مراجعات كتب

مذكرات سارية الرفاعي في زمن الثورة السورية/ أنس أزرق

يكشف الداعية السوري، الشيخ سارية الرفاعي، في كتابه الذي صدر أخيرا “مذكرات في زمن الثورة .. الجزء الأول” (مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، 2020)، أسرارا كثيرة في العلاقة المعقدة الملتبسة بين علماء الدين وأجهزة النظام السوري، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية، ورأس النظام بشار الأسد والذي يحرص الشيخ سارية على وصفه “ساكن القصر”.

كما تضيء المذكرات على صراعات مشايخ الدين ومواقفهم، وحساسياتهم المبنية على اختلاف مذاهبهم وطرقهم ومناطقهم وشخصياتهم، وعلاقتهم مع السلطة ومؤسسة الأمن التي تشرف على نشاطهم. وتأتي قيمة المذكرات من أن كاتبها من أهم شيوخ دمشق والمؤثرين بمجتمعها، نظرا إلى مكانته العلمية ومكانة أخيه الشيخ أسامة، ومن قبلهما والده مؤسس جمعية زيد، الشيخ الراحل عبد الكريم الرفاعي، وإشرافه على أهم مؤسسات العمل الأهلي فيها، وإدارته لها، كمشاريع حفظ النعمة وصندوق العافية وكفالة اليتيم.

يسرد خطيب جامع زيد بن ثابت في دمشق لقاءاته مع بشار الأسد وأركان أمنه، منذ بداية الثورة السورية في العام 2011، ومساعيه، مع ثلةٍ من العلماء، من أجل وقف حمام الدم في البلاد، انتهاء بخروجه من سورية، ومساهمته في العمل الإغاثي الديني في مصر وتركيا التي يقيم فيها حاليا. كما يسرد الرفاعي محاولات النظام شراءه بالمناصب، كعرض تنصيبه مفتيا لدمشق أو تعيينه وزيرا للأوقاف، أو إعطائه مليار ليرة عن طريق جمعية البستان لـ “رجل الأعمال”، رامي مخلوف (ابن خال الأسد)، لتوزيعها على فقراء دمشق. وفي الختام، اقترح النظام عليه تشكيل فصيل عسكري باسم زيد بن ثابت. .. وبعد الترغيب، بدأ الترهيب، حيث قام الأمن بتصفية ابن أخته، وبعض أبناء عمومته، وعزله عن الخطابة، وكان قبل الثورة قد أبعده عن مشروع حفظ النعمة، وأقفل قناة الدعوة التي يديرها نجله عمّار.

.. لطالما كانت علاقة مشايخ الدين والدعاة مع نظام حافظ الأسد وابنه خفية مكشوفة، فيها نزاع أو حياد، وفي كل الأحوال، فيها كثير من القهر والتحكّم من جانب النظام، والنفاق والمداهنة من جانب من بقي منهم في سورية. وقد استطاع الأسد الأب أن يشكل نخبة دينية خاصة به، أبرزهم المفتي أحمد كفتارو ووزير الأوقاف عبد الستار السيد والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وصهيب الشامي بعد اغتيال أبيه الشيخ محمد الشامي، ولاحقا أحمد حسون، وتصفية ونفي من عارضه منهم، ولا سيما بعد أحداث الإخوان المسلمين في الثمانينيات، وكان من بين من هاجر الشقيقان أسامة وزيد الرفاعي، حيث أقاما في المدينة المنورة، وعادا إلى دمشق عام 1993. أما الابن فحاول أن يشكل نخبته، فابتعد عن بعض أفراد حلقة أبيه، سيما الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي بقي، كما يذكر كاتب المذكرات، خمس سنوات يطلب لقاء بشار، ولا يُستجاب له.

كان مشايخ الدين الإسلامي والدعاة وأيضا رجال الدين المسيحي جزءا من النخبة السياسية الاجتماعية السورية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال وحتى انقلاب 8 مارس/ آذار 1963، وطبعا لا بد من استثناء فترة الوحدة مع مصر (1958 – 1961) القصيرة. ومع انقلاب حزب البعث في 1963، ولاحقا انقلاب حافظ الأسد في 1970، حصر دور العلماء البارزين غير المنضوين تحت عباءة النظام بالوساطة والشفاعة لدى الحاكم، كما فعل الشيخ محمد الحامد في أحداث حماه عام 1964 مع الرئيس أمين الحافظ، والشيخ حسن حبنكة في أحداث الدستور مع حافظ الأسد عام 1973، ومن لم يرضخ كان عليه أن ينفي نفسه طوعا أو كرها.

تحذير من العواقب

يوقع الشيخ سارية الرفاعي مذكراته من “على فراش الموت” مع بداية الثورة السورية التي حذر من عواقبها، إذا “لم يرفع الظلم عن الناس والقضاء على الفساد واستيعاب الشارع”، متحدثا عن لقائه وشقيقه أسامة مع بشار الأسد الذي استجاب لمطالب الشيخين بإعادة المدرّسات المنقبات إلى التدريس، وإعادة فتح قناة الدعوة، والاعتراف بشهادات المعاهد الشرعية، وطلب منهما ان يلتقيا أهالي درعا لما لهما من مكانة، واصفا قريبه ضابط الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب “أزعر وشلناه”. وبالفعل التقى الشقيقان نخبة أهالي درعا الذين قدموا 14 مطلبا، في مقدمتها تغيير المحافظ فيصل كلثوم، وحفر الآبار. (يورد الشيخ مطلبا بتسمية المشفى الوطني في درعا باسم الشهيد محمد المسالمة، وهو مطلب لم يكن موجودا، كما أكد لي بعض المطلعين الثقاة).

نقل الشيخان المطالب لبشار يوم الأربعاء، فحصلت مجزرة الصنمين يوم الجمعة 20 مارس/ آذار 2011، فأقسم الشيخ سارية الرفاعي يمينا ألا يلتقي بشار، ولا أيا من رجال أمنه، بعد ذلك. في اليوم نفسه، وكما حنث بشار بوعوده تجاه درعا، فعل الأمر نفسه تجاه اعتصامات كثيرة، ومنها اعتصام جامع الإيمان، حيث كان يخطب الشيخ أسامة، وحاصر الأمن والشبيحة المصلين الذين اكتفوا بالتكبير وشعار “نحنا معك للموت يا درعا”. ووصل الشيخ سارية، ونقل إليهم تعهد كبار المسؤولين، ومنهم رئيس شعبة الأمن العسكري حينها، عبد الفتاح قدسية، بعدم التعرّض لهم، إذا فكّوا الاعتصام. وتحدّث عن وصول صوتهم إلى ساكن القصر، وما إن خرج المعتصمون، حتى انهال عليهم أمن النظام وشبيحة الحزب (البعث) من مؤسسات حكومية قريبة من المسجد، كفرقة الإذاعة والتلفزيون وصحيفة الثورة بالضرب المبرح وصل إلى حدود الموت واعتقال بعضهم. .. اللافت أن الشيخ سارية الرفاعي لا يسرد قصة هذا الاعتصام في كتابه، ولكني شاهدته بأم عيني.

المظاهرات حرام

يعتبر الشيخ الرفاعي نفسه من أنصار الثورة منذ بدايتها، ولكنه كان ينصح الشباب ورواد مسجده بعدم الخروج، خوفا على حياتهم، لأنه “ما من مظاهرة إلا ونسمع أن شبابا قد قتلوا فيها”. ثم يروي كيف اختزل النظام خطبة الجمعة، وكتب على شريط الأخبار نقلا عنه إنه يقول “المظاهرات حرام حرام حرام”، في حين أنه قال على المنبر: “إن كانت المظاهرات ستتحول من سلمية إلى مسلحة، فأقول: إن مظاهراتكم حرام، حرام، حرام”. اتصل الشيخ بمسؤول الأمن في القصر (العقيد حسام سكر وقتها)، مهدّدا بتكذيب الإعلام السوري، فأجابه هل يرضيه أن بث الخطبة كاملة، وهذا ما كان.

رفض الشيخ سارية المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني برئاسة نائب الرئيس، فاروق الشرع، لأنه ليس متخصّصا بالسياسة ولا بالاقتصاد، ولكنه حذّر المجتمعين من المساس بالدين. ويرى في مذكراته أن مخرجات المؤتمر قد أجهضت، لأنه عقد من دون إذن إيران. كما رفض الشيخ دعوة بعض الشباب إلى تشكيل حزب مقابل حزب البعث. وفي منظوره، انقسم علماء سورية إلى ثلاث فئات، منهم من وقف إلى جانب الثائرين المنادين بالحرية. والثاني آثر الصمت خشية البطش، واعتبرها فتنة يجب تجنبها، والقسم الأخير ممن خاف على منبره وشخصه، فتظاهر بالوقوف إلى جانب النظام.

ويتذكّر الشيخ اتهام النظام المعاهد الشرعية بحضانة الإرهاب، عندما أذاع إفادات طلاب في معهد الفتح الإسلامي بتفجير فرع الدوريات في منطقة القزاز العام 2008، فعلق الشيخ سارية على ذلك في خطبة الجمعة، بوصف ما حدث بأنه مسرحية ساذجة، فاتصل به رئيس فرع التحقيق العسكري وقتها، اللواء رستم غزالي، وتبرأ من هذه التحقيقات.

ويذكر أنه خطب على المنبر في آخر شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2011 عن الفساد والظلم والإساءة للدين ومنع الصلاة في المؤسسات العسكرية. وبعد أيام التقى بشار الأسد مع مجموعة من العلماء، فقال له الأسد: إن خطبتك تحريضية. .. كما تعدّدت لقاءات الشيخ مع أركان أمن النظام، رئيس مكتب الأمن القومي، هشام الاختيار، رئيس جهاز المخابرات العامة، علي مملوك، رئيس شعبة الأمن العسكري، عبد الفتاح قدسية، مدير مكتب بشار الخاص، حسام سكر، رئيس الحرس الجمهوري الأسبق، عدنان مخلوف، معاون نائب الرئيس محمد ناصيف، نائب وزير الدفاع آصف شوكت. .. سأل الشيخ سارية شوكت: لماذا حرّكتم الدبابات تجاه المدن؟ فكان جواب شوكت: من أجل هيبة الدولة! سأله عدنان مخلوف عن الحل، فأجاب الشيخ أن يتنحّى بشار، فردّ مخلوف: نريد أن نحل المشكلة، لا أن نعقّدها.

ومن وقائع وتفاصيل يسردها الشيخ سارية الرفاعي في مذكراته أن محمد ناصيف دعا حوالي أربعين عالما للفطور في جبل قاسيون (مطعم أحلى طلة الذي يستثمره ابن أخته بأبخس الأثمان). ويروي أن مدير مراسم القصر الجمهوري، محي الدين مسلمانية، زاره ناقلا إليه عتب الرئيس لعدم ظهوره على شاشة التلفزيون، فاشترط الشيخ أن يقول ما يريد، وطلب من مسلمانية سؤال بشار عن ذلك فعاد إليه مسلمانية بالقبول، فكان اللقاء على قناة الدنيا.

ويذكر أنه خطب، بعد مجزرة حماه، فجر أول أيام شهر رمضان، 1 أغسطس/ آب 2011، وقال في خطبته إن الجيش في سورية مجرم، فاتصل به العقيد حسام سكر، ليقول له إن الرئيس وضباط الجيش غاضبون لاتهامه الجيش بيوم عيده. وقد أصدر الشيخ، مع مجموعة من العلماء (كريم راجح، راتب النابلسي، هشام الدجاني، معاذ الخطيب وآخرون)، بيانا دعوا فيه الجيش إلى عدم إطاعة أوامر إطلاق النار. وقرّروا أن يصدروا بيانا ثانيا يحمّل الأمن مسؤولية سفك الدم، فدعاهم الشيخ عبد الفتاح البزم إلى لقاء مع علماء دمشق، وفي مقدمتهم الشيخ محمد رمضان البوطي الذي أحضر بيانا مكتوبا، ليكون بديلا عن بيانهم. وتم دمج البيانين، حيث احتفظ النص الجديد بمضمون إدانة الأجهزة الأمنية مع مقدمة بيان البوطي وخاتمته. وما إن انفض المجلس، حتى اتصل علي مملوك وهشام الاختيار بالشيخ سارية، غاضبين، وأقال وزير الأوقاف كل الموقعين على البيان، باستثناء سارية وأسامة وراجح والبرهاني والنابلسي. ثم استدعي الشيخ للتحقيق، فاعتذر بسبب مرضه، فأرسل إليه اللواء مملوك باقة من الورد، بينما أصدر اللواء هشام الاختيار أواخر العام 2011 كتابا ينصح فيه الخطباء الخمسة باعتزال الخطبة، وبالفعل بقي الشيخ ثلاثة أشهر في البيت.

وقد وجه الشيخ سارية الرفاعي نداءً للناس، بعد مجزرة الحولة في شهر مايو/ أيار 2012، فاستجابت دمشق بالإضراب خمسة أيام، وأرسلت مبادرة أهل الشام مواد غذائية إلى حمص.

ذهب الشيخ إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فجاءه تهديد مباشر من مكتب الأمن القومي، ومن العقيد حسام سكر، إن لديهم معلومات استخبارية أن المجموعات الإرهابية عازمة على تصفية العلماء الخمسة، فسافر إلى مصر.

عن البوطي

يفرد الشيخ سارية صفحات كثيرة في مذكراته لعلاقته مع الشيخ محمد رمضان البوطي، وعلاقة الرجل مع النظام وموقفه من الثورة في سورية. ولا يقلل الكاتب من علم البوطي وفقهه، ولكنه يصفه بالسذاجة، بتصديق النظام، وعدم جواز الخروج على الحاكم، فيكتب عن البوطي: “يعتقد أن في الدولة تيارا دينيا محافظا يقوده محمد ناصيف، كما يعتقد أن دين الدولة الإسلام، بدليل أن حافظ الأسد قال ذلك. كان يتحدّث عن باسل الأسد إنه يقوم الليل، لأنه سأله عن حكم صلاة الوتر بعد صلاة العشاء، هل يعيدها بعد قيامه الليل؟! وكان البوطي يخشى من الشيعة، وامتدادهم إلى القرى البعيدة في سورية، و”يكره مؤتمرات التقريب بين المذاهب والأديان، وقلّ أن يحضرها”.

جاء إلى عند الشيخ سارية أبناء وأحفاد للبوطي، وسألوه عمّ يفعلونه معه، وهو على هذا الحال من الخطأ الجسيم؟ فنصحهم بأن يقولوا له إنه مخطئ، فرد ابنه: ألا تعلم نزق والدي وشدة غضبه. “وروى لي ما حصل مع شاب تركي جاءه في العيد وذكّره بقوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار .. فقام الشيخ بضربه وطرده”.

ويكشف الشيخ سارية الرفاعي أن مسلسل “ما ملكت أيمانكم” للمخرج نجدت أنزور كان بتوجيه من آصف شوكت، والمقصود به الشيخ البوطي، حيث يكنّى الشيخ في المسلسل “أبو توفيق”، وهي كنية البوطي، كما أن شارة المسلسل تضع صورة جامع الإيمان، حيث يدرّس. وتورد المذكرات أن شوكت جمع البوطي وأنزور بعد أن كتب البوطي وخطب ضد المسلسل، وجعل الشيخ يعتذر من المخرج.

وكان الشيخ البوطي لا يطيق أن يسمع باسم المفتي أحمد حسون، ويتكلم في حقه كلاما يكاد يخرجه من الملّة، ويرى أن المفتي صدّق نفسه أنه شيخ الإسلام في سورية. وكان حسّون يبرر للشيخ سارية بعض تصريحاته عن النصارى والدروز، “أردتُ أن أحرجهم بانتسابهم للإسلام فأطبق عليهم أحكام الإسلام”.

ويشير سارية الرفاعي إلى علاقة ودية جمعته مع وزير الأوقاف، محمد عبد الستار السيد “كنت أسمع منه الكثير الكثير عن الشيعة، ويقول: أي تقريب هذا! إنهم يريدون أن يقربونا إلى مذهبهم. وأنا أعلم أنه قبل الثورة لم يفتح لهم حسينية واحدة”. ولكن الشيخ سارية يورد معاتبته له، عندما أبعد عن مشروع حفظ النعمة “والله ما وجدنا عزا كالذي وجدناه أيام أبيك، وما وجدنا ذلا كالذي نجده في عهدك”. ولم يوضح المؤلف ما الذي كان أيام والده الشيخ عبد الستار السيد الذي تسلم وزارة الأوقاف بين عامي 1971 – 1980.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى