مراجعات كتب

سيمور هيرش في «كاتب صحافي: ذكريات»: المسيحيون الصهاينة نفذوا ووترغيت/ سمير ناصيف

 

 

ماذا يعني العمل الصحافي الحر؟ هل يعني التزلف لأصحاب النفوذ وقادة الدول والمجموعات التي تنفذ جرائم بحق الإنسانية؟ أو انه السعي للارتقاء وتحقيق الكشف الموثق عن الحقائق سعياً للدفاع عن القيم الأخلاقية ولتحقيق العدالة للشعوب المعتدى عليها والتي ترتكب الجرائم والمجازر في حقها؟

لعل هذا من أهم ما يتناوله الصحافي الأمريكي البارز سيمور هيرش في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان: «كاتب صحافي: ذكريات» الذي يورد فيه بالتفصيل مواقفه الكاشفة لتجاوزات خطيرة ارتكبت ولم يحاسب مرتكبوها.

هيرش، صاحب جائزة «بوليتزر» للصحافة الاستقصائية في سبعينيات القرن الماضي بعد فضيحة مجزرة «ماي لاي» التي ارتكبت في حرب فيتنام، وهو أيضا الصحافي الذي تجرأ على نشر صور عمليات تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب في العراق ومقابلة مجندين أمريكيين أشرفوا على تنفيذها، قرر ان يروي في هذا الكتاب سيرة عمله الصحافي الاستقصائي في السنوات الخمسين الماضية. وأحدثت مقالاته في صحيفتي «نيويوركر» و»نيويورك تايمز» وغيرهما ضجة كبيرة كونه جمع معلوماته من أماكن الاشتباكات الخطيرة وزار بعض البلدان الغارقة في الحروب والحروب الأهلية وقابل قادة وجنودا ومقاتلين وضحايا قبل فضحه الجهات المسؤولة عن العذاب والدمار في العالم بالأدلة والبراهين.

أهم فصول هذا الكتاب هو الأخير والذي سماه «حرب أمريكا على الإرهاب» بالإضافة إلى الفصول الستة التي سبقته والتي تناول بعضها الازدواجية في مواقف وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر ودوره السلبي في فضيحة ووترغيت التي أدت إلى استقالة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون من منصبه الرئاسي عام 1974.

ومن أهم ما ورد في الفصل الأخير، ان مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، السابق جون برينن حاول منع نشر المقال المطول الذي كتبه هيرش عن عملية قتل قائد منظمة القاعدة السابق أسامة بن لادن والذي أشار فيه إلى انها كانت منسقة مع الاستخبارات الباكستانية «ISI» في وقت كان فيه بن لادن شبه مقعد وصحته متدهورة جداً وكان فاقداً منصبه القيادي ويخضع لمراقبة الاستخبارات الباكستانية بعد اعتقاله عام 2006.

وفضح هيرش في مقاله هذا إشراف برينن وليون بانيتا ووزارة الخارجية الأمريكية آنذاك بقيادة هيلاري كلينتون على هذه العملية التي كان هدفها إعلاميا أكثر من كونه أمنياً، سعيا لإعادة انتخاب باراك أوباما رئيساً نهاية عام 2012 وتأمين أكثرية للحزب الديمقراطي الأمريكي الذي سيكتسب المزيد من الشعبية لنجاحه في مكافحة الإرهاب.

ويقول في الصفحة 327 ان جون برينن، الذي رُقي إلى منصبه كمدير للاستخبارات بعد ان كان مستشاراً لمكافحة الإرهاب، نجح في ممارسة نفوذه وسلطته على «نيويوركر» التي كان يرغب هيرش في نشر مقاله فيها، فاضطر إلى نشر مقاله المطول عن هذا الموضوع في مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس». علما ان برينن شن ويشن حملة مدعومة من قادة أمنيين أمريكيين سابقين ضد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لتدخله في قمع الحريات في أمريكا مما أدى إلى أن سحب ترامب منه حصانته التي كانت تسمح له بالاطلاع على التقارير الأمنية السرية.

وبعد هذا المقال، نشر هيرش في المجلة البريطانية نفسها ثلاثة مقالات.

وبالرغم من أنه واجه انتقادات من جهات متعددة لمقابلته قادة يعتبرهم كثيرون في أمريكا والغرب إما يمارسون أو يشجعون الإرهاب، فهذا الأمر لم يمنعه من ممارسة مهمته الصحافية والمخاطرة بالسفر إلى بلدان ومناطق قد يتم خطفه واحتجازه أو قتله فيها.

فقد أجرى مقابلة في آب/أغسطس عام 2003 مع الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله بعد وساطة المسؤول الأمني الألماني اوغست هانينغ الذي أشرف على عملية تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل. وسأل نصر الله في هذه المقابلة ماذا سيكون موقفه إذا وقّعت القيادة الفلسطينية اتفاقية مع إسرائيل؟ فقال نصر الله انه لن يفعل شيئاً، لأن هذه حرب فلسطين وللفلسطينيين الحق في اتخاذ القرار الذي يختارونه.

كما قابل هيرش الرئيس السوري بشار الأسد عام 2005 في فترة وجيزة جداً قبل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. وعاد وقابله مرة أخرى عام 2007. وقال انه لم ينشر ما أبلغه به الأسد ولكنه أورد في الكتاب أهم ما سمعه منه في مقابلة عام 2005. وهي معلومات خطيرة إذا كانت صحيحة إذ اغتيل الحريري بعد إجرائها بساعات قليلة.

فعندما سأل هيرش الأسد في تلك المقابلة عن سبب الخلاف بينه وبين الرئيس الراحل رفيق الحريري، أبلغه الأسد ان القضية لم تكن سياسية فقط بل تجارية ـ مالية أيضاً، إذ كان الحريري يطالب بحصة توازي سبعين في المئة من أرباح مؤسسات وشركات الهاتف المحمول التي كانت في طور الإنشاء في سوريا مقابل مشاركة الرئيس الحريري فيها. وبما ان مثل هذه المؤسسات تدر أرباحا ضخمة، فقد كانت هناك جهات سورية عديدة تطالب بالمشاركة في هذه الأرباح بنسب أقل. وبين هذه الفئات تواجدَ رجال أعمال مقربون جداً من الرئيس السوري (ص 315) وبالتالي، لم يكن من السهل على الأسد اتخاذ أي موقف لجهة على حساب أخرى، حسب هيرش.

وفي اللقاء مع الرئيس بشار الأسد عام 2007 (أي بعد حرب 2006 اللبنانية) أبلغه الرئيس السوري انه فوجئ عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأبن ان سوريا هي جزء من «محور الشر» رغم انها تعاونت مع الأجهزة الأمنية الأمريكية في عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة. واعتقد الأسد في المقابلة ان إسرائيل شنت حربها على لبنان عام 2006 للتغطية على فشلها في استمرار احتلالها جنوب لبنان واضطرارها للانسحاب منه عام ألفين (ص 323).

كما أورد هيرش معلومة هامة حول مفاوضات غير مباشرة جرت بين إسرائيل (عندما كان ايهود أولمرت، رئيس وزرائها في كانون الأول/ديسمبر 2008) مع سوريا عن طريق وساطة القيادة السياسية التركية في أنقرة. وكانت المفاوضات تتناول مصير هضبة الجولان السورية. ولكن الجيش الإسرائيلي عطّل هذه المفاوضات بشنه هجوماً واسعاً على قطاع غزة في تلك الفترة وبعد أسابيع على مفاوضات أولمرت (ص 324) كما خسر أولمرت منصبه لاحقا وسُجن بتهم احتيال.

وأبلغ بشار الأسد هيرش في مقابلة 2007 انه يتطلع إلى عقد لقاء مع باراك أوباما إذا فاز بالرئاسة، حول إمكان إعادة إحياء المفاوضات للتوصل إلى حل للنزاع في الشرق الأوسط وتحقيق السلام في المنطقة. وفي مقابل ذلك يقول الكاتب، كان الأسد مستعداً لتبديل بعض مواقف سوريا إزاء حلفائها التقليديين إذا قررت أمريكا والدول الغربية الانفتاح نحو سوريا. وقد رفض أوباما والشلة المحيطة به في قرارات السياسة الخارجية الاجتماع مع هيرش لبحث هذه الأمور بعد انتخابه رئيساً في عام 2009 (حسب قول المؤلف) وفضّل التحدث إلى صحافيين آخرين «يكررون أقواله حول هذه القضايا كالببغاوات والتي شملت وعوداً كثيرة لم يُنفذ منها إلا القليل» (ص 324).

وفي الفصل الثالث عشر بعنوان «ووترغيت وأكثر من ذلك» يقول هيرش ان فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون كانت «مشروعاً مسيحياً صهيونياً إدارته شلة من المسيحيين الصهاينة من الكنيسة المسيحية العلمية، انخرطت في سلك البيت الأبيض وتعاونت مع غوردون ليدي وهاورد هانت، (من موظفي المقر الرئاسي) وكان يقودها شخص اسمه ايغل كروغ، وهو موظف سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفدرالي». (ص 183). ويضيف قائلاً: ريتشارد نيكسون كان «يقاد للذئاب من قبل أصدقائه وخصومه» (ص 181) والوحيد بين معاونيه الذي ظل وفياً له كان أليوت ريتشاردسون الذي عينه نيكسون وزيراً للدفاع ومدعيا عاماً حيث لم يخدم أكثر من ستة أشهر قبل استقالة الرئيس الأمريكي.

ومن اللافت ان لقاءات هيرش وصلت إلى حد الاجتماع بفرانك ستورجيس، عميل الاستخبارات السابق الذي حامت الشبهات حوله في تدبير عملية اغتيال الرئيس جون كنيدي بالإضافة إلى دوره في فضيحة ووترغيت. فقد التقى هيرش مع ستورجيس في مطعم في ميامي وأبلغه انه تلقى رشوة لعدم فضح ما جرى في عملية اختراق مركز الحزب الديمقراطي ووترغيت، وان جون ميتشيل المدعي العام خلال إدارة نيكسون كان على علم بعمليات التجسس ضد مقر الحزب الديمقراطي (ص 176 ـ 178).

ويذكر الكاتب أنه كان على علاقة جيدة بوزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس وعدد كبير من القادة العسكريين الأمريكيين الكبار الذين كان الولاء الأكبر بالنسبة لهم لبلدهم والذين فضحوا الفاسدين في السلطات الأمريكية المتعاقبة.

وقد خصص الفصلين الرابع عشر والسابع عشر للتطرق بالتفصيل لدور هنري كيسنجر في استخدام شتى الوسائل للبقاء في المنصب على حساب الذين تعاون معهم وأوصلوه إلى السلطة، وبينهم نيكسون، بحيث وصل الأمر بكيسنجر إلى زرع عملائه أجهزة للتجسس حتى على أشخاص عيّنهم بنفسه في مناصبهم!

 

Seymour M. Hersh: Reporter. A Memoir

Allen Lane, London 2018

355 Pages.

 

القدس العربي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى