخر حوار مع مارغريت أتوود أجري معها أخيراً في لندن:

(*) تفتتحين “الوصايا” بثلاثة اقتباسات؟

“الظروف المحيطة بنا تشبه كثيراً تلك التي سادت في الثلاثينيات والأربعينيات”

نعم، الأوّل لجورج إليوت عن الكيفية التي يُنظر بها إلى النساء، والثّاني لفاسيلي غروسمان الذي يقول إنّ اليمين المتطرّف وأقصى اليسار متطابقان، ثمّ أخيراً اقتباس لأورسولا ك. لي غين تؤكّد فيه أنّ الحرية ليست هديّة فقط وإنّما عمل شاقّ. هذا الاقتباس الأخير له علاقة وطيدة بالدوافع الّتي تجعل من جورج أورويل يحظى من جديد بشعبية كبيرة. إنّ الظروف المحيطة بنا تشبه كثيراً تلك التي سادت في الثلاثينيات والأربعينيات أكثر من أيّ ظروف أخرى تشكّلت منذ تلك الفترة إلى اليوم: سيادة التطرّف لدى اليسار واليمين، وانتشار الفكر الجماعي، والاستقطاب، والديماغوجيون الّذين يحاولون إثارة المخاوف والاستحواذ على السلطة.

(*) ما الّذي دفعك لكتابة هذه التتمّة؟

حدثت أشياء كثيرة. طوال 30 عاماً سُئلت عمّا حدث بعد ذلك، في الرواية، وما إذا كان “أوفريد” قد نجح في الهرب، أو لماذا تاه عن طريقه في ولاية “ماين”.

(*) هل كان ثمّة شيء أردتِ اجتنابه في الكتاب الجديد؟

لم أكن أرغب في أن أكون مملّة، إلى جانب ألا يكون هناك تكرار لما سبق أن كتبته، أو تحويل لأحداث المسلسل إلى رواية.

(*) في “الوصايا” تتناوب أصوات نساء من مختلف الأعمار. أيّ صوت منها كان الأكثر تعقيداً؟

الصوت الأسهل كان صوت المرأة العجوز، لأنّه من الطبيعي أن أقوم بدور ثعلب شرير قديم (تضحك). لكن الأصعب هو صوت الفتاة الأصغر سنّاً.

دائماً هناك تغييرات

(*) هل تغيّرين وجهة نظرك وأنت تكتبين؟

هناك دائماً تغييرات، لأنّك تفترضين أنّك تعرفين ما الذي تفعلين، ثم يتّضح لك أنّك لا تعرفين شيئاً، كما في الحياة.

(*) هل أحسست بأنّك تحت ضغط ما؟

“بدأت الكتابة في فترة كان الناشرون فيها يبحثون عن مؤلّفين وليس عن الكتب”

أنا متقدّمة في السنّ بالنسبة لهذا الأمر. كتّاب اليوم يشعرون بالضّغط في سنّ العشرين أو الثلاثين، لأنّ مصير الكتاب الّذي يشتغلون عليه سيكون حاسماً بالنسبة لمستقبلهم. في السابق، كان الناشرون يأخذون كلّ شيء من المؤلّف، سواء كان ناجحاً أو لا. أعتقد أنّ غراهام غرين نشر على الأقلّ خمسة كتب قبل أن يحصل من النّاشر على بعض الأرباح. فيما بعد، بمجرد أن تصبح كاتباً معروفاً، مثل غرين، يصير لكلّ عنوان من عناوين كتبك قيمة أكبر. اليوم، تُدفع مبالغ ضخمة مقابل كتب لا تنجح، فيتعثّر الكتّاب. أنا بدأت الكتابة في فترة كان الناشرون فيها يبحثون عن مؤلّفين وليس عن الكتب.

(*) كتبت أنّ هناك روايات تأسر القراء وأخرى تسحر مؤلّفيها، وحدث كلا الأمرين مع رواية “حكاية الجارية”. هل استمرّ نجاح هذه الرواية؟

نعم، بالتأكيد. هناك أعمال تقاوم اعتبارها مجرّد كتب فقط، وقد حدث ذلك مع هذه الرواية. هناك أيضاً شخصيات تنفلت من صفحات كتاب، مثل دون كيخوته، وتصير استعارةً تطوف العالم بأسره.

(*) هل هذا هو الانتصار المطلق بالنسبة لكاتب؟

لا أدري، لأنّه في النهاية قد تنتهي شخصيتك إلى التألّق في الإعلان عن معجون أسنان. قد ينتهي بك الأمر إلى النجاح الكبير لأسباب لا علاقة لها بكتابك.

سرّ شعبية “حكاية الجارية”

(*) هل ما زلت مندهشة من نجاح “حكاية الجارية”؟

لقد استندت شعبيتها على ما كان يحدث في العالم بشكل عام. وارتفعت هذه الشعبية في الولايات المتحدة، خلال الانتخابات الثلاث الأخيرة، لكن في التسعينيات كان الناس يقولون: “هذا شيء من الماضي، الآن لا يحدث شيء كهذا، لقد انتهت الحرب الباردة، دعونا نذهب للتسوّق”. من جهة أخرى، لم تعرف الرواية نجاحاً كبيراً جدّاً وقت صدورها.

(*) لقد كتبت عنها ماري مكارثي نقداً موجعا للغاية.

كانت تعاني من مشاكل صحّية في تلك الفترة، لكنّني لا أعتقد أنّها كانت ستحبّها على أيّ حال، لأنّها كانت تنتمي إلى جيل من النساء اعتقدن أنّهن تقدّمن كثيراً ولم يعدن في حاجة إلى إثارة قضية النساء. أتساءل: ماذا سيقلن اليوم؟.

(*) في “حكاية الجارية”، كان هناك بالغون فقط، لكن في الرواية الجديدة نجد ساردتين من القاصرات. هل تبعثين رسالة ما إلى الفتيات الشابات؟

من المثير جدّاً مشاهدة ما يحصل للجيل الثاني عندما يحدث تغيير كبير في المجتمع. ماذا حدث لأطفال البلاشفة أو أبناء المتشدّدين في الولايات المتحدة؟ الحماس عادة هو من نصيب الآباء. في الثمانينات من القرن الماضي، تساءلت فتيات نسويّات عن سبب ذلك. وهذا هو الوضع في “الوصايا” بين الشخصية المركزيّة وأمّها، التي ترى أنّها متطرّفة للغاية.

(*) هل العلاقة بين الأجيال، خصوصاً بين النساء، أكثر صعوبة؟

نحن نهتمّ أكثر بحكاية النساء اللّاتي يقاتلن بعضهن البعض، متجاهلين أنّهن يقاتلن بعضهن البعض طوال الوقت، وتكفي قراءة شكسبير للوقوف على ذلك. لكن الرجال، الّذين ينتمون إلى الجماعة المهيمنة، يعتبرون أنفسهم أفراداً. في المقابل، إذا كنت خارج هذه الجماعة، كما هي حال النساء، فسيتم اعتبار ما تفعلينه شيئاً معتاداً في جماعتك وليس كحالة خاصّة ومعزولة.

(*) ما رأيك في الأجيال الجديدة؟

لقد تمرّدوا ضدّ الانقراض، وأنا أؤيّد ذلك تماماً. إنّهم يجبرون السياسيين على قبول هذا الأمر. لقد جاء تمرّدهم في لحظة أدرك فيها بقيّة السكان أنّ حالة الطوارئ المناخية صارت واقعاً حقيقياً. بينما يستعدّ الأطفال الّذين تقلّ أعمارهم عن سنّ العشرين لتشديد السيطرة على الأسلحة في الولايات المتّحدة. وعلى الرغم من وجود فروق دقيقة واستثناءات، فإنّ المراهقين اليوم يحتجّون، في حين أنّ الذين أعمارهم تتراوح بين الثلاثين والأربعين عاماً لم يفعلوا ذلك في مراهقتهم، لكن لا ينبغي انتقادهم على ذلك، لأنّهم لم يعيشوا مثل هذه اللحظة التاريخية من قبل.

(*) هل مصطلح “نسوية” صار مُسيئاً؟

إذا قمت ببحث على الإنترنت فستحصلين على أكثر من 70 تعريفاً لهذا المصطلح. وهذا يحصل حتّى في مجال العقائد، ما الّذي نقصده بـ”المسيحية”؟ هل هي الأرثودوكسية اليونانية؟ أم بابوية روما؟ أو عيد العنصرة؟ أم نقصد الناس الذين يرقصون مع الثعابين؟ لا يمكنك وضع كلّ هذه الأشياء في حقيبة واحدة. الأمر نفسه ينطبق على” النسوية”، إنّها متعدّدة للغاية، بحسب الأسئلة المطروحة بخصوصها. الحقيقة هي أنّ هناك كلّ أنواع النساء. ودعونا لا ندّعي أنّهن نوع من الملائكة الّتي تحلّق بين الغيوم. لديهن عيوب وإخفاقات مثل الآخرين، لماذا لا يحقّ أن يحصل لهنّ ذلك أيضاً؟

عن “الوصايا”

(*) في “الوصايا” إشارات إلى العديد من الروايات.

كلّها مدرجة ضمن قائمة الكتب المحظورة: “آنّا كارنينا”، “الفردوس المفقود”، وروايات كوليت.

(*) هل ألهمتكِ أعمال كوليت؟

لا أعرف ماذا يعني الاستلهام. هل يعني ذلك، بطريقة ما، أنّني قرأت لها كتاباً وشعرت بأنّني أستطيع كتابته أيضاً؟ لقد فعلت جين أوستن ذلك من قبل. كان عالم كوليت بعيداً عن المكان الّذي نشأتُ وترعرعت فيه. حتّى سيمون دي بوفوار وكتابها “الجنس الثاني” كان مهمّاً جدّاً بالنسبة للنساء الفرنسيات في سنّ معينة، وربّما بالنسبة للمرأة الأوروبية، لكنّه لم يكن كذلك بالنّسبة للنساء الأميركيات. وقد كتبَت “بيتي فردي” أيضاً لجيل آخر لا أنتمي إليه.

(*) فيمَن تفكّرين أثناء الكتابة؟

لا أحد من الكتّاب يعرف مَن سيقرأه. إنّها واحدة من صفات الأدب. حتّى على شبكات التواصل الاجتماعي، لا تعرفين من همّ قراؤك، لأنّ الواحد منهم قد يضع صورة قطّ على بروفايله ويمكن أن يكون اسمه “سجن غاضب” أو أيّ شيء آخر. يمكن للقارئ أن يكون أيّ واحد، ويتحدّث بأيّ لغة. أنا محظوظة كثيراً.

(*) يبدو أنّه في السنوات الأخيرة صار هناك اهتمام أكبر بالبحث عن الكاتبات واكتشافهنّ؟

نعم، يتمّ نشر مجموعة كبيرة من الكتب لنساء من بلدان مختلفة وتجارب متباينة. حدث هذا أيضاً في السبعينيات ثمّ توقف. إنّها موجة تظهر وتختفي. من الطبيعي أن نقول إنّنا في حاجة إلى التغيير، ثمّ نقول بعد ذلك إنّه كان أكثر من اللّازم.

(*) هناك أيضاً إعادة قراءة لأعمال فيليب روث، مثلاً، الّذي وُصف مرّة بأنّه عدوٌّ للمرأة.

أعتقد أنّه كان مؤرّخاً مخلصاً لعصره (تضحك). هؤلاء الّذين يردّدون هذا القول ينظرون إلى ما كتب بعيون الحاضر، وبشكل مبالغ فيه. لا يمكنك أن تتوقّع أن يكون جميع الكتّاب يفكّرون مثلك.

(*) إنّها “حروب أخلاقية” يستغلّون الفرصة لإثارتها في مجال الأدب والفن؟

“ثقافة الغضب المفرط تلقى استنكاراً اليوم”

إنّها هديّة إلى اليمين. كلّما حدث ذلك أكثر كلّما ازدادت الرقابة أكثر، وحصل اللّيبراليون المتطرّفون على ذخيرة جديدة. إذا كنت تريدين أن تطلقي النّار على قدميك، اسلُكي هذا الطريق، بينما المطلوب هو التوجّه إلى اليسار الّذي بإمكانه القضاء على الرقابة الأخلاقية. لقد شاهدنا ذلك من قبل، لنتأمّل الستالينية. يجب أن نقرأ المزيد من التاريخ. لقد بدأ الأمر على هذا المنوال، ظنّوا أنّ عليهم التراجع عمّا فعله الآخرون. أقول لمن يدعو إلى “حرق كلّ شيء”: عليك أن تسأل عمّا تنوي استبداله. لأنّه ما إن يبدأ الحريق، ستكون الضحيّة القادمة هي أنت، لأنّك أسَّستَ لسابقة. على أيّ حال، أعتقد أنّنا تجاوزنا بالفعل هذه المرحلة وأنّ ثقافة الغضب المفرط تلقى استنكاراً اليوم.

*أجرت الحوار أندريا أغيلار ونشر في جريدة “الباييس” الإسبانية في أيلول/سبتمبر 2019.

ترجمه عن الإسبانية: نجيب مبارك

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى