أبحاث

عن البعث السوري وإقباله على علماء الدين بحرارة/ عبدالله حسن

 

 

في مقال سابق في “درج”، وللمرة الأولى، حاولت أن أقتطع بشكل طولي وبإنصاف أحداثاً عشتها، أعتقد بأنها سوريّة أكثر مما ينبغي في مثل هذا الوقت على الأقل، إذ يتحتم ألا يتم التكتّم عنها، وذلك قبل أن يستدرجني الموقع بعد ذلك إلى الدخول أعمق، والحديث بتفصيل أكثر، خصوصاً عن تلك الدار التي تلقيت فيها علوم الشريعة الإسلامية 7 أعوام في مدينة «منبج» شرق حلب.

تعتقد خلال بداية اكتشافك العالم المحيط (سوريا في هذا المقال) أنك جديد وفريد؛ لكن ما أن تبلغ سن الرشد، وتبدأ رحلاتك لتخطي دوائر الأسرة، والعائلة، والعشيرة، والمدينة، والدولة، فتزورَ بلداً آخر مختلف مثلاً، تنفتحَ على الذاكرة الجمعية لأناس آخرين، أو تطالع كتباً جاءت من مكان بعيد، حتى يتضح لك كم كنت جزءاً من سياق زماني ومكاني له عمره وتاريخه وذاكرته وإشكالياته الخاصة، وأنّ مجيئَك المصادف، ما هو إلا ورطة داخل قصة حياة أناس كثر يجب التعامل معها ومعهم، وأن سعيَك الفرديّ المتواصل والمضني إلى الفهم، سيظلّ موظَّفاً ومحكوماً في هذا السياق الذي أُقحِمْت فيه، ما لم تعاينه من مسافة كافية، وتتجاوز بإدراكك إياه حدودَ دوائرهِ الكبرى.

حين مات حاكم سوريا الديكتاتور الكبير حافظ الأسد كانت أيام قليلة تفصلني عن إتمام عامي الحادي عشر آنذاك، اقتصَرت معرفتي به على ما يعرفه كل من هم في سنّي، لقد مات الرجل الذي كنا نردد اسمه في مدارسنا كل يوم، وفي عموم البلاد… ملايين الأصوات كانت تصرخ كلها في الساعة السابعة والنصف صباحاً: «قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد».

أتذكر كيف كانت عائلتنا تشاهد على التلفاز وفود المعزّين الأميين، لم يكن والدي قادراً على إخفاء سعادته وغضبه معاً، ففي كل مرة ظهرت فيها على الشاشة مشاهد لشخصيات سورية يعرفها، تمتم: «اللصوص.. كلهم لصوص»، كان حرف الصاد يخرج من بين أعلى ثناياه السفلى مفخّماً (لصوص) نعم هكذا… والدي شيوعي سابق، تصوَّف حين انهار الاتحاد السوفياتي، ولم يكن يعلم حين أرسلني إلى «منبج» للدراسة في «دار الأرقم بن أبي الأرقم الشرعية» أن مدير الدار آنذاك أحمد عيسى الدكتور في الشريعة الإسلامية يحتفي بصورة فوتوغرافية تجمعه بحافظ الأسد ولصوص آخرين داخل مكتبه، إضافة إلى صورة تجمعه بمفتي سوريا آنذاك الشيخ أحمد كفتارو، صديق الأسد، وأن عيسى هو أحد أعضاء مجلس الشعب الذين يهزأ بهم والدي باستمرار: «موافقون دائماً».

كنت أبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً تقريباً حين اجتزت اختبار القبول في الدار الشرعية؛ لك أن تتخيل بناء من ثلاث طبقات شاهقة على شكل نصف مربع، فيها الكثير من الصفوف (نحو 15)، مكتبة عملاقة، مطعم يتسع لحوالى 700 شخص، طباخون، وعمال تنظيف، ثلاث قاعات امتحان يبلغ طول كل واحدة نحو 150 متراً، ثمانية مهاجع للأسرّة الثنائية، حمامات عملاقة، أماكن للوضوء، مسجد رهيب، تدار كلها بنظام عسكري صارم جداً جداً يحكمه الوقت، أوقات للصلاة، لوجبات الإطعام الثلاث، للدروس، للمطالعة، ولأوقات النوم؛ بينما يتاح للطلاب مغادرة المدرسة في وقت واحد وهو يوم الجمعة لزيارة الأهل، فيما يتوجب على من يعيش ذووهم في مدن بعيدة البقاء في الدار إلى جانب الطلبة الأجانب من تركيا، الأردن، جزر القمر، جيبوتي، مالي، الصين، داغستان، إندونيسيا، ماليزيا، تايلاند وغيرها.

المنهاج التدريسي في الدار مزدوج، بمعنى أن الطالب يتلقى التعليم وفق منهاج حكومي، يقابل الصف من السلم الدراسي في المدارس الحكومية، إضافة إلى عشرات الكتب الأخرى التي ينتقيها المشايخ (خريجو كليات شريعة من جامعة الأزهر وغيرها، أقلهم حائز على ماجستير) بمعدّل يتراوح بين 18 حتى 24 كتاباً في السنة الدراسية الواحدة، عدا تحفيظ القرآن، منها العقيدة، الفقه، أصول الفقه، التفسير، الحديث، مصطلح الحديث، المواريث، السيرة النبوية، الخِطابة، الأخلاق، المنطق، اللغة العربية من «ألفية ابن مالك» والشروحات عليها، وكتب منهجية أخرى، وكتب منتقاة كإحياء علوم الدين للغزالي وغيرها… إلخ.

لكل صف شعبتان تتشابهان في المنهاج عدا الفقه، تَدرُسه واحدة على مذهب «الشافعي»، والثانية على مذهب «أبي حنيفة»، ما من دراسة للفقه على مذهب «مالك» الذي ينتهجه المسلمون في ليبيا وغيرها من بلدان المغرب العربي، ولا على مذهب «ابن حنبل» الشهير بشدّته… يرى الرجل أن جار المسجد الذي لا يصلي في المسجد يُقتل، ويستدل بحديث صحيح، بينما يستدل معارضوه بحديث آخر صحيح أيضاً… لن يصل الطرفان إلى أي نتيجة بالتأكيد، فالأمر برمّته محض سفسطة ظلّت تُحشى وتُحشى طيلة 14 قرناً بكل أنواع الترف اللغوي.

يتم إطعام الطلَبَة ويُدفع للأساتذة والموظفين الآخرين من أموال المساعدات التي يقدمها الأغنياء من سوريا والدول العربية؛ هكذا قيل، إذ لم تكن الحكومة تعترف بالشهادة الثانوية الصادرة عن الدار، علماً أنها مرخَّصة، خلافاً لبقية الدور والمعاهد التي توليها الحكومة اهتماماً ورعاية مالية منذ عهد الأسد الأب… إلى أن جاء عام 2006 حيث بات يتردد بين الطلاب أن «الدولة» ستقوم بدعم الدار وقبول حمَلَة شهادة الثانوية الشرعية في جامعاتها، على أن يتم توحيد الكتب الشرعية في المعاهد والدور السورية كلها، وهذا ما تم بالفعل.

بعدها بعام (سنة 2007) أذكر أن عشرات حافلات النقل اصطفت أمام الدار، أخرج المدير الطلبة كلهم عدا الأجانب، وأخذوا بنا إلى مدينة حلب، كانت آلاف الجموع تقف قرب قلعتها الشهيرة، تحمل صوراً لبشار الأسد، وأعلام سوريا وحزب البعث، كانوا يصرخون بشدة تأييداً، فيما اعتلى منصّةً كانت قد تموضعت في المكان الشيخان «صهيب الشامي» والمفتي الحالي «أحمد بدر الدين حسون» وهما يحثّان الجموع بوجوب «تجديد البيعة» للقائد الشاب على حد تعبيرهم… نعم، لم يكن منا نحن الطلبة من قد تجاوز بعد عامه التاسع عشر؛ الامتياز في سوريا هو لمن يصرخ أكثر ويحض غيره على الصراخ، وهكذا فميدان التنافس هو المنبر الأعلى، وأدواته الدعوة، ونحن (كـ علماء دين) الأكثر خبرة بلا منازع.

في «دار الأرقم الشرعية» الكثير الكثير من حكايا الذكور التي يطول الحديث عنها، ذكور من مختلف الأعمار والأشكال والأطوال والألوان والأعراق ومن شتى بقاع الأرض؛ حين تراهم في السابعة والنصف صباحاً يصطفون في باحتها لقراءة سورة «الفاتحة» والدعاء لولي الأمر بالسداد قبل التوجه إلى الصفوف، يرتدون “الكلّابيات” والطواقي البيضاء أو عمامات من 13 متراً من القماش الأبيض، تصيبك الرهبة، ناهيك عن أن تكون واحداً منهم، تستمع إلى قصصهم، قصص عن السرقات، قصص عن الجنس بين المثليين الذين تم فصلهم، قصص عن انتحار بعض الطلبة، أحدهم ألقى بنفسه من سطح البناء الشاهق إلى الأرض في الساعة الثالثة صباحاً ولم تتلقّفه أي أذرع، وقصص عن طلبة كُسرت أيديهم جراء عقوبات تلقوها من أحد المشايخ لإخلالهم بالآداب العامة.

لكن، ما فعله الأسد الأب قبل كل هذا هو الأدهى والأكثر إثارة للحديث عنه حالياً، إنه السياق الذي أقحمت فيه، واستفتحت الحديث عنه في بداية المقال… لقد مدّ الرجل يده السخيّة إلى علماء الدين منذ بداية حكمه، ولم يفوّت فرصة لتكريمهم والعناية بهم؛ في عام 1973 قدّم تبرعات شخصية كبيرة للمدارس الشرعية والمؤسسات الخيرية في محافظتي حماة وحمص، وفي العام الذي يليه رفعَ تعويضات أئمة سوريا الـ1138 ومدّرسي العلوم الشرعية الـ252 وخطباء المساجد الـ610 والمؤذّنين الـ1038 وقرّاء القرآن الـ280، ثم زاد تعويضاتهم عام 1976 ومرة أخرى عام 1980، وخصص عام 1976 مبلغ 5.4 ملايين ليرة سورية لبناء مساجد جديدة بتوجيهات مباشرة منه، وكان في كل عام يتناول الإفطار في يوم معين من شهر رمضان مع أهم «العلماء»؛ وكان الأسد الابن بدوره قد صرّح في خطابه عام 2013 خلال ذكرى الجلاء الفرنسي بأن سوريا منذ عام 1970 بنت 18 ألف مسجد، و220 مدرسة شرعية. لك أن تتخيل!

دستور سوريا عام 1963 كان ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، بينما نص مشروع دستور سوريا البعث عام 1973 على أن «الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع»، لم يعترض أي من علماء الدين في مجلس الشعب على ذلك عدا الشيخ «حسن حبنكه» الذي أثار بلبلة، ليُدخل الأسد تعديلاً يقول إن «دين رئيس الجمهورية هو الإسلام» مصرّاً على رفض «كل تفسير متخلف للإسلام يكشف عن تزمت بغيض، وتعصب مقيت، فالإسلام هو دين المحبة والتقدم والعدالة الاجتماعية، وهو دين المساواة بين الناس»، ولمواجهة التهم التي كان يلقيها المتعصبون في وجهه بانتمائه إلى طائفة «من أصحاب البدع» أصدر 80 من رجال الدين العلويين آنذاك بياناً رسمياً يؤكدون فيه أن كتابهم المقدس هو القرآن، وأنهم مسلمون شيعة من الاثني عشرية، وقد صادق على بيانهم المفتي الجعفري الممتاز في لبنان «عبد الأمير قبلان»، وأكد الإمام «موسى الصدر» رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان من جانبه على «الوحدة المذهبية» للعلويين مع الشيعة.

لقد كان الأسد مقبلاً على علماء الدين بحرارة، لتلافي الاضطرابات في الدولة أولاً، ومحاربة الإخوان بطريقة سلمية ثانياً، وتعزيز دوره في الحكم بإضفاء الشرعية الدينية المثلى على نفسه ثالثاً، ولقد بادروه هم المشاعر ذاتها، خصوصاً الأغنياء منهم، لكن يظل الأكثر مجاملة للأسد هو المفتي (منذ عام 1965) ومدير معهد «أبو النور» للعلوم الشرعية «أحمد كفتارو»، إضافة إلى أتباعه (منهم أحمد عيسى، مدير دار منبج الشرعية)، وقد صرح ذات مرة بنفسه بأنه صديق مقرّب من حافظ الأسد، وأن معرفتهما كانت حين كان حافظ لا يزال ضابطاً برتبه «مقدّم»؛ يشتهر كفتارو بأنه «بليغ الخطابة» و«المجاهد في سبيل تعزيز الانسجام بين المسلمين والمسيحيين» والمفتي بـ «فريضة ووجوب إعادة انتخاب الأسد رئيساً» عام 1991.

وهكذا كانت دار منبج الشرعية ببنائها، بمدرائها، بمموليها، بطلابها، بي، جزءاً وامتداداً لهندسة حزب البعث في سوريا على مر عقود، عبر إسلام معتدل، منفتح على الآخرين لغرض (الهم المشترك، الواجب المشترك، العدو المشترك)، يواسي انكسارات المرء في دولة قمعية هي من بين الأسوأ في العالم، ويحضه دائماً على الدعاء، الدعاء جيئة وذهاباً، من دون أي تصوّر واضح للمستقبل، إسلام كل همه الحفاظ على الوضع مثلما هو عليه، والخشية من أن تزداد الأمور سوءاً، ليس إلا، إسلام حين قرر مجابهة الأسد مطلع عام 2011 سعى إلى تفنيد كونه مسلماً، قبل القول بأنه ديكتاتور!

درج

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى