شهادات

مآلات الثورة السورية – 1: الثورة إذ تأخذ المعارضة على حين غرّة/ وائل السوّاح

 

 

لم يوجد الحراك الشبابي المنظم في سورية، إذن، في ليلة واحدة، ولم يولد صبيحة يوم الخامس عشر من آذار، 2011، بل كان حالة تراكمية، تعود دوافعها – كما أسلفنا – وإرهاصاتها الأولى إلى عقد مضى، أما بوادرها الحالية فبدأت مع تفجر الحركات الشبابية المدنية في كل من تونس ومصر. وقد بدأ مع مجموعة من الأفراد ذوي تفكير مدني، يمكن القول إنهم ليسوا سياسيين أو أنهم لا يتمتعون، وفقا لما يقوله رئيس المركز السوري للدراسات وحرية التعبير عن الرأي مازن درويش، بتاريخ وتجربة سياسيين، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا لا-سياسيين”   بل كان يشغلهم هم سياسي-وطني، دون أن يكون لهم تاريخ في العمل السياسي المنظم.

وواقع الحال أنه منذ شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2010، بدأت مجموعات من الأفراد متفاوتة العدد والآراء والخلفيات الاجتماعية، باللقاء في البيوت والمقاهي والأماكن العامة لمناقشة ما يجري في كل من تونس ومصر، وبدأت تبحث سؤالا مهما: “ما الذي يمكن أن نقدمه إلى الثورتين في مصر وتونس.” وروجت صفحة “أنا سوري أنا تونسي” على فيسبوك دعوات لتغيير صورة الصفحة الشخصية (البروفايل) للمستخدمين السوريين إلى صورة العلم التونسي، كتعبير عن “التضامن مع انتفاضة تونس”.

ثم بدأت الحركة تأخذ شكلا أكثر تنظيما مع اندلاع الثورة في البحرين، وخاصة في ليبيا. لقد كان العنف الوحشي الذي قابل به العقيد الليبي المخلوع معمر القذافي انتفاضة شعبه سببا لحشد أعداد متزايدة من الشباب السوري وبدأت مع انتصاف شهر كانون الثاني / يناير حملة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تدعو إلى ما سمي بـ”يوم الغضب السوري.” وقد شاركت في الدعوات إليه جهات مدنية وسياسية شعبية سورية، ولكن الدعوة على ما يبدو “وُجهت أساسا من ناشطين سوريين في خارج البلاد.” وكان من المنتظر أن يتم اعتصام قبالة مجلس الشعب (البرلمان) في قلب العاصمة دمشق. ولعل اختيار المكان تم بناء على رمزيته السياسية، ولكن أيضا استرجاعا لأول اعتصام قام به سوريون في ثلاثين سنة، عندما دعا ناشطون سوريون إلى اعتصام في ذلك المكان في الثامن آذار، 2004.

وبدورها دعت “اللجان الشعبية في محافظة حلب الشهباء”، عبر صفحة أُنشِئت على فيسبوك تحت عنوان “الوقفة السلمية في ساحة سعد الله الجابري”، إلى التجمع لمدة ساعة في أشهر ساحة في حلب (شمال) في اليوم ذاته.

ولكن يوم الخامس من شباط، وكان يوم جمعة، مرّ بهدوء شديد. ووفق ما يرويه أحد الناشطين، فإنه طاف بشوارع قلب المدينة ومر من شارع الصالحية (مقر البرلمان) ولكنه لم ير سوى رجال الأمن المنتشرين بكثافة شديدة، دون أن يكون ثمة أي تواجد للناشطين. لا شك أن فشل نهار الخامس من شباط كان سببا لإحباطٍ لدى العديد من الناشطين، ولكن بعضهم استغل هذا الإحباط ليكون محرضا على الاستمرار في البحث عن شرارة للحراك السوري. ولعل هذه الشرارة كانت عندما وقع شجار بين شرطي سير وتاجر شاب من تجار سوق الحريقة العريق وسط العاصمة السورية، يوم 17 شباط/فبراير، عندما تجمهر بضعة مئات يهتفون لأول مرة منذ أربعة عقود شعارات مناهضة للقمع في سورية، كان أبرزها “الشعب السوري ما بينذل”.

وكان الرئيس السوري بشار الأسد استبعد في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية في 31 يناير/كانون الثاني 2011 تكرار سيناريو تونس ومصر في بلاده، وبرر ذلك بقوله إن سوريا في وضع أفضل من مصر، لأنها لا تقيم علاقات مع إسرائيل. كما استبعد تبني إصلاحات سريعة وجذرية، معللا ذلك بحاجة بلاده إلى “بناء المؤسسات” وتحسين التعليم قبل انفتاح النظام السياسي، وحذر من أن المطالب بالإصلاحات السياسية السريعة قد يكون لها ردة فعل سلبية “في حال لم تكن المجتمعات العربية جاهزة لها”.

بيد أن الأمور لم تسر وفق هذه الحسابات. ففي 3 شباط/فبراير، قام الناشطون السوريون باعتصام خجول بالشموع للتضامن مع ثورة مصر. تلاه اعتصام ثان في ساحة باب توما في دمشق القديمة. ووفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان، فإن السلطات السورية لم تتدخل عندما تعرض خمسة عشر شخصا للضرب على أيدي رجال يرتدون ثيابا مدنية، بينهم الناشطة المعروفة سهير أتاسي. وفي 17 شباط/ فبراير، جاءت حادثة الحريقة لتشعل فتيل التحرك الشعبي المطالب بالحريات.

وانتظر السوريون تطور الثورة الليبية وتعاظم القمع والقتل الذي مارسه العقيد الليبي معمر القذافي، ليأتي تضامنهم مع الليبيين مؤازرة لهم، وتصعيدا في موقف الناشطين السوريين. وتروي الناشطة الدمشقية مروة الغميان كيف قُيض لها أن تلعب دورا في الانتفاضة السورية، فتقول إن سؤالا كان يؤرقها منذ بداية ثورة تونس ومصر: متى ستبدأ الثورة في سورية؟ وفي كل مرة كانت تطرح هذا السؤال على أصدقائها، كانوا يسكتونها بقولهم إن الثورة في سورية مستحيلة “بسبب الحساسية الطائفية وشدة القمع الذي لا يضاهى بأي قمع آخر.”  ولكن هذا الجواب ما كان ليهن من عزيمتها، كما تقول، بل على العكس يزيدها إصرارا لكي تثبت للعالم عكس تلك النظرية.

وتروي مروة كيف بدأ أول نشاط لها أثناء الاعتصام أمام السفارة الليبية في حي أبو رمانة الراقي في دمشق. تقول إنها التقت ببعض أصدقائها في إحدى الحدائق العامة القريبة من السفارة الليبية الذين كانوا يعتصمون فيها ويحملون الشموع، منددين بالقذافي. وبعد أن كرر المتظاهرون مجموعة من الهتافات، بدؤوا بالغناء، ولكن إحدى الصبايا صاحت فيهم: “يا شباب، هذه ليست حفلة غنائية”. ساعتها تجرأت مروة واقترحت عليهم الذهاب إلى السفارة. وبعد تصويت سريع انتصر رأيها وتحرك الحشد الصغير صعودا باتجاه السفارة الليبية. وعندما اقترب الحشد من السفارة، منعهم ضباط الأمن من إنزال علم القذافي، ورفع علم ليبيا القديم مكانه. وتقول مروة: “وقتها التفتت للمتظاهرين وهتفت “خاين الي بيقمع شعبه”. وسرعان ما انهالت صفعة هائلة على وجه الصبية وأصدقائها. كانت تلك الصفعة شرارة إضافية، لأن مروة تقول إنها لم تصفع في حياتها من أحد قط. ووفق كلماتها، فإنها قررت لحظتها أنها ستشارك في التحضير للثورة “حتى وإن كلفني ذلك استشهادي أو اعتقالي”.

لقد تضافرت جهود عدد لا بأس به من الشباب والفتيات في دمشق أساسا، ولكن في مدن أخرى أيضا (مثل حلب التي لعب فيها الناشط الإسلامي المسنّ غسان النجار دورا مهما أدى إلى اعتقاله لبضعة أيام) من أجل التحضير إلى يوم آخر لتندلع الانتفاضة السورية. وبدأت أسماء ناشطين وناشطات من الجيل الجديد تظهر باعتبارها عناصر فاعلة في تنظيم مثل هذه المناسبات. ومن بين هذه الأسماء برز على وجه الخصوص أسماء رزان زيتونة وسمر يزبك وسهير أتاسي وعامر مطر وخالد الاختيار وغياث مطر ويحيى الشربجي ومروة الغميان. وهذه الأخيرة ستروي كيف ساهمت بيوم الاحتجاج الذي كان تقرر يوم 15 آذار/مارس.

يبدو من رواية مروة الغميان ورواية عدد كبير من الذين تحدثوا عن تجربتهم في تلك الفترة أنهم لم يكونوا يستخفّون بهذه المسألة وهم يعرفون أنهم سوف يدفعون ثمنا كبيرا. وجاء يوم 15 آذار/مارس. وصل إلى سوق الحميدية عدد صغير من الناشطين بينهم مروة وصديقتها نورا وحفنة من الشباب الذين لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وانتهى باعتقالهم جميعا، دون أن يتفاعل معهم أحد من تجار السوق أو المارة.

ولكن بموازاة هذا الجهد لخلق شرارة تطلق الثورة في دمشق، كان حفنة من الأفراد يعملون على مسار آخر. ففي 7 آذار/مارس أصدر الرئيس السوري عفوا رئاسيا عاما عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 7 مارس/آذار 2011 ولكنه جاء خاليا من الإشارة إلى معتقلي الرأي والسياسيين، ما أثار خيبة أمل حقوقية سورية. وكان أن اتصل ناشطون حقوقيون وسياسيون من الجيل الجديد، ومعظمهم شارك في الاعتصامات أمام السفارتين المصرية والليبية وفي الحدائق العامة، بمعتقلين سياسيين في سجن عدرا ونسقوا معهم حملة مشتركة، يعلن المعتقلون فيها إضرابا عن الطعام بينما يقوم الناشطون بحملة من أجل إطلاق سراحهم. وهذا ما حدث، فقد أعلن معتقلون سياسيون إضرابا مفتوحا عن الطعام، وقام الناشطون في الخارج بتنظيم اعتصام أمام وزارة الداخلية صبيحة يوم الأربعاء 16 آذار/مارس، للمطالبة بإطلاق سراحهم.

كان كاتب هذه السطور بين المحتجّين، ورأى رأي العين رجال الأمن المجهز بالهراوات، ويضربون المتظاهرين بوحشية، دون أن يسلم من الضرب أحد. اعتقلوا الشباب والبنات بوحشية فظيعة. ثم أحاطت بنا أعداد كبيرة من الموالين للنظام، وهم يرفعون صور بشار الأسد ويهتفون بحياته ويشاركون في ضرب المتظاهرين.

ويروي، ضياء الدين دغمش، وهو ناشط دمشقي آخر وطالب ماجستير في الحقوق ما حدث له في ذلك اليوم فيقول: ” شاركت في الاعتصام أمام وزارة الداخلية للمطالبة بإطلاق سراح سجناء الرأي، فاعتُقلت وضُربت بشكل وحشي في ساحة المرجة بدمشق من قبل عشرات العناصر من قوات الامن، وأنا أتعرض للشتائم والاتهام بأنني عميل وخائن وصهيوني… كنا 33 معتقلاً، 22 شاباً، و11 فتاة، أمضينا يومين في فرع الأمن العسكري في المزة، وبعد أن أصدر القضاء مذكرات توقيف بحقنا نقلنا إلى سجن عدرا، حيث بقيت 15 يوما”.

لم تبدأ الثورة في دمشق إذن، ولكنها بدأت في مكان آخر. ففي 6 آذار/مارس، اعتقل الأمن السوري في مدينة درعا على الحدود السورية-الأردنية عددا من الصبية كانوا يدونون شعارات مناهضة للرئيس بشار الأسد على الجدران. وتدور في سورية قصة مفادها أنه عندما قدم أهاليهم إلى مدير الأمن في درعا، عاطف نجيب، وألقوا أمامه عمائمهم وطلبوا منه أن يطلق سراح الصبية، أبى وقال لهم: “انسوا أولادكم واذهبوا لنسائكم وأتوا بأولاد غيرهم؛ وإذا لم تستطيعوا ذلك أحضروا النساء لنقوم نحن بذلك.” فثارت درعا عن بكرة أبيها أنفا وغضبا. لا يمكننا تأكيد هذه الحادثة التي قد تبدو روائية، ولكن وبغض الطرف عن صحة هذه الحادثة، فإن الوضع، كما يروي الناقد والباحث السوري حسان عباس، كان مهيأ للانفجار في عموم البلاد وهو ينتظر الشرارة التي ستدفع بالناس إلى الشوارع. وقد جاءت هذه الشرارة من درعا في أقصى الجنوب.

ففي أول جمعة من أيام الجمعة التي ستغدو شهيرة في سورية، انطلقت تظاهرات سلمية لتعمَّ مدينة درعا. وتقول منظمة الكرامة لحقوق الإنسان، وهي منظمة عربية سويسرية محترمة مقرها جنيف، إن “الاستعمال المفرط للقوة قد أسفر عن سقوط العديد من الجرحى، بالإضافة إلى شنّ حملة من الاعتقالات العشوائية في العديد من مناطق سوريا.” وتضيف المنظمة أن ستة قتلى على الأقل سقطوا في المدينة بينهم صبي (مؤمن المسالمة) في الرابعة عشرة من عمره.

سيفتتح هؤلاء القتلى لائحة طويلة من القتلى السوريين من المدنيين الذين سقطوا على يد قوات الأمن والجيش وما يسمى “الشبيحة”، وهم عناصر ميليشيوية موالية للنظام السوري، وقد بلغ عدد الذين سقطوا قتلى حتى نهاية العام 2011، 5000 شخص، وفق إحصائيات الأمم المتحدة. وحسب عباس، فقد “حدث الانفجار الذي سرعان ما انقذفت شظاياه إلى مدن سورية أخرى كانت متأهبة هي الأخرى للتظاهر والاحتجاج. وكانت أولى المدن التي تلقت الشرارة مدينة اللاذقية على ساحل المتوسط.”

بدأت المظاهرات في المدينة سِلمية، ومن كل المكونات المجتمعية والثقافية والسياسية. وكانت مطالبها تنحصر في الحرية والعدالة واستعادة الكرامة المهدورة، كما عبرت الشعارات المرفوعة وقتها: “سلمية.. سلمية..” و”حرية.. حرية..” و” الشعب السوري ما بينذل. ” وعبرت الشعارات أيضا عن الوحدة الوطنية “واحد، واحد، واحد: الشعب السوري واحد.” . وبقيت المظاهرات في الأيام الأولى محصورة في درعا، بينما كان السوريون في مناطق أخرى يتابعون أخبارها غير مصدقين.

وفي يوم الأربعاء 23 آذار/مارس، وردت تقارير تفيد بمقتل ما لا يقل عن 15 متظاهرا على أيدي قوات الأمن في درعا، بينهم طبيب ومسعف. وقال شهود عيان إن قوات الأمن قتلت فتاة عمرها 12 عاما بالقرب من المسجد. وفي اليوم التالي شارك نحو 20,000 مشيع في جنازات تسعة من المتظاهرين قتلوا في المدينة، وبدأ المتظاهرون يستعدون لما سموه “جمعة العزة” في 25 آذار/مارس، حيث خرج عشرات الألوف في درعا ومدن أخرى مثل دمشق وريف دمشق ودير الزور وحمص والساحل السوري. وقام المتظاهرون الغاضبون بتحطيم تمثال للرئيس الراحل حافظ الأسد. وعندما تحرك متظاهرون من بلدة الصنمين المُجاورة لدرعا نحو المدينة، أطلقت قوات الأمن الرصاص عليهم موقعة 20 قتيلاً على الأقل. وكانت تلك صدمة مريعة للسوريين في شتى مدنهم وقراهم.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى