وجها لوجه

الشاعر السوري خضر الأغا: كنا في المنفى بلا لغة!

 

 

ميسون شقير

كتب الشاعر السوري خضر الأغا الشعر في “أنوثة الإشارة” و”الجاهلي الذي أنا” كما تكتبه الأصابع الملذوعة،  وكتب النقد: “البياض المهدور” و”ما بعد الكتابة” كما تكتبه الأصابع الباحثة الجادة، وبعناية وتمهل حاك طريقه وحاك وقع خطوات السوريين الذين رحلوا كي لا تجف، السوريين الذين رحلوا عن بلاد قتلها الطاغية وكانت قلوبهم ترتطم بأقدامهم.

عمل خضر الأغا محرراً في العديد من الصحف والمجلات السورية. حيث كان رئيس تحرير مجلة “شرفات” الأدبية المتميزة، ولأنه شاعر لا يساوم على الشعر والتاريخ، وقف منذ اللحظة الأولى مع الثورة السورية الطالعة من الحناجر كعشبة في الصخر، لذا كان عليه ككل السوريين أن يرحل عن بلاد تأكل أبناءها حتى القلب.

هنا في “ألمانيا”، المنفى القسري للكثير من الكتاب السوريين، كان لضفة ثالثة هذا الحوار معه، وخاصة بعد أن شارك في نص كبير ضمن كتاب حديث صادر في ألمانيا، باللغة الألمانية، يتناول الغربة واللغة.

– لقد كان لك في الكتاب الذي نُشر مؤخرًا في ألمانيا بعنوان “الوصول” نص يثقب القلب عن فقدنا -نحن الكتاب المغرّبين قسرياً- للغة التي هي جواز سفرنا الوحيد نحو العالم ونحو أنفسنا. هل تعتقد أن الألماني حين يقرؤنا يستطيع أن يدرك عمق هذه الهاوية؟

في مرحلة متقدمة من حياة الكاتب تصبح الكتابة عملاً شبه وحيد له. بمعنى أنه يكتب بصرف النظر عن النتيجة. لدي رأي أن العقل الأوروبي، بعد مرحلة الاستقرار والازدهار النسبية التي حققها، عقل كسول ينشغل بما هو قريب منه وبما يمكن تناوله من جهة، وبما يحقق له فائدة مباشرة من جهة أخرى. لذلك هو يتأثر بإعلامه أكثر مما يتأثر بثقافتنا وكتابتنا. عندما أتينا، نحن السوريين، إلى ألمانيا بقينا زمناً لا نعرف ماذا يقولون ولا يعرفون ماذا نقول، إذ إننا كنا بلا لغة، لم نكن نحاورهم ولم يكونوا يفعلون، كانوا، فقط، يتعاطفون معنا، وقد ساعدتهم ذاكرتهم القربية في التعرف على مأساتنا في اللجوء وفي اللغة، فقد جربوا ذلك قبلنا خلال حروبهم، وعندما يقرؤون شيئاً لنا تساعدهم ذاكرتهم هذه في فهم أحاسيسنا ومشاعرنا وانكساراتنا أكثر من فهم قضيتنا، ذلك أن قضيتنا الأساسية مغيبة في إعلامهم إلى حد كبير، وهم أبناء الإعلام. مع هذا، فقد وردتني رسالة من إحدى السيدات المسنات في ألمانيا، لدى نشر النص الذي تشيرين إليه في إحدى الصحف الألمانية وهو بعنوان: “المنفى.. كحياة مؤجلة”، قالت فيها: “اكتب قضيتك، دع كل شيء واكتب قضيتك”، أثر ذلك الطلب في كثيراً، وفكرت أن الكتابة، كعمل تراكمي، لا بد أن تصنع شيئاً، قد يكون يسيراً جداً، ولكنها تصنعه.

– ما رأيك بحركة ترجمة الشعر السوري إلى الألمانية، وهل هي فعلاً حركة ثقافية حقيقية بمعنى الكلمة ستستطيع أن تحقق جذورها في العمق؟

حتى الآن لا توجد “حركة ترجمة”. توجد بعض الترجمات التي تقام بجهود شخصية وهذه لا تؤدي، ثقافياً، إلى شيء. الترجمة، حتى الآن، اعتباطية من جهة، وغير احترافية من جهة أخرى، وهي خاضعة لحاجة بعض الفعاليات والنشاطات التي تقوم بها بعض المؤسسات الثقافية الألمانية، فتقوم هذه المؤسسة، لتغطية نشاطها، بترجمة بعض النصوص والقصائد، أو تطلب من الشاعر أن يُحضر، هو، معه قصائد مترجمة. وهذه العملية لا تُنتج. وهذا ينطبق على بعض الدواوين الشعرية التي تمت ترجمتها، فهذه أيضاً كانت فردية وبجهود شخصية، غير منهجية، وبلا معايير.

تقول دائما إن سقوط النخبة هو خطوة نحو التحرر من الاستبداد الفكري وإنه من أهم ما أنتجته ثورتنا. كيف ذلك؟

أعتقد ذلك كثيراً. سقوط النخبة خطوة نحو التحرر من كل استبداد: فكري وسياسي، إلخ… ادعت النخب الثقافية العربية طويلاً أنها تؤثر في الناس وتوجههم، فهي تراهم جهلة ورعاع ومتخلفين ولا بد لهم من (معلمين) يعلمونهم (التحضّر) عن طريق الإخضاع، وفي هذا تواطأت أو تفاهمت مع النخب السياسية التي وصلت إلى السلطة لتمارس الدور ذاته التي ادعت النخب الثقافية أنها تمارسه وهو الهيمنة على الناس بوصفهم متخلفين وجهلة ورعاعيين، فبدا أن النخبة الثقافية هي الامتداد الطبيعي للنخب السياسية، وبدا أيضاً أن ثقافة النخبة هي الأساس النظري الذي تستند عليه النخبة السياسية الحاكمة، جرى ما يشبه تبادل الفائدة بينهم: السياسيون استفادوا من الغطاء النظري للمثقفين (النخب) وهؤلاء استفادوا من حريتهم في أن يكونوا طغاة صغاراً في الثقافة. لو عدنا إلى فترة ما بعد استقلال البلدان العربية لوجدنا أن شعارات النخب السياسية هي ذاتها شعارات النخب الثقافية، وهي ذاتها الشعارات التي دفعت شعوب المنطقة الأثمان الباهظة لأجلها وتحت اسمها، وما يحدث الآن في سورية هو أننا ندفع ثمن تلك الشعارات: مواجهة الإمبريالية والصهيونية وأدواتها في الداخل! وهذه شعارات ليست سياسية فحسب، بل ثقافية أيضاً.

بالإضافة إلى ذلك فقد ضيعت النخب الثقافية الثقافة: ضيعت الشعر تحت بريق  الشعراء النجوم، فلم يزل أولئك يروجون للكتابة الشعرية التي تمشي على منوالهم وطرائقهم في الكتابة، ولم يزل الشعر مقتصراً على كتاباتهم وآرائهم هم. فلو تذكرنا اليوم الشعراء العرب وشعراء المنطقة فلن نتذكر سوى بضعة أسماء هم النخبة الشعرية ونخبة الشعراء. وكذلك الأمر في الرواية فقد ضيعوها للاعتبار ذاته، إلخ… عندما تسقط نخبة الشعراء يحضر الشعر، وعندما تسقط نخبة الروائيين تحضر الرواية، وعندما تسقط نخبة الكتّاب تحضر الكتابة…

لقد نجحت الثورة السورية في تأكيد سقوط النخبة، فنحن نعرف أن الناس تحركت لأجل حقوقها دون حضور للنخبة، ونحن نقرأ الكثير من الكتابات ونشاهد الأفلام وغير ذلك عبر أناس لم تكن النخبة تعرفهم، أو لم تكن تسمح لهم بالحضور…  سقوط النخبة أسس لثقافة الناس، بعيداً عن أي استبداد نخبوي.

-لك خطاب مدافع عن مرحلة المعرفة اللغوية والفكرية الراقية (مرحلة الجاهلية)

هل تعتقد أننا بابتعادنا عنها قد ابتعدنا عن ذواتنا وقد خسرنا الكثير منا؟

– أنا منحاز لتلك المرحلة الكبيرة، تجلى ذلك في كتابي المعنون: “الجاهلي الذي أنا”. ما زلت معجباً بتلك المرحلة التي انبنت وكانت تواصل البناء على الفكر الحر، كان ثمة حرية في كل شيء. ما زلت معجباً بتلك البيئة الخصبة والغنية التي أنتجت كل ذلك الشعر الباذخ، كل تلك البلاغة التي لم تكن استعلائية، ولم تكن تعيش في أبراج عاجية، أنتجت شعراً مكتملاً، وقد بدا أنها مرحلة تعيش داخل بيت الشِّعر، وداخل اللغة، ومع هذا كانت صوت المجتمع، صوت الناس. تصوري، لقد وصلوا باللغة إلى اكتمالها، وبالشعر إلى ذراه، مع هذا لم يغلقوا باب اللغة وباب الشعر خلفهم حين تم تغييبهم، فقد أبقوا الباب مفتوحاً على مصراعيه، بدليل أن الشعر واصل النمو وقد وصل إلى مستويات مكتملة أيضاً، كما في المرحلة العباسية والأندلسية وغير ذلك… لم يكونوا احتكاريين، ولا تعسفيين، كانت اللغة للجميع، كما كان كل شيء عندهم للجميع.

فيما بعد، تغير كل شيء، وظهرت الاحتكارية والتعسفية والتمييز ولم يعد ثمة الكثير في هذه الدنيا للجميع، حتى ذات الشخص ليست ملكه.

من أجمل ما قرأت لك هو قولك بأن الحداثة العربية هي تأتأة داخل النص.

هل تعتقد أن هذه التأتاة بقلقها قادرة على إنتاج ما يستطيع البقاء؟

– الحقيقة كنت أنتقد/ وما زلت أنتقد بشدة، بل أقف على الضد من مرحلة الحداثة الشعرية العربية قاطبة.

التأتأة داخل اللغة هي الطريق الذي يلجأ إليه الكاتب/ الشاعر كي يوقف التدفق الفطري للغة. نحن نعرف أن اللغة فاشية، إنها تُرغم الشاعر على قول ما تريده هي لا ما يريده هو، إنها مسلحة بتاريخ طويل من الدلالات ومن المعاني الجاهزة، والشاعر إذ يكتب فإنه سيعيد معاني الكلمات ذاتها التي خلقتها اللغة عبر تاريخها الطويل، وسيعيد الكلام المتداول والتاريخي ذاته، فاللغة تأتي متدفقة أثناء الكتابة ضمن منطقها الخاص لا ضمن منطق الكاتب/ والشاعر خاصة، وحيث أن الشعر ليس كذلك، بل هو عملية من ابتكار معان جديدة للغة وللكلمات، ولكي يتمكن الشاعر من ذلك لا بد له من أن يتوقف كثيراً أثناء الكتابة، لا بد له أن يتأتئ، هذه التأتاة توقف التدفق الفطري للغة وتتيح للكاتب/ الشاعر أن يقول هو ما يريد، لا اللغة. يجب إذاً أن يكون ثمة لسان خاص إلى جانب اللسان الشخصي، هذا اللسان الخاص هو اللسان الذي يتأتئ داخل اللغة، وهو الذي يكتب.

أما تأتاة الحداثة فكانت تأتأة الذي لا يعرف التكلم، تأتاة اللسان الأحادي المتصلب. تأتاة الحداثة أنتجت ركاماً فظيعاً من اللغة التي خربت الشعر، وجعلت العرب وشعوب المنطقة يعيشون طيلة مرحلة الحداثة الشعرية بلا شعر، أسفرت تلك الغلاظة الحداثية عن فضيحة كبيرة هي فضيحة الشعر العربي الحديث.

الوقوف داخل الثورة يصنع بداخلنا ثورة جديدة، والثورات تنتج أجمل ما فينا.

ولكن ما رأيك بالخوف الذي عشش في عظامنا وجعلنا نرحل؟

– خلال السنة الأولى من الثورة، وعلى الرغم أن الحد الوسطي للشهداء كان مئة شهيد كل يوم جمعة فقط، فقد كانت الروح السورية عالية على نحو لا مثيل له، كان ثمة أمل يجعل حتى أهل الشهيد يزغردون له، ويعتبرون أنه، وهو كذلك حقاً، ضحى لأجل سورية وهي تستحق. تصوري أنني أقول كلمة “أهل الشهيد”، لكن ليس ببساطة، عندما أقول ذلك فإن قلبي ينفطر وأشعر أنني سأمشي في الشوارع وأعوي بالمقلوب، وأن الحقد البشري كله يتجمع فيّ، مع هذا فقد أذكر أن أمي كانت تقول لي: أحب أن أراك مورّداً هكذا. كنا -نحن السوريين- مورّدين بالفعل، فقد كان الأمل هائلاً بالتخلص من نظام البراميل هذا. نتذكر جميعنا ذلك الوعي الحاد الذي بدا لدى السوريين، وحالة الحب الطافحة التي انتشرت آنذاك. بدا “الجميل” الذي منعه نظام البراميل من أن يظهر على مدار نصف قرن قد ظهر بأبهى صوره.

لكن الفجور غير المسبوق الذي أظهره ذلك العفن المسمى نظاماً سورياً طاول الجميع، وحشرنا في زاوية ضيقة جداً: الاعتقال والموت تحت التعذيب، أو الموت ببرميل أو صاروخ أو كيماوي… الأمر الذي جعل من خروجنا من البلد فعلاً إرغامياً وقسرياً، ونحن، كما تعلمين، نعيش هنا، في أوروبا، على شفا الهاوية، فلم نستطع الدخول في المجتمع الأوروبي، ولم نستطع أن نكون هناك/ بين أهلنا حيث يموتون بأشكال الموت جميعها… لكن ما يمكن أن نفعله ككتاب وغير كتاب لاجئين، هو أن نُبقي على قضيتنا حية، وأن نستمر في فضح القاتل على مدار الساعة.

في النهاية هل تعتقد أننا كشعراء سوريين سنكون بعد كل هذا الخراب الذي عمره الخذلان فينا قادرين على كتابة شعر غير محروق، شعر قادر على التنفس؟

– على الرغم من عمق الجرح، وعمق الخذلان الذي ينضح من سؤالك، لكنني أرى أن لا مستقبل للشعر، علينا أن نفكر بطرائق أخرى للكتابة (غير الشعر) التي يمكن أن تنطوي على تأثير ما. الشعر شاخ وبلغ من العمر عتيّا ولم يعد قادراً على أن يفعل أي شيء، الشعر انتهى فعلاً للأسف. لكن باعتبار أن هذه مسألة يطول شرحها والتكلم فيها، سأتجاوزها لتمشية الموضوع. وحقيقة لا أعرف إن كنا سنكتب شعراً / أو غيره قادراً على التنفس، لدي الكثير من الأفكار تغيرت خلال الثورة وبسببها، يبدو لي أن أفكارنا جميعاً بحاجة إلى مراجعة، لكن ما هو أكثر ثباتاً من غيره هو فكرة أن كتابتنا الآن، وكتابتنا القادمة ستخرج من الدمار السوري، وستكون مضمخة بدماء شهداء سورية، وهذا ما يمنحها القدرة على الحياة وعلى التنفس.

ضفة ثالثة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى