سياسة

الروزنامة السورية المثقوبة/ مرزوق الحلبي

 

 

ليس في الروزنامة السورية يوم من دون ذكرى. يوم لمجزرة داريا ويوم لسارين الغوطة الشرقية ويوم لكلور الغوطة الغربية وجوْبر ويوم لتطهير القصير وأيام لدرعا وأخرى لحلب وخان شيخون وحماة والسويداء، وما تبقّى لليرموك ومعضمية الشام. الوقت السوريّ مثقوب بكل ماكنات الحرب الممكنة. والمكان السوري أيضاً مثقوب بالماكنات ذاتها. والديموغرافيا السورية مثقوبة في مواضع عدة بعد اقترع وتهجير الملايين. سورية، كيان تداعى من شدة الثقوب والمِحن كأنه غير كائن إلا بالإسم. أما الحاضر في هذا التاريخ فهو كل أسماء الطواغيت ومفاعيلهم.

الروزنامة السورية صارت مقتلة واحدة منذ العام 2011 أو هوّة سحيقة يُرمى فيها كل شيء طيّب من بشر وحجر ومواعيد ووجوه ومصائر ومعانٍ. حصل هذا ببثّ مُباشر وبمعرفة تامة من هذا العالم الذي يبدو في مثل هذه المنعطفات أصم وأبكم وأعمى. فالماكنات الإعلامية كلّها انشغلت بالذي حصل ليس لتوقفه أو تحدّ منه بل لحصوله باعتباره مادة إعلامية دسمة لا مجازر على مدار اليوم. وحتى نكون مُنصفين علينا أن نقرّ بحصول الأمر ذاته في مواقع أخرى ـ إعلام ينشغل بالمجازر كمواد إعلامية لا ككارثة ينبغي وضع حدّ لها. وهنا نُشير إلى فارق في سلوك الإعلام ذاته مع مواضع الكوارث الطبيعية. هناك يكترث الإعلام ويتجنّد (بتفاوت) لوقف النزيف واستدعاء الإغاثة والترويج لقِيَم الإنسانية وواجبات الإنسان تجاه أخيه الإنسان. ربّما لأن هناك إجماع أو شبه إجماع للبشرية ضد الطبيعة وكوارثها. وهو أمر غير قائم البتّة في مسائل النزاعات بين البشر أو بين الطواغيت. هذه مسألة فيها نظر!

عندما أعود إلى التاريخ والمحاكم التي انعقدت لمقاضاة مجرمي الحرب، وعندما أنظر إلى تجربة محكمة نورنبيرغ (لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين) ومحاكمات مجرمي الحرب في يوغوسلافيا ورواندا وبعض الدول الأفريقية، وعندما أقرأ بنود دستور المحكمة الجنائية الدولية. لا أستبعد أن يُساق مجرمو الحرب في سورية آل الأسد إلى المحاكمات تباعاً في يوم من الأيام. وأتمنى ألا يفلت منها مجرم صغير أو كبير سوري أو إيراني أو روسي أو لبناني أو أفغاني أو عربي أو غربي. في أي مدينة سورية ستنعقد المحاكم؟ فكلّها منكوبة بالطواغيت وجرائمهم. قد لا تكفي كلُّ المدن السورية التي دُمّرت أو تلك الباقية جزئياً لاحتضان المحاكمات لكثرة الجرائم والمجرمين الفاعلين فيها. حلب قد تكون مناسبة جداً ودرعا أيضاً، والسويداء وحماة ودير الزور وآثار تدمر وبُصرة الشام. كلّها مُدن مناسبة لاحتضان محاسبة المجرمين وإن كان الزمن الدولي مشاكساً يجري باتجاه مُعاكس. فهي حقبة أفلتت فيها الطواغيت من حدودها خِدمة للحيتان الكبيرة التي تحميها وتدافع عنها وتمدّها بالحياة. وهي الحيتان التي تسبح في تيارها أسماك صغيرة ملوّنة تهتف وتلتقط الصور مُعجبة بالجبروت الذي أتى على أجمل الناس والأشياء في سورية!

اصطفاف الدول، لا سيما العُظمى، تبدّل بحيث يسمح للمقتلة السورية أن تتواصل وللمجرمين أن يفرّوا مع الجثث أو مع ساعات يد ضحاياهم أو بعض ما عفّشوه من بيوت الغوطة. قد يطول هذا الفرار وقد يقصر- الأهمّ هو أن يصرّ الإنسان فينا على إنسانيته وعلى موقفه كي يكون العالم جاهزاً في يوم ما إلى إعلان المحاكمات وتسمية القُضاة وإصدار الأحكامِ وتنفيذها. الهمّ أن يظلّ الضمير والعقل يقظيْن تماماً كي تتمّ قبل وبعد محاسبة حُماة هذه المقتلة الذين يفتحون أقبية بيوتهم للتستّر عن المجرمين وجرائمهم وغنائمهم. في وجه المقتلة لا بدّ لنا من شد أزر إنسانيتنا فهي القادرة في يوم ما على المساءلة والمحاكمة. وآمل أن يُمهلنا الوقت ويتسع المكان على رغم الثقوب التي أحدثته فيهما ماكنة الطواغيت وبراميلهم.

الحياة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى