شهادات

مقدّمات الثورة السورية – بمثابة خاتمة: وإذن.. لم تأتِ الثورة السورية من فراغ/ وائل السوّاح

 

 

لا أدّعي أن الثورة السورية لم تفاجئنا جميعا. لقد فعلتْ. وإن لم تكن قد فاجأت جميعنا فجلّنا بالتأكيد. في شهر شباط/فبراير 2011، سألتني صحفية فرنسية إن كنت أتوقع انتقال ما يجري في تونس ومصر وليبيا إلى سوريا، وكان جوابي النفي. ومع ذلك كنت أتابع عن كثب نشاط الروّاد الأوائل الذين فجّروا فيما بعد ثورة السوريين ضدّ الطغيان والفساد والفجور، وكنت آمل أن أكون مخطئا في جوابي للصحفية. ولقد كنت مخطئا.

ومع ذلك ففي تقصيّ لمقدمّات الثورة السورية، وجدت فيما بعد أن الثورة لم تأتِ من عدم، فنشاط السوريين على امتداد العقود الأربعة التي سبقت الثورة قد مهّد لها بالتأكيد. سياسيا، لعب المعارضون السياسيون دورا محوريا في التمهيد للثورة، من خلال نشر الوعي السياسي المعارض، ونذكر هنا اليسار الماركسي في السبعينات والتجمع الوطني الديمقراطي ثمّ ظاهرة إعلان دمشق في الألفية الجديدة.

بيد أن الثورة لم تأتِ من أي من هذه الأطراف السياسية، بل من المجتمع المدني، بشكل رئيسي. ولذلك كان تركيزنا في هذه الحلقات على هذا المجتمع المدني وأهم تجلياته. ومنذ تسلّم بشار الأسد الحكم في سوريا، مرت الحركة السياسية السورية والحركة المدنية بمرحلة صعبة ومعقدة، خسرتا فيها عددا كبيرا من الناشطين المميزين الذين ذهبوا إلى السجون، بسبب آرائهم ونشاطاتهم السلمية. وبينما أدى تداخل السياسي والمدني إلى إضعاف كلا الفئتين الضروريتين لأي حراك مجتمعي سوري، اتسمت الفترة التي أعقبت اعتقالات 2006 و2007 بانفصال ضروري بين قوى المعارضة السياسية وقوى المجتمع المدني. وأدى نشوء تحالف إعلان دمشق في الداخل وتحالف جبهة الخلاص الوطني في الخارج، إلى فرز بين النشاط السياسي البحت والنشطات المدنية الأخرى. وبرز في هذه الفترة جيل جديد من ناشطي المجتمع المدني الذين ليس لهم بالضرورة تاريخ سياسي معارض أو موال، قاموا بسلسلة من النشاطات الأهلية التي اتخذت طابعا اجتماعيا واقتصاديا.

بدأت هذه الحملات الأهلية بالحملة الوطنية لوقف جرائم الشرف؛ والحملة الوطنية لإلغاء تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي كان يهدد بعودة البلاد قرونا إلى الوراء فيما يتعلق بوضع المرأة؛ والحملة من أجل منح المرأة الحق في منح جنسيتها لأبنائها، والحملة من أجل تخفيض أسعار مكالمات الهاتف النقال؛ وحملات أخرى للدفاع عن فتيات تم اغتصابهن، وأهمها حالة الطفلة التي اغتصبها أربعة رجال في مدينة حلب، وقد جعلت الحملة الحكومة السورية تتدخل على أعلى المستويات للاهتمام بالحالة وإرسال الفتاة للعلاج في بريطانيا.

وقد استخدم ناشطو المجتمع المدني الإعلام الجديد في حملتهم، من المدونات إلى الرسائل الإلكترونية والرسائل القصيرة ومواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من وسائل الإعلام الجديد.

إن النقص الكميٍّ كبير في عدد الجمعيات والمنظمات غير الحكومية يرجع إلى العوائق السياسية ـ الأمنية ذات الرداء القانوني التي تقيّد عملية تأسيس جمعيات ومنظمات مدنية مهما اختلفت غاياتها. وحتى مطلع الثورة، كان قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم 93 لعام 1958 لا يزال معمولاً به، ولم تدخل عليه أية تعديلات جذرية، رغم إجحاف مواده وعدم مسايرتها للتطور الحديث. فقانون الجمعيات أتبعها إلى الجهة الإدارية بشكل وصائي مع حق الإدارة في رفض قرارات الهيئة العامة والحلول محلها. كما نصت الأنظمة على أن يخضع طلب التأسيس والإشهار إلى نتائج التحقيق مع وعن المؤسسين. وبذلك أخرج القانون الجمعيات عن بيئتها وشروطها الطبيعية دون مسوغ قانوني.

ولعبت الجمعيات الأهلية والخيرية دوراً هاماً في المساعدة على تخفيف العبء المعيشي عن الفئات الاجتماعية المهمشة عندما اعتمدت الحكومة سياسات تقشفية منذ عام 1980، ترافق ذلك مع انخفاض حاد في القوة الشرائية لدى المواطن فضلاً عن أن الزيادات في الأجور في القطاع العام كانت ضئيلة وكان، ولم يزل، يتم امتصاصها عبر التضخم. وقررت الدولة أيضاً عام 1985 تجميد التوظيف لديها وهو الذي كان يستقطب أعداداً لا بأس بها من هذه الفئات المهمشة. وترافق ذلك بتقليص الإنفاق الحكومي إلى حده الأدنى. مما أدّى إلى هبوط قسم كبير من السكان تحت خط الفقر، ولا سيما أولئك الذين يعيشون على رواتب القطاع العام. وهنا لعبت الجمعيات الخيرية دوراً كبيراً في مساعدة القطاعات الفقيرة خاصة تلك الآتية من الريف. وقد كوّنت هذه الجمعيات شبكة أمان لاسيما في فترة تحول السياسة الاقتصادية التي غالباً ما ترافقها اهتزازات اقتصادية تكون لها انعكاسات اجتماعية حادة.

إن عملية التنمية تحتاج إلى استخدام مثالي للطاقات البشرية والطبيعية حتى تتمكن الدولة من تأمين الخدمات والاحتياجات لمواطنيها. وغالباً ما يكون القطاعان العام والخاص غير قادرين على تلبية جميع هذه الاحتياجات والطلبات. مما يوقع الفئات الأضعف والأقل تأثيراً والأخفض صوتاً في التهميش. فمهما بلغت الجهود الحكومية في محاولة مواجهة القضايا والتحديات الكبرى للتنمية، فإن آلياتها وأساليبها التنفيذية قد تكون غالباً غير كافية وليست الأفضل. مما يترك مجالاً للقطّاع الأهلي التطوعي للتعبير عن احتياجات فئات هامة من السكان وفي تقديم الخدمات لهم من خلال المساعدة على تنفيذ بعض المشروعات التي تحمل أبعاداً تنموية. وفي هذا الإطار، يستطيع هذا القطّاع التأثير في سلوك وممارسات المواطنين وتغيير تصرفاتهم وأفكارهم حيال أمور مثل: التمييز على مختلف أنواعه، والتعامل مع ذوي الحاجات الخاصة من خلال عملية الإدماج في المجتمع وفي الأنشطة الإنتاجية والتنموية.

لقد شهد مفهوم المجتمع المدني جدالاً واسعاً بين أطياف المنخرطين به وذلك منذ البدء في الحديث عنه سنة 2000. وأتى ذلك متوازياً مع عملية انتقال السلطة إلى بشار الأسد في 17 تموز 2000. واستخدمت البيانات الموقّعة من قبل المثقفين كتعبير أوّلي عن هذا الحراك الذي استهدف بدايةً ترسيخ دور المثقف في الاهتمام بالشأن العام. وهو الذي كان قد غُيّب وبدأت محاولة استرجاع دوره ووظيفته. فبدأت إذاً عملية التوجه إلى المجتمع من خلال بناء “المجتمع المدني”. وتمّت عملية مراجعة للتاريخ العقائدي على اختلاف مشاربه اليسارية والقومية والإسلامية، للتوجه إلى تأسيس عقد اجتماعي جديد يستند إلى الشرعية الدستورية. وإذا كانت لدى المثقفين السوريين رؤية حديثة فيما يتعلّق بالمجتمع المدني، وذلك عائدٌ لأصول عدد لا بأس به منهم القومية واليسارية ولكون مفهوم “المجتمع المدني” إنما نشأ وتطور في السياق التاريخي الليبرالي، فإن نظرة هؤلاء المثقفين المتوجسة إلى المجتمع والتي كانت نابعةً من النظر إليه وفقاً لعصبياته وطوائفه وتخلّفه والنظر إلى الدولة وفقاً لدورها التنموي والتغيري والتوجيهي، فإن تجربة المجتمعات الغربية وكذلك مجتمعات دول المنظومة الاشتراكية السابقة أو المجتمعات العربية نفسها التي قطعت شوطاً مميزاً على طريق تفعيل المجتمع المدني، أدّت إلى إقناعهم بهذا الغياب التاريخي الذي أصيب به مجتمعهم. وتبيّن أيضاً أن قضية الصراع العربي-الإسرائيلي التي تشكل المبرر “الشرعي” لفرض استمرار قانون الطوارئ غير مقنعة، لأن ما جرى في جنوب لبنان وفي الانتفاضة الفلسطينية أثبت بما لايدع للشك مكان أن دور المجتمع المنطلق من عقال التعسّف والقمع أكفأ وأكثر إنجازاً من نقيضه.

وبعد أن كانت صراعات النخب السورية تتمحور حول السلطة، انتقل سياق النشاط السياسي لمخاطبة المجتمع. خصوصاً بعد أن شعر الناشطون المثقفون بأن مجالاً من حرية التعبير قد ظهر بعد أن جاء في خطاب القسم للأسد عبارات تحضّ على احترام الرأي الآخر. فبدأت عملية بروز مفهوم المجتمع المدني من خلال لقاءات علنية قامت بين المثقفين والناشطين الراغبين بالتغيير وبضرورة استعادة المجتمع لدوره المغيّب. وتمّت صياغة مسودة أوضحت أن “المجتمع المدني كما نراه، هو مجموع التنظيمات المجتمعية غير الحكومية من جمعيات ونقابات وهيئات وأحزاب ومنظمات ووسائل إعلام حرة متعددة ومتنوعة ونواد ومؤسسات، جوهره الخيار الديمقراطي، ولا يمكن للديمقراطية أن تتجسد إلا عبر نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته وخلق حال حوار نقدي بين المجتمع والدولة من أجل مصلحة الوطن، كما أن تفعيل مؤسسات المجتمع يعتبر السبيل الوحيد لبناء دولة حقيقية للجميع وتحقيق حراك اجتماعي فاعل وأن تحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لن يتمّ إلا في دولة المؤسسات والقانون التي يضمنها المجتمع المدني. وبالتالي، فقد قام هذا الحراك باستدعاء مفهوم المجتمع المدني من الحقل الأكاديمي لإعماله بشكل أكثر فاعلية في الحقل السياسي. وقد بدأت أدلجة المفهوم وإصباغ النقاش بأبعاد فلسفية من خلال القول بأنه لا يمكن التطبيق إلا من خلال نجاح مشروع الدولة الوطنية بحيث إنه من الصعوبة الكلام عن مجتمع مدني دون مقدماته التاريخية التي تحتاج إلى مأسسة مشروع الدولة التي مازالت مشروعاً أولياً يبحث عن إمكانات تبلوره وتحوله إلى موقع السيادة الدستورية والقانونية في المجتمع.

إن مؤشرات المجتمع المدني كمفهوم سوسيولوجي دالّ وُجدت في المجتمع السوري طرداً مع مؤشرات الحداثة. وفي أواخر الخمسينيات انتعش المفهوم في سوريا ولكن بشكل مبعثر. وفي نهاية الثمانينات جرت استعادة المفهوم وانتشر الطلب على مفهوم المجتمع المدني طرداً مع التطلع إلى التحويل الديمقراطي والسياسي للمجتمع والدولة وللعلاقة بينهما، ثم أخذ يكتسب مضامين ليبرالية وليبرالية جديدة لدى بعض المثقفين السوريين.

والمجتمع المدني في معناه الجوهري المؤسسي-الاجتماعي هو الفضاء العمومي الذي يقع بين سلطة الدولة والقطاع الخاص. هناك من يضم الأحزاب إليه ومن يضع الأحزاب خارجه مصنفا إياها في إطار المجتمع السياسي. العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي على مستوى المفهوم ملتبسة جداً في سوريا، وتفتقد إلى الوضوح، ويعكس هذا الافتقاد قلقاً واضطراباً وتبايناً في استخدام المفهوم وتوظيفه. وبالتالي، فهناك مفهوم مجتمع مدني ومفهوم مجتمع سياسي ولكن هناك مفهوم السياسة المدنية بمعناها العميق أي سياسات الاجتماع.

لا يمكن القول طبعا إن المجتمع المدني هو من قاد الثورة وحيدا، فقد تلاقت عوامل عديدة كما أسلفنا في مقالات سابقة من هذه السلسلة. بيد أنه يمكن القول بثقة إنه لولا المجتمع المدني لما قامت الثورة السورية بالشكل الذي بدأت به. ويبقى أخيرا أن أقول إنني أعني بالثورة السورية الانتفاضة الشعبية السلمية ضدّ نظام القمع والفساد والفجور، ولا أعني بكل تأكيد أمراء الحرب ولا قيادات “المعارضة” الذين استولوا لاحقا عليها.

تلفزيون سوريا

 

 

في مقدّمات الثورة السورية (1): بذور المجتمع المدني السوري

في مقدمّات الثورة السورية (2):حين فتحت حفنة من المثقفين الطريق أمام التغيير

في مقدمات الثورة السورية (3):من الـ 99 إلى الألف: لجان إحياء المجتمع المدني

في مقدمات الثورة السورية (4): ربيع دمشق: خطوة واثقة على أرض غير مستقرة

في مقدّمات الثورة السورية (5): جدل السياسة والثقافة: لمن الأولوية

في مقدّمات الثورة السورية (6): حين رفض النظام أن يغيّر جلده: نهاية ربيع دمشق

في مقدّمات الثورة السورية (7): منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي آخر مظاهر الربيع

في مقدّمات الثورة السورية (8): اعلان دمشق حجر في بركة راكدة

في مقدّمات الثورة السورية (9): إعلان بيروت-دمشق/دمشق-بيروت: النظام يحكم قبضته من جديد

في مقدّمات الثورة السورية (10): المجلس الوطني لإعلان دمشق نقطة فارقة في تاريخ سوريا الحديث

في مقدمات الثورة السورية (11): مدافعون عن حقوق الإنسان في وطن لا يعرف الحقوق ولا الإنساني

في مقدّمات الثورة السورية (12): حقوق الإنسان في عهد الابن من سيء إلى مستحيل

في مقدمات الثورة السورية (13): جدل الداخل والخارج في المجتمع المدني السوري

في مقدمات الثورة السورية (14): الوجه الآخر: المنظمات النسائية قبل الثورة

في مقدمات الثورة السورية (15): مثابة خاتمة: وإذن.. لم تأتِ الثورة السورية من فراغ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى