أبحاث

هل الذين يرتكبون الجرائم الكبرى بشرٌ مثلنا؟/ سمير الزبن

 

 

بين حين وآخر يُبلّغ النظام السوري أهالي المعتقلين أن ذويهم قضوا في السجن ويطلب منهم شطبهم من السجل المدني. في المرة الأخيرة، لم يُبلّغ النظام الأهالي، إنما أوعز إلى السجل المدني بشطب أسماء آلاف المعتقلين ممن قضوا في السجون، وبات من يريد أن يعرف مصير المعتقل خاصته، يستخرج بياناً عائلياً، وهو في كل الحالات لن يكون متأكداً من حياته أو مماته. وقد سبق لأهالي المعتقلين أن بحثوا عن ذويهم في الصور المرعبة التي نشرها مَن عُرف في حينه باسم «قيصر»، والذي نشر آلاف صور الجثث لآلاف المعتقلين.

ما نعرفه اليوم عن المذبحة السورية قد يكون قمة جبل جليد الجرائم المرتكبة بحق السوريين، فلنا أن نتخيل أي هولوكوست يمر به السوريون على يد النظام المجرم في دمشق منذ أكثر من سبع سنوات، من دون أن يرف للعالم جفن، وإلى متى سيستمر؟!

تبعث فكرة القتل المتمادي والعبثي على الذهول، ليس بسبب وحشيتها فحسب، بل بسبب ضعف الإجابة التفسيرية لهذا السلوك، ورفض العقل البشري السوي الإقرار به بوصفه واقعاً يستمر في واقعيته المرعبة. وماذا عن نوعية البشر التي تَرتكب هذه الجرائم، بوصفهم آلات قتل جهنمية بيد الطاغية، أدوات لفرم البشر بلا رحمة وبلا رفة جفن؟ من أين جاءت كل هذه القسوة؟ أين تربى هذا الإجرام السادي المنفلت من عقاله؟ أي منظومة قيمية في غاية التشويه أنتجت هذه الوحوش البشرية من مصاصي دماء بشر مثلهم؟ هل تفسر «عادية الشر» التي كتبت عنها حنة أرندت في كتابها «إيخمان في القدس»، والذي يحمل عنواناً فرعياً هو «تقرير عن عادية الشر»، الوضعَ السوري؟ شكّل إيخمان في نظر أرندت نموذجاً للإداري التكنوقراطي الذي يرتكب أبشع الجرائم بضمير مرتاح من دون أن يرف له جفن بوصفه جزءاً من الآلة. ينزع تعبير «عادية الشر» الذي استخدمته أرندت الشيطنة عن الجناة والقتلة، مصورة إيخمان موظفاً بورجوازياً تافهاً، وليس سادياً أو شاذاً كما حاول الادعاء الإسرائيلي أن يصوره، بل شخصاً عادياً تماماً، ومرعباً في عاديته. لم ترَ أرندت في إيخمان تجسيداً للشر، بل اعتبرت أن الكارثة تكمن في قدرة النظم الشمولية على تحويل البشر إلى محض «منفذين» و «تُروس» في الآلة الإدارية لدولة البطش، أي تجردهم من إنسانيتهم وتجعلهم منفذين للشر بوصفه الأمر الطبيعي الذي يجب عليهم القيام به.

ليس التحليل الفكري وحده هو الذي يتحدث عن تحول البشر تُروساً في آلة الدولة الشمولية المدمرة، فعلم النفس بدوره يدعم هذه العادية للشر. بعد الحرب العالمية الثانية، تم إجراء العديد من التجارب والأبحاث النفسية لإيجاد أجوبة مقنعة عن كيفية اتباع الإنسان أوامر قد تعتبر غير أخلاقية أو إنسانية.

كان من أشهر هذه التجارب تجربة العالم النفسي الأميركي ستانلي ملغرام مطلع الستينات، وفيها قام بتجنيد متطوعين مقبولين من الناحية الثقافية والاجتماعية، وقام بتوزيع الأدوار عليهم من دون أن يدري المتطوعون الغرض الرئيسي من التجربة. قام ملغرام بوضع أحد الأشخاص في غرفة مغلقة بحيث لا تمكن أحداً رؤيته، وأعطى لهذا الشخص تعليمات بأن يخطئ بصورة متعمدة في هجاء بعض الكلمات. على الجانب الثاني من الغرفة كان هناك شخص مزود بقائمة من الكلمات التي طلب منه أن يلقنها للشخص الموجود في الغرفة، ليقوم هذا الأخير بتهجئتها بالصورة الصحيحة، وإذا أخطأ فإن على السائل أن يضغط على زر يؤدي إلى صعق الشخص بشحنة كهربائية، وتُزاد كمية الشحنة في كل مرة يرتكب الشخص خطأ إضافياً. في الحقيقة، لم تكن هناك أي جرعة كهربائية، لكن السائل لم يعرف ذلك، والشخص الموجود في الغرفة كان يتصنع الصراخ من الألم كل مرة يضغط السائل فيها على الزر. لم يكن لكل المشتركين أي مانع من تنفيذ هذا الأمر، ما أدى إلى استنتاج أن للإنسان نزعة باتباع الأوامر إذا ما اعتقد أنها صادرة عن أشخاص مسؤولين، ولو كانت هذه الأوامر منافية للمنطق.

مرعبة فكرة «عادية الشر»، أي أن الشر مقيم بيننا، في منازلنا، بين أصدقائنا، جيراننا، في البشر البسطاء الذين يسيرون في الشارع، كل هؤلاء يمكن تحويلهم تروساً في آلة القتل، يمكن أن يذبحوني أو أذبحهم في أي وقت. لكن لا، فمهما كان حجم الإجرام، فإنه لا يمكن القبول بعادية الشر، ولا يمكن القبول بأن البشر يرتكبون جرائمهم بوصفهم جزءاً من آلة كبيرة. هل كان يمكن الضحايا أنفسهم أن يكونوا قتلة؟! لا يمكن عكس المواقع في التاريخ الحي، القتلة هم القتلة والضحايا هم الضحايا. وإذا كان الضحايا لم يختاروا موقعهم، فإن القتلة اختاروا موقعهم، وتمترسوا فيه، خاصة بعد سبع سنوات من الدم السوري النازف. اختار النظام أن يمضي في مذبحته إلى النهاية، واختار من حوله أن يحموا النظام بكل ثمن، وإذا كانت الوحشية الدموية هي النتاج الطبيعي للتمسك الكلبي بالسلطة، فإن الشر لا يمكن فصله عن السلطة ولا عن القتلة المندمجين في هذه السلطة، فهم لا ينفذون المذبحة فقط لأنهم تروس في آلة، بل لأنهم جزء من الآلة ذاتها ومصالحهم مرتبطة بها.

من الممكن الحديث عن مجندين برتب منخفضة أنهم أسرى آلة الدولة، لكن لا يمكن أن ينطبق ذلك على رئيس فرع أمني، فهو جزء من آلة صممت أصلاً من أجل القتل، واختار أن يكون جزءاً أساسياً من هذه الآلة، ولا يغير من هذا التكوين تفاهة من يقف على رأس هذه الآلة: رئيس قادته الصدفة لأن يتحكم ببلد كأنها لعبة أطفال. قد تكون الصدفة أسوأ عامل موضوعي في تاريخ البلد، وهذا ما ينطبق على الوضع السوري في ظل رئاسة بشار الأسد.

الحياة

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى