ثقافة وفكر

فرنسيس فوكوياما يؤجل نهاية التاريخ/ لوي ميناند

 

 

ترجمة: يامن صابور

يرى فوكوياما أن رغبة المجموعات الهوياتية في نيل الاعتراف تمثل تهديداً رئيساً لليبرالية

في شباط/فبراير من العام 1989، ألقى فرنسيس فوكوياما كلمة في جامعة شيكاغو حول العلاقات الدولية. كان يومها في السادسة والثلاثين من عمره، وفي طريقه للانتقال من عمله خبيراً في السياسة الخارجية السوفييتية لدى مؤسسة راند في سانتا مونيكا، إلى منصب نائب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية في واشنطن.

كانت تلك من اللحظات المناسبة للكلام على العلاقات الدولية، لا سيما بالنسبة إلى خبراء السياسة السوفييتية. فقبل ذلك التاريخ بشهرين، في السابع من كانون الأول/ديسمبر 1988 على وجه التحديد، أعلن ميخائيل غورباتشوف، في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة، أن الاتحاد السوفييتي سيكفّ عن التدخل في شؤون دول أوروبا الشرقية التي تدور في فلكه. أصبح بمقدور تلك الدول الآن أن تتحول إلى الديموقراطية. وكانت تلك بداية نهاية الحرب الباردة.

وضع فوكوياما في مؤسسة راند تحليلات مكثفة للسياسة السوفيتية، وفي شيكاغو، أطلق لنفسه عنان تفكير من الوزن الثقيل. استرعت كلمة فوكوياما يومها انتباه أوين هاريس المحرر في مجلة تصدر في واشنطن تدعى The National Interest، فعرض عليه نشر كلمته. وظهرت الكلمة في المجلة في صيف 1989 على شكل مقالة عنوانها «نهاية التاريخ؟» وسرعان ما قلبت عالم السياسة الخارجية رأساً على عقب.

تلخصت فرضية فوكوياما يومها بالقول إنه مع الانهيار الوشيك للاتحاد السوفييتي، فإن آخر البدائل الإيديولوجية التي تواجه الليبرالية تكون قد أُزيلت. فالفاشية سُحقت في الحرب العالمية الثانية، وها هي الشيوعية تتفجر من داخلها، ففي بعض الدول التي تسمي نفسها شيوعية، كالصين على سبيل المثال، تسير الإصلاحات السياسية والاقتصادية باتجاه تأسيس نظام ليبرالي.

هكذا يصبح بإمكاننا القول إن التاريخ بلغ غايته، ما إن نتخيل هذا التاريخ على شكل سيرورة تتعولم فيها المؤسسات الليبرالية كالحكومات التمثيلية والأسواق الحرة والثقافة الاستهلاكية. بالطبع سوف تستمر بعض الأحداث بالظهور هنا وهنالك، ومن الممكن توقع أن تتعرض الدول الأصغر لتوترات إثنية ودينية وأن تغدو مأوى للأفكار اللاليبرالية. لكن «الأفكار الغريبة التي تخطر على بال الناس في ألبانيا أو بوركينا فاسو ليس لها أهمية تذكر»، كما يوضح فوكوياما، «ذلك أن ما نهتم له هو ما يمكن لنا أن ندعوه، على نحو ما، الإرث الإيديولوجي المشترك للبشرية».

كان هيغل قد كتب، كما يقول فوكوياما، عن لحظة ينتصر فيها شكل من المجتمع والدولة عقلانيٌ تماماً. والآن، وها هي نبوءة هيغل تتحقق أخيراً مع هزيمة الشيوعية وتلاقي القوى الكبرى على نموذج سياسي واقتصادي وحيد. ولسوف تكون ثمة «سوقنة مشتركة» للعلاقات الدولية وسيبلغ العالم حالة من الاستتباب.

كانت The National Interest مجلة متواضعة حتى لدى مقارنتها مع المجلات متواضعة الانتشار، أطلقها في العام 1985 إيرفينغ كريستول، وهو أحد الشخصيات البارزة في تيار المحافظين الجدد، ولم يكن توزيعها في عام 1989 يتعدى الستة آلاف نسخة. بل إن فوكوياما نفسه لم يكن معروفاً فعلياً خارج عالم المختصين بالدراسات السوفييتية، أي أولئك غير المأخوذين بالتأملات الأخروية. ولكنها وسائل الإعلام السائدة من التقط زعم «نهاية التاريخ» يومها، حيث كتب جيمس أتلاس من مجلة Times Magazine التي تصدر في نيويورك نبذة عن فوكوياما، ونُوقشت مقالته في بريطانيا وفرنسا، وتُرجمت إلى لغات كثيرة من اليابانية وصولاً إلى الآيسلندية. رفضت بعض الردود طروحات مقالة «نهاية التاريخ؟» وأظهرت معظمها الشك حيالها. ولكن وجدت عبارة «نهاية التاريخ» طريقها بشكل ما إلى فكر ما بعد الحرب الباردة، وغرزت هناك.

كان الحظ أحد أسباب انغراز العبارة بذلك الشكل. إذ برز فوكوياما قبل حوالي ستة أشهر من الانعطافة التاريخية، حين ظهرت مقالته قبل الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا وقبل هدم جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989. كان فوكوياما يومها يراهن على استمرارية الاتجاهات التي سادت في تلك الحقبة، الأمر الذي يُعدُّ مقامرة عالية المخاطر في مجال العلاقات الدولية.

كان من الممكن أن تحصل أشياء لا حصر لها تؤثر على وعد غورباتشوف بالخروج من اللعبة: المقاومة السياسية لذلك الوعد من داخل الاتحاد السوفييتي نفسه، رفض أنظمة الدمى في أوروبا الشرقية التخلي عن السلطة، أو ارتكاب الولايات المتحدة لخطأ ما في دورها. ولكن تكشّفت الأحداث في أوروبا على نحو يدعم توقعات فوكوياما إلى هذا الحد أو ذاك، وفي 26 كانون الأول/ديسمبر 1991 صوّتَ الاتحاد السوفييتي على حلّ نفسه. وبذلك انتهت الحرب الباردة فعلياً.

لكن نهاية التاريخ؟ لم تأخذ الأحداث الآسيوية كثيراً في الاعتبار. فات فوكوياما تماماً ذكر قمع الحركة الديموقراطية في الصين، وليس هنالك أي إشارة لمجزرة ساحة تياننمين. من الممكن أن يكون سبب هذا الغياب أن المقالة كانت في طور الكتابة عندما حصلت هذه الأحداث في حزيران/يونيو 1989. ولا يبدو أن لإسقاط هذه المجريات من حساب المقالة أي تأثير على تقبّلها، فلم يأت أي من الردود الأولى على المقالة على ذكر تياننمن أيضاً، على الرغم من أن كثيرين كانوا أيقنوا بالفعل أن الصين، وليست روسيا، من ستلعب دور القوة التي يتوجب على الديموقراطيات الليبرالية أخذها بالحسبان في المستقبل. كانت نهاية التاريخ؟ ذات توجه مركزاني أوروبي بعض الشيء.

كما أن فوكوياما قدّمَ في طرحه انعطافة مغرية أيضاً، إذ أنه يرتأي في نهاية المقالة أن الحياة بعد التاريخ قد تكون حزينة. فحين تُبذل جميع الجهود السياسية من أجل إيجاد «الحل اللانهائي للمشاكل التقنية والهموم البيئية، ومن أجل إرضاء رغبات المستهلكين الدقيقة» (يبدو لي هذا حسناً)؛ فقد نشعر بالحنين تجاه «الشجاعة والخيال والمثالية» التي نفخت الروح في الصراعات القديمة من أجل تحقيق الليبرالية والديموقراطية. استحضر ذلك التوقع المُفاجئ السؤال الشهير الذي قال جون ستيوارت ميل إنه طرحه على نفسه عندما كان شاباً: في حال تحقُّق جميع الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي تعتقد بها، فهل سيجعلك هذا إنساناً أكثر سعادة؟ لطالما أثار هذا السؤال الخيال.

يمكن لمنصب فوكوياما الجديد أن يشكل سبباً آخراً لذلك الاهتمام الذي لاقتهُ المقالة. في عام 1947، قام جورج كينان بإنشاء مكتب تخطيط السياسات في وزارة الخارجية، وتبوأ منصب مديره الأول. وفي تموز/يوليو من العام نفسه، نشر كينان في مجلة Foreign Affairs مقالة «مصادر السلوك السوفييتي»1 التي عُرفت يومها بالمقالة «س» كونها نُشرت غفلاً عن اسم الكاتب تحت توقيع «س» فقط. ولكن، ما أن علمت الصحافة بهوية كاتب المقالة حتى عدتها على أنها بيان رسمي يوضح سياسة الحرب الباردة.

قدمت مقالة «مصادر السلوك السوفييتي» في حينها عقيدة الاحتواء التي هدفت من خلالها السياسة الأميركية إلى الإبقاء على الاتحاد السوفييتي حبيس حدوده. لم يرَ كينان حاجةً للولايات المتحدة في التدخل في الشؤون السوفييتية طالما أن مصير الشيوعية كان الانهيار الحتمي بسبب قصورها الذاتي. وعند ظهور «نهاية التاريخ؟» بعد أربعة عقود، بدا وكأن هذا المصير يتحقق. في نيسان/أبريل ذاك، مَثَلَ كينان، بسنواته الخمسة وثمانين، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ معلناً انتهاء الحرب الباردة وحاصداً حفاوة تصفيق أعضائها، فيما بدت مقالة فوكوياما وكأنها الخاتمة المثالية لما طرحه كينان يوماً.

ولكن ليست نهاية التاريخ؟ الخاتمة التي كان من الممكن لكينان كتابتها. فالاحتواء عقيدة واقعية، ويرى الواقعيون أن السياسة الخارجية للأمة يجب أن تُسيّرها الاعتبارات العقلانية لمصالح هذه الأمة، وليس المبادئ الأخلاقية أو الاعتقاد أن الأمم تتشارك «تناغماً بالمصالح». لم يكن مهماً للولايات المتحدة بالنسبة إلى كينان ما يفعله السوفييت داخل حدودهم. الهم الوحيد كان عدم السماح للشيوعية بالتمدد خارج تلك الحدود.

من جهتها، تبرز The National Interest من خلال اسمها على أنها مجلة تتعامل مع السياسة الخارجية بنزعة واقعية، سوى أن فرضية فوكوياما قالت بوجود تناغم بالمصالح تشترك به الأمم وأن التقاء تلك الأمم حول النماذج السياسية والاقتصادية الليبرالية له فوائد مشتركة لجميع هذه الأمم. تتخيل الواقعية الأمم على أنها في حالة منافسةٍ دائمةٍ بين بعضها الآخر؛ ولكن فوكوياما نقض هذه الحالة، وقدّمَ لواقعييّ الحرب الباردة نوعاً من حفلة وداع، فقد تمت مهمتهم ولو أنه أُسيء فهمها فلسفياً. أصبح الواقعيون أولئك عاطلين عن العمل. وفي وقت لاحق، قال هاريس: «ظنَّ فرانك [فوكوياما] أن ما يحصل وضع حداً لعالم الواقعية السياسية». لا بدّ أن نشره لمقالة فوكوياما قد وَخزَه.

لكن، وبعد مرور تسعة وعشرين عاماً، لا يبدو أن الواقعيين غادرونا، والتاريخ لا يزال يُخبّئ لنا حيلاً أخرى. ويتضح أن الديموقراطية الليبرالية والتجارة الحرة قد تكون بالفعل إنجازاتٍ هشّة (فيما يبدو أن التيار الاستهلاكي لا زال بأمان حتى اللحظة). هنالك شيء ما في العالم لا يحب الليبرالية، ويخلق المشاكل لبقاء مؤسساتها.

يعتقد فوكوياما أنه يعرف ما هو ذلك الشيء، ويلخص لنا جوابه في عنوان كتابه الجديد2الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسة الاستياء. يقول فوكوياما إن المطالبة بالاعتراف «تُشكّلُ المفهوم الأساس» في شرح كل الحالات المعاصرة لانعدام الرضا عن النظام العالمي الليبرالي: فلاديمير بوتين، وأسامة بن لادن، وتشي جينبينغ، وحركة «حياة السود مهمة»، وحركة #أنا_أيضاً [النسوية]، وزواج المثليين، وداعش، وبريكست، وانبعاث الحركات القومية الأوروبية مجدداً، والتيارات السياسية المناهضة للهجرة، والسياسة الهوياتية السائدة في الحرم الجامعي، وانتخاب دونالد ترمب. كما أنه يشرح أيضاً الإصلاح البروتستانتي، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والشيوعية الصينية، وحركة الحقوق المدنية، والحركة النسائية، والتعددية الثقافوية، وفكر كل من لوثر، وروسو، وكانت، ونيتشه، وفرويد، وسيمون دو بوفوار. آه، ولا ننسى أن كل ذلك يبدأ مع جمهورية أفلاطون. يغطي فوكوياما جميع هذه المواضيع في أقل من مئتي صفحة، فكيف يفعل هذا؟

بشكل سيء. الكتاب يحوي عدداً من المشاكل يأتي بعضها من فهم مغلوط لأشخاص مثل بوفوار وفرويد، وتأتي أخرى جرّاء إيجاز فكر كُتّاب معقدين على شاكلة روسو ونيتشه إلى مجرد قوائم نقاط فلسفية. كما تأتي كثيرٌ من مشاكل الكتاب من ذلك الشعور العجيب بالضجر لدى فوكوياما – وهو من رأى ما رأى – فيطرح فرضية عالميةِ الفكرِ الغربي بشكل لا مبال، وهي ذاتها الفرضية التي تقوم عليها نهاية التاريخ؟، سوى أن المشروع بأكمله، الذي يحاول حشر فلاديمير بوتين ضمن الأنموذج التحليلي نفسه مع حركة «حياة السود مهمة»، والعودة بهما سوية في الزمن، وربطهما بمارتن لوثر، لا يعدو أن يكون فرضية بعيدة المنال. إنها قضية أمهات الكتب: ليس التاريخ سوى سلسلة من الدمى الورقية المقتطعة من كتب لم يسمع بها سوى قلة قليلة من البشر. إن فوكوياما شخص ذكي، ولكن ما من أحد يمكن له إعمالُ جدالٍ كهذا.

لماذا تشكل الرغبة في الاعتراف – أو السياسة الهوياتية كما يدعوها فوكوياما – تهديداً لليبرالية؟ لأنه لا يمكن إرضاء تلك الرغبة عبر الإصلاحات الاقتصادية أو الإجرائية. فلا يشكل حصول جميع الناس على القدر نفسه من الثروة، أو على فرصة اقتناء القدر نفسه من الثروة، بديلاً عن الاحترام. يرى فوكوياما أن الحركات السياسية، التي تبدو وكأنها تسعى للحصول على المساواة القانونية والاقتصادية، كحركات زواج المثليين أو #أنا_أيضاً على سبيل المثال، تسعى في واقع الأمر للحصول على الاعتراف والاحترام. فالنساء اللواتي يتعرضنَ للتحرش الجنسي في أمكنة العمل يشعرنَ بأن كرامتهنّ هي ما انتُهِك، وأنهنَّ كُنَّ ضحايا معاملة حولتهنَّ لأنصاف بشر.

يمنح فوكوياما تلك الرغبة في الاعتراف اسماً إغريقياً مستعاراً من جمهورية أفلاطون وهو «ثيموس thymos»، ويُعرّفه على أنه «جانب عام من الطبيعة البشرية لطالما وُجِدَ لدى الإنسان». وفي كتاب الجمهورية، يتميز الثيموس عن الجزئين الآخرين من الروح البشرية، وهما ما أسماهما سقراط العقل والرغبة. ففي حين نشترك مع الحيوانات بالرغبة، فإن العقل هو ما يجعلنا بشراً، بينما يقبع الثيموس بين هذين الجزئين.

تُرجِمَ مصطلح ثيموس بأكثر من طريقة، فهو حيناً الشغف وأحياناً أخرى النفس المتوثبة. يُعرّف فوكوياما الثيموس على أنه «مقر أحكام القيمة» فيما يبدو كمبالغة دلالية. ففي الجمهورية يعمد سقراط إلى ربط الثيموس بالأطفال والكلاب، أي بتلك الكائنات التي تحتاج انفعالاتها إلى ضبط العقل وتحكمه، إذ يشير المصطلح عموماً إلى استجابتنا الغريزية حال شعورنا بتعرضنا للاحتقار. عندها يقف شعرنا وتنتفخ عزة نفسنا ونزمجر منذرين؛ أي أننا نبالغ في ردة فعلنا.

قام أفلاطون بجعل سقراط يقسم الروح البشرية إلى ثلاثة أقسام من أجل تعيين أدوار للمواطنين في جمهوريته المتخيلة. فجعل من الرغبة الصفة الأساسية للعامّة، فيما خص المحاربين بالشغف، أما العقل فهو من حصة الملوك الفلاسفة. إن الجمهورية فلسفة، وليست شكلاً من أشكال العلوم المعرفية، ولكن فوكوياما يتبنى تقنية أفلاطون الاستكشافية، ويمنحها بعداً بيولوجياً. فهو يقول إننا «نعلم اليوم أن مشاعر الفخر والاعتزاز بالنفس ترتبط بمستويات الناقل العصبي، السيروتونين، في الدماغ»، مُشيراً إلى دراسات جرت على قردة الشمبانزي (والتي كان سقراط ليعتبرها حيوانات، ولكن لا بأس الآن).

إذن ما الذي يريده فوكوياما هنا؟ ترتبط كثيرٌ من المشاعر بتغيرات مستويات السيروتونين. وفي الواقع فإن كل شعور نختبره، إن كان ذلك الشهوة أم الغضب أم الإحباط أم الحنق، هو نتيجة لتغيرات في كيمياء الدماغ. هكذا يعمل العقل الواعي، ولكن أن نقول، كما فعل فوكوياما، بتجذّر الرغبة في الحصول على المنزلة – الميغالوثيميا– في البيولوجيا البشرية، فسيكون هذا المعادل الأكاديمي لقراءة الكفّ. أنتَ تختلقُ القصة برمتها.

يلجأ فوكوياما إلى هذا التكتيك لأنه يريد أن يصنع بالرغبة في الاعتراف ما صنعه قبلاً بالليبرالية في «نهاية التاريخ؟»، فهو يريد أن يُعمّم المفهوم مما يسمح له بأن يجادل، على سبيل المثال، أن المشاعر التي قادت إلى بروز فلاديمير بوتين هي تماماً المشاعر نفسها (وإن كانت «على نطاق أوسع») التي تنتاب إمرأة تشتكي من التمييز الجندري الذي يحدّ من قدراتها. ليس بيد المرأة حيلة. هي تحتاج السيروتونين مثلها مثل الروس.

اعتقدَ هيغل يوماً بأن نهاية التاريخ ستأتي عندما يحقق البشر تمام معرفة الذات والقدرة على التحكم بالذات، وعندما تصبح الحياة عقلانية وشفافة. تشكل كل من العقلانية والشفافية قيم الليبرالية الكلاسيكية التي من المفترض أن تجعل الأسواق الحرة والانتخابات الديموقراطية تفعل فعلها. فعندما يفهم الناس كيف يعمل النظام، يمكن لهم اتخاذ خيارات عقلانية.

أما المشكلة مع الثيموس فهي أنه ليس عقلانياً، فالناس لا يعمدون فقط إلى التضحية بالمتاع الدنيوي من أجل الحصول على الاعتراف، ولكنهم أيضاً يموتون من أجل ذلك الاعتراف، وخيار الموت ليس عقلانياً. يختتم فوكوياما طرحه هذا بالقول إن «النفس البشرية أكثر تعقيداً مما يقترحه النموذج الاقتصادي الساذج إلى حد ما».

لكن كيف كان ذلك العامل الاقتصادي العقلاني معقولاً يوماً؟ ليست المسألة أن البشر عصابيون فقط، بل المسألة أن المال يتبوأ الصدارة تقريباً على قائمة الأشياء التي تجعل البشر عصابيين. فالناس يكنزون المال ويبذّرونه، وهم يتزوجون لأجله ويقتلون لأجله أيضاً. ألا يقرأ الاقتصاديون الروايات؟ ما من رواية واقعية تقريباً بِدأً من روايات أوستن وبلزاك وصولاً إلى روايات جيمس ووارتون، تخلو من أناس يتصرفون بشكل سيء في مواقف تتصل بالمال. ولم تغير الأسواق الحرة ذلك الواقع، بل يمكن لنا أن نحاجج أنها جعلت من الناس أكثر جنوناً.

وكما هو الحال مع المال، ينطبق ما سبق على معظم مناحي الحياة. إن الفكرة التي تقول إن أننا ملكة العقل التي تعمل بشكل مستقل عن حاجاتنا ورغباتنا ومخاوفنا وخرافاتنا لا تعدو على أن تكون فكرة أفلاطونية. في هذه اللحظة تحديداً، أنت تحاول أن تقرر فيما إذا كنت ستنهي قراءة هذه المقالة أم أنك ستقلب الصفحة إلى مسابقة تعليقات الرسوم الكرتونية، فأي ملكة عقلية تُستخدم لاتخاذ هذا القرار؟ وأي ملكة عقلية مسؤولة عن رأيك بدونالد ترمب؟ كيف يمكنك التفريق بينها؟

يمكن قراءة الهوية ككتاب تصحيح للموقف الذي اتخذه فوكوياما في نهاية التاريخ؟. لا تعيق الإيديولوجية، كالفاشية والشيوعية، الليبراليةَ العالمية، ولكن الشغف هو ما يعيقها. تبقى الليبرالية النظام السياسي والاقتصادي المثالي، ولكنها بحاجة لإيجاد طرق لاستيعاب الرغبة بالاعتراف المزعجة هذه وتحييدها. سوى أن الغرابة في إشكالية فوكوياما تكمن في غياب الاعتراف كمشكلة عن المصدر الفلسفي لنظريته الأصلية حول نهاية التاريخ. بل في الواقع، لقد كان الاعتراف وسيلة الوصول إليها.

لم يكن هيغل هو المصدر، لكنَّ فوكوياما، وكما أقرّ بوضوح في نهاية التاريخ؟، كان يتبنى تأويلاً لهيغل ظهر في ثلاثينيات القرن العشرين، وَضَعَهُ مغامرٌ مفكّرٌ شبه مغمور يدعى ألكسندر كوجيف. أما كيف وجدت أفكار كوجيف طريقها إلى صفحات مجلة سياسية تصدر في واشنطن بعد مرور خمسين عام، فلهذا قصة غير اعتيادية تشبه لعبة كراسي موسيقية يلعبها مثقفون.

ولد كوجيف في العام 1902 في عائلة موسكوفية ميسورة، وتربّى في جو من الثقافة، وعمه كان الرسام فاسيلي كاندنسكي. كان كوجيف فلتة، إذ أنه أتقن الروسية والألمانية والفرنسية والإنكليزية، وكان يقرأ اللاتينية عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره، وفيما بعد تعلم أيضاً السنسكريتية والصينية والتيبيتية من أجل دراسة البوذية. في العام 1918، دخل السجن بسبب صفقة سوق سوداء ما، وعند خروجه من السجن، تمكن بصحبة صديق له من عبور حدود الاتحاد السوفييتي المغلقة باتجاه بولندا، حيث تعرض أيضاً للسجن لفترة قصيرة بسبب شبهة تجسس. غادر كوجيف إلى ألمانيا بدفعٍ من السلطات البولندية. وفي ألمانيا، درس كوجيف الفلسفة مع كارل جاسبرز في هايدلبرغ، وعاش حياة رفاهية في برلين أيام جمهورية فايمار. انتقل كوجيف إلى باريس في العام 1926 حيث استمر بعيشة الرخاء التي دأب عليها في ألمانيا فيما كان يكتب أطروحة حول فيزياء الكمّ.

استثمر كوجيف ميراثه في فرنسا في الشركة المصنعة لجبنة «لا فاش كيري»، ولكنه خسر كل شيء في انهيار أسواق الأسهم. وفي العام 1933، وبسبب حاجته إلى الدخل، قبل عرضاً قدمه له أحد أصدقائه كي يشرف على حلقة دراسية عن هيغل في مدرسة الدراسات العليا École Pratique des Hautes Études وانتهى به الأمر بتدريس ذلك المقرر لمدة ست سنوات.

بدا المحيطون بكوجيف يومها وكأنهم رأوا فيه ساحراً. في الحلقة الدراسية عن هيغل عمل كوجيف على تدريس نص واحد فقط: فينومينولوجيا الروح الذي كان صدر للمرة الأولى في العام 1807. اعتاد كوجيف أن يلقي أحد المقاطع منه بالألمانية (فلم يكن النص قد تُرجم إلى الفرنسية بعد)، وبعدها يرتجل تعليقاته الخاصة بفرنسية متقنة (وإن شابتها لكنة سلافية جذابة). وجد الناس فيه مُدرّساً مفوهاً ولماحاً بأسلوب يأسر الألباب. وعلى الرغم من أن أعداد من تسجلوا في تلك الحلقات الدراسية بقي قليلاً يراوح العشرين طالباً، إلا أن عدداً من أشهر المفكرين اللذين كانوا سيبرزون في السنوات التالية، كحنة أرندت وجاك لاكان، درسوا ذلك المقرر أو حضروا جلساته.

كان الاعترافُ هو المفهوم الأساسي في كتاب هيغل كما رآه كوجيف، فالبشر يطلبون اعتراف الآخرين بهم من أجل حصولهم على إدراكهم لذاتيتهم كأفراد مستقلين بأنفسهم. وبحسب كوجيف، فإن البشر يرغبون إما بالحصول على ما يرغب به بشر آخرون، أو أنهم يشعرون بالرغبة تجاه بشر آخرين. وهو يقول إن «التاريخ البشري إنما هو تاريخ الرغبات المرغوبة». وما يُعقّدُ هذا الأمر أن الصراع من أجل الاعتراف يُنتِجُ رابحين وخاسرين، والتعابير التي استخدمها هيغل لوصف هؤلاء يمكن ترجمتها بالسادة والخدم، ولكنها أيضاً يمكن أن تعني السادة والعبيد، وهي التعابير التي استخدمها كوجيف. فالسيد يحصل على اعتراف العبد، ولكن يحصل أيضاً على رضى فارغ؛ فهو لا يعترف بالعبد كإنسان بدوره، والعبد الذي يفتقر إلى اعتراف سيده سيبحث عن الاعتراف بطريقة أخرى.

اعتقد كوجيف أن تلك الطريقة الأخرى هي العمل. العبد يحقق إحساساً بذاته عبر عمله الذي يحول العالم الطبيعي إلى عالم إنساني. لكن رفض السيد الاعتراف بالعبد هو ما يقوده إلى العمل بالدرجة الأولى. تُشكِّلُ «جدلية السيد-العبد» هذه محرك التاريخ البشري الذي سيصل نهايته عندما يختفي السادة والعبيد، وعندما يحصل الجميع على الاعتراف بتساويهم.

هذه الفكرة هي التي تبناها ماركس من أجل وصف التاريخ على أنه تاريخ الصراع الطبقي. وفي هذا التاريخ هنالك أيضاً من يربح الصراع ومن يخسره، ومرحلته ما قبل الأخيرة كانت الصراع بين الملّاك (البورجوازية) والعمال (البروليتاريا). ينتهي الصراع عند إسقاط الرأسمالية وتَحقُّقِ المجتمع اللاطبقي أي الشيوعية. دعا كوجيف نفسه شيوعياً – عابثاً كان أم لا – ومن كان يستمع له في ثلاثينيات القرن العشرين فَهِمَ هذا الأمر على أنه الأساس الذي يقوم عليه تعليقه على نص هيغل. تُشكِّلُ المساواة في الاعتراف، شيوعيةً كانت أم ليبرالية، هدف التاريخ، وعند تحققها سيتوقف الناس عن قتل بعضهم بعضاً باسم الكرامة والاعتداد بالنفس، وغالباً ما ستصبح الحياة مُضجرة.

نشرت محاضرات كوجيف بعد الحرب في كتاب بعنوان مقدمة في قراءة هيغل صدرت منه عدة طبعات في فرنسا. يومها كان كوجيف قد توقَّفَ عن التعليم وأصبح موظفاً في وزارة الشؤون الاقتصادية الفرنسية، حيث لعب دوراً مؤثراً من الكواليس من أجل تأسيس الاتفاقية العامة للتعرفات والتجارة (الغات GAAT)، والمجموعة الاقتصادية الأوروبية التي سبقت إنشاء الاتحاد الأوروبي. أي بكلام آخر، شارك كوجيف في عملية السوقنة المشتركة، وكان يحب أن يقول إنه يدير دفة نهاية التاريخ.

في العام 1953، التقى آلان بلوم الذي كان طالب دراسات عليا في جامعة شيكاغو يومها كوجيف في مكتب الأخير في الوزارة في باريس. تم الاتصال بين الاثنين غالباً عن طريق المُنظّر السياسي المهاجر ليو شتراوس الذي كان يدرس في جامعة شيكاغو وقام بمراسلات مطولة مع كوجيف. أما بلوم فقد قال لاحقاً: «لقد جرى إغوائي». بدأ بلوم بالدراسة مع كوجيف واستمرت لقاءاتهما حتى موت الأخير في العام 1968. وفي العام 1969، رتّبَ بلوم أمور نشر الترجمة الإنكليزية الأولى لمحاضرات هيغل وساهم في كتابة المقدمة. صار بلوم يومها أستاذاً في جامعة كورنيل.

دخل فوكوياما جامعة كورنيل في سنته الجامعية الأولى في العام 1970، وهو أقام في تيليورايد هاوس التي ضمّت مجتمعاً أكاديمياً مختاراً للطلاب وأعضاء الكلية، وحيث أقام بلوم أيضاً. تسجّلَ فوكوياما في مقرر بلوم لطلاب السنة الأولى حول الفلسفة الإغريقية، ووفقاً لأتلاس «تشاركَ فوكوياما وبلوم الوجبات وتحدّثا عن الفلسفة كل الوقت».

صدف أن تلك كانت سنة بلوم الأخيرة في كورنيل، فهو استقال احتجاجاً على الطريقة التي تعاملت بها الإدارة مع احتلال طلاب مسلحين من الجمعية الأفرو-أمريكية لأحد مباني الجامعة. تخرج فوكوياما في العام 1974 بدرجة في الكلاسيكيات. وبعد دراسة ملحقة للنظرية الما بعد بنيوية في جامعة ييل وفي باريس، انتقل فوكوياما إلى حقل العلوم السياسية، وحاز على درجة الدكتوراه من قسم الدراسات الحكومية في هارفارد وتخرج في العام 1979 والتحق بمؤسسة راند.

يومها كان بلوم قد عاد إلى جامعة شيكاغو أستاذاً في لجنة الفكر الاجتماعي. وفي العام 1982، نشر مقالة عن وضع التعليم العالي في مجلة ويليام إف بوكلي National Review. لم يجد بلوم في مقالته هذه أن الوضع جيد، وقد قرر لاحقاً وبتشجيع من صديقه الكاتب سول بيلو تحويل المقالة إلى كتاب، وهكذا ظهر إغلاق العقل الأمريكي،3 الذي نشرته دار Simon & Schuster  في شباط/فبراير من العام 1987. أطلق الكتاب حملة من النقد تجاه التعليم العالي في أميركا، وهي لم تهدأ منذ ذلك الحين.

يمكن اعتبار إغلاق العقل الأمريكي كمحاولة لواحد من أمهات الكتب من أجل دراسة صعود النسبية الثقافية، وهي التي رأى فيها بلوم آفة التعليم العالي في أميركا. لم تُخامِر أياً من المسؤولين في دار Simon & Schuster آمال مبشرة حيال مبيعات الكتاب. هنالك قصة، منحولة غالباً، تقول إن المحرر الذي وقّع الكتاب كان إيروين غلايكس، الذي عندما ترك الشركة كي يدير دار Free Press دُعي كي يأخذ معه الكتاب – غير المنشور حينها – ولكنه رفض.

لو صدقت هذه القصة لكان غلايكس فوّتَ من يده واحدة من ظواهر النشر في ذلك العقد. فبعد بداية بطيئة، تبوأ كتاب إغلاق العقل الأمريكي المرتبة الأولى في قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعاً، وبقي فيها لشهرين ونصف. بحلول آذار/مارس من العام 1988، حقق الكتاب مبيع مليون نسخة في الولايات المتحدة وحدها، وحقق الثراء لبلوم.

كان بلوم، برفقة أستاذ آخر في جامعة شيكاغو يدعى ناثان تاركوف، من دعى فوكوياما كي يلقي تلك الكلمة حول العلاقات الدولية في شباط/فبراير 1989. من السهل تَخيُّل فوكوياما يومها يقرر في تلك الظروف قول شيء ما يحمل سمة أفكار كوجيف، حتى ولو لم يفكر في ذلك بداية.

عندما ظهرت مقالة نهاية التاريخ؟ على صفحات The National Interest في ذلك الصيف، كان بلوم قد أصبح نجماً لامعاً في فلك المحافظين الجدد، وكانت مقالته التي كتبها تعليقاً على مقالة فوكوياما هي المقالة الأولى من ستة مقالات نشرتها المجلة برفقة نهاية التاريخ؟. وصفَ بلوم ما كتبه فوكوياما بالمقالة «الجريئة والذكية». وفي محاولة لضبط أشرعته مع اتجاه هبوب الريح عرض غلايكس على فوكوياما ستمئة ألف دولار من أجل تحويل مقالته إلى كتاب، وهكذا نشرت دار Free Press كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير في العام 1992.

تحوّلَ الكتاب أيضاً إلى واحد من أكثر الكتب مبيعاً، ولكنه لم يحقق نسب مبيعات هائلة، ربما لأن الحماسة التي ثارت حول حدث نهاية الحرب الباردة كانت قد خمدت عندها. أخذ فوكوياما وقته في كتابة نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فهو لم يكن مجرد مقالة تطبخ على نار حامية، بل كان دراسة متأنية حيال أسئلة أثارتها مقالته في The National Interest، وكان أحد تلك الأسئلة مشكلة الثيموس الذي يشغل حيزاً كبيراً من الكتاب. الكثير أيضاً مما يحتويه كتاب الهوية الجديد يُوجِزُ ما كان فوكوياما قد قاله بالفعل في كتابة الأول.

أكّدَ عِدة كُتّاب غير كوجيف على أهمية الاعتراف، ومن ضمنهم الفيلسوف الكندي تشارلز تيلور، على سبيل المثال، الذي جادل كتابه مصادر الذات المنشور في العام 1989 أيضاً في أن فكرة الذات الحداثية تتضمن انزياحاً ثقافياً من مفهوم الشرف الذي يخص البعض، باتجاه الكرامة التي يبتغيها الجميع. وفي العام 1992، قام تيلور في مقال بعنوان سياسة الاعتراف بتحليل تقدم التعددية الثقافوية، مُستخدماً مصطلحات شبيهة بتلك التي يستخدمها فوكوياما في كتاب الهوية، ولا ننسى أن تيلور أيضاً خبير بهيغل.

يُقرّ فوكوياما أن السياسة الهوياتية حقَّقت بعض الأمور الجيدة، وهو يقول إن الناس في اليمين يبالغون في سيادة الصوابية السياسية وتأثيرات التمييز الإيجابي. وهو يعتقد أيضاً أن الناس في اليسار أصبحوا مهووسين بالسياسات الثقافية والهوياتية وأنهم تخلوا عن السياسة الاجتماعية. ولكنه يُفاجئنا بطرحه القليلَ من الاقتراحات حول السياسة.

لا يهتم فوكوياما بالحلّ الذي عادةً ما يتبناه الليبراليون من أجل التكيف مع التنوع، أي اللجوء إلى التعددية والتعددية الثقافوية. من جهته يقوم تايلور، على سبيل المثال، بمناصرة حق أهالي كيبيك إقرار قانون يحافظ على الثقافة الفرنسية في مقاطعتهم. ويسلم فوكوياما بحاجة الناس إلى شعورهم بالهوية القومية في حال كانت هوية إثنية أو عقائدية، ولكنه أيضاً يظل ذلك المناصر للاستيعابية والعولمة، الذي يريد كيَّ الاختلافات بدلاً من حمايتها. وهو يقترح في سبيل ذلك إجراءات تشمل فرض الخدمة الوطنية الإجبارية، ومساراً هادفاً أكثر من أجل منح الجنسية للمهاجرين.

إنه لمن سوء الحظ أن فوكوياما رأى تعليق طربوش الباشكاتب خاصته على مشجب ادعاءاتٍ ما وراء تاريخية. في كتبه الأخرى، وخاصة القطيعة الكبرى (1999)4 وتاريخ العالم في جزئين: أصول النظام السياسي (2011)5 والنظام السياسي والانحطاط السياسي (2014)6، يلحظ فوكوياما الاختلافات الحضارية، ويستخدم بيانات تجريبية كي يشرح الاتجاهات الاجتماعية. أما الثيموس فهو أداة خرقاء جداً كي تساعدنا على فهم السياسة المعاصرة.

أليس هاماً أن نميز بين الأناس الذين لا يريدون للاختلافات أن تعني شيئاً، كناشطي #أنا_أيضاً و«حياة السود مهمة»، وأولئك الأناس الذين يريدون للاختلافات أن تعني كل شيء، كمقاتلي داعش والمصوتين لصالح البريكست أو أي من القوميين الانفصاليين؟ وماذا عن أولئك الذين ليسوا مكسيكيين أو مهاجرين، ولكنهم يشعرون بالسّخط جراء أسلوب التعامل مع المهاجرين المكسيكيين؟ لقد خاطر الأمريكيون السود بحياتهم من أجل حصولهم على حقوقهم المدنية، ولكن هذا ينطبق أيضاً على الأمريكيين البيض، فكيف يمكن لسقراط أن يصنف ذلك السلوك؟ هل سيكون ذلك بالثيموس المستعار؟

وقد يكون من المستحسن أيضاً استبدال المفهوم الجدلي للتاريخ الذي استخدمه في الواقع كل من هيغل وكوجيف، بذلك المفهوم الخطي للتاريخ «في حال استمرار الاتجاهات» الذي يرى في التاريخ سيرورةً ثابتةً باتجاه حالة مستقرة. إن الاتجاهات السائدة لا تستمر، بل هي تُنتِجُ ارتدادات وإعادة خلط للأوراق الاجتماعية. ولا تعدو الهويات، التي يعتنقها الناس اليوم، على أن تكون تلك الهويات التي سينبذها أولادهم غداً. والتاريخ ليس سوى سلسلة من الشقلبات المستمرة حتى النهاية. ولهذا فإنه من الصعب على الإنسان أن يكتب، ومن الصعب عليه أن يتنبأ، إلا إذا ما كان محظوظاً.

هذا النص هو ترجمة يامن صابور لنص لوي ميناند المنشور في موقع مجلة نيويوركر يوم الثالث من أيلول 2018.

  1. The Sources of Soviet Conduct
  2. Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment. Published by: Farrar, Straus & Giroux.
  3. The Closing of the American Mind
  4. The Great Disruption
  5. The Origins of Political Order
  6. Political Order and Political Decay

موقع الجمهورية

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى