ثقافة وفكر

بوتين وترامب يهزآن من العالم فكيف ندافع عن الحقيقة؟

 

تعتبر الكوميديا في الوقت الراهن درباً من دروب الديبلوماسية بأساليب مختلفة. حرصت إحدى الأمم القوية على تسوية نزاع دولي خطير من خلال الدعابة، مع توقّع رد كوميدي مماثل. وكيف عسانا أن ننظر إلى المقابلة التي أُجريت مع شبكة “آر تي”، الأداة الدعائية الحكومية والتي عُرِفت باسم “روسيا اليوم”، من قِبل موركامب وحكيم الشرق، وهما الرجلان اللذان عرّفا نفسيهما باسم روسلان بوشيروف وألكسندر بيتروف؟

وعن تظاهرهما بأنهما خبيران روسيان في التغذية الرياضية، وشقيقان في المهنة لا يُعدّ سجلهما ناصع البياض تماماً، قال الثنائي الكوميدي للقناة إنهما كانا بالفعل الرجلين اللذين تعرفت إليهما سلطات المملكة المتحدة أثناء زيارتهما مدينة سالزبوري في آذار/ مارس، لكنهما لم يقوما بهذه الرحلة لقتل الجاسوس السابق سيرغي سكريبال. وعلى خلاف ذلك، كانا هناك كسائحين بريئين، أغرتهما احتمالية رؤية الكاتدرائية “المشهورة ببرجها المُستدق الذي يصل طوله إلى 123 متراً”. ألم يكن من الغريب أن يزورا سالزبوري لفترة وجيزة للغاية في أول جولتين نهاريتين متتاليتين؟ لا على الإطلاق، أصرّ رجال التلفزيون المضحكين على أن الرجلين المعتادين على الشتاء الروسي اضطرا إلى التخلي عن محاولتهما الأولى لرؤية المعالم السياحية بسبب الثلوج الذائبة في ويلتشاير التي يتعذّر السير فيها.

أليس ذلك مضحكاً؟

مثلما كان سيشير إليها الكوميدي التلفزيوني فرانكي هاورد. لكننا نضحك، لأن عرض بوشيروف وبيتروف قد أفرز آلاف الإشارات التهكمية. إن تفسيرهما المزعوم كان مثيراً للضحك وقد ضحكنا كما ينبغي. لكن هل يعد هذا هو الرد المناسب؟

لا يقتصر السؤال على فلاديمير بوتين ودولته العملاقة. في يوم الخميس، زعم دونالد ترامب أن 2975 شخصاً لم يلقوا مصرعهم في بورتوريكو جرّاء إعصار ماريا خلال العام الماضي، على رُغم التحليل الدقيق الذي قاد حكومته للوصول إلى ذلك الرقم. وغرّد ترامب قائلاً إن عدد القتلى قد افتعله “الديمقراطيون لإظهاري بشكل سيئ قدر الإمكان”.

ما هي الطريقة المُثلى للتعامل مع تلك الاعتداءات الفاضحة للحقيقة من قبل اثنين من أقوى الرجال في العالم، أحدهما أوتوقراطي مستبد، والآخر من المحتمل أن يكون أوتوقراطياً مستبداً؟

إن الضحك في وجوههم يحظى بجاذبية كبيرة. إنه يتجنب إعطاء أهمية للهراء وذلك بإبداء ردٍ جادّ، ويوجّه وخزة لفقاعة العظمة بالشكل الصحيح والتي تحيط بكل الديكتاتوريين، سواء الحقيقيين أو الذين يطمحون إلى ذلك. لكن يأتي ذلك مقابل تكلفة. على سبيل المثال، فقد فُقِدَت وسط الضحكات حقيقة أن الشخصين الروسيين متهمان على نحو يتسم بالصدقية باستخدام أسلحة كيماوية على الأراضي البريطانية – وبأن امرأة تُدعى داون ستيرغيس قد ماتت نتيجة تسممها بعنصر “النوفيتشوك”.

بالتعمق أكثر في هذه النقطة، وعلى رغم أن الأمر يبدو وكأنه يفتقد روح الدعابة، فإن الضحك في مقابلةٍ تلفزيونية على شبكة “آر تي” يمثل مخاطرة بالتواطؤ معها. من المؤكد أن بوتين يعرف أن حُجّته سخيفة ويمكن فضحها بسهولة، ومع ذلك يطرحها على أي حال. كما تعد حيلة الكرملين المعتادة جزءاً من ذلك: تسليح الشك، بإلقاء ما يكفي من الهراء لتمكين المدافعين عن روسيا من القول إن الصورة غير واضحة، وأن الحقيقة أمر بعيد المنال ولا يمكن أن يعرفها أحد على وجه اليقين.

لكنها أيضاً أكثر وقاحة من ذلك: إن طرح تفسير مضحك والذي تؤكد عدم معقوليته الشديدة على أن موسكو غير مهتمة بكل بساطة. وتهدف الدعابة إلى إذلال بريطانيا: لقد نفذنا عملية قتل على أرضكم والآن نسخر منكم. وقد يكون ردّ فعل الإدانة المتجهِّمة لداوننغ ستريت على “الأكاذيب والافتراءات الصارخة” لروسيا، هو رد الفعل المناسب.

من هذا المنطلق، ربما تكمن الطريقة المُثلى للرد على بوتين وترامب في فضح أكاذيبهما بطريقة هادئة ومنهجية. في قضية سالزبوري، جعلت مشاهدات منظومة كاميرات دائرة المراقبة التلفزيونية ذلك سهلاً. كما يرجع الفضل إلى هذا النهج في استمالة المترددين، بما في ذلك الرأي العام الدولي، إِذْ يشاهدون موسكو ولندن وهما تتصارعان. وهناك أيضاً بُعْد أخلاقي: لا يجب السماح للأكاذيب بأن تبقى من دون تفنيد.

لكن توجد مشكلات أيضاً هنا. لأنهم إذا هُزموا أمام الحقائق المئة الأولى، فسوف ينتقل أكثر المدافعين حماسةً عن رواية الكرملين ببساطة إلى المئة حقيقة التالية: إذ إن براعتهم في تفسير الأدلة القاطعة بمثابة بئر عميقة لا نهاية لها. كما أن الكرملين يخاطر بالانحدار إلى ما يسميه زميلي ومراقب بوتين القديم لوك هاردينغ، “أرض الروايات”، حيث لا توجد حقيقة واحدة تستند إلى الواقع ولكنها روايات منافسة.

في أحسن الأحوال، حتى لو كنت تنظر إلى فضح التزييف باعتباره ممارسة ضرورية، فإنه بالكاد يكون كافياً. إذ تقع على عاتق وسائل الإعلام مسؤولية خاصة، وهناك إجراءات صغيرة محددة يجب أن نتخذها. وأول خطوة مرحب بها في هذا الأمر هي إنكار الأصوات العالية لأمثال “أليكس جونز” – الذي يدّعي، من دون دليل، أن مذبحة “ساندي هوك” لأطفال المدارس الابتدائية كانت عملية ملفقة وكاذبة.

ولكن، عند تغطية أخبار البيت الأبيض وترامب أو الكرملين وبوتين، تحتاج المؤسسات الإخبارية أن تتخلى عن الافتراض بأنهم يتعاملون مع أُناس يلعبون وفق قواعد الحقيقة والصدق المقبولة. ما يعني أنه لا يمكن ببساطة أن تكتب عنواناً رئيسياً يقول “ترامب: لم يمت 3 آلاف شخص”، من دون أن تنشر أكاذيبه بشكل فعال من أجله. ويعني كذلك أنه لا يمكنك إعطاء وقت مقابلة الساعة 8.10 صباحاً في إذاعة الرابعة لرجل تم تقديمه كزميل صحافي، وهو في الواقع مسؤول في الدولة الروسيّة. ومع ذلك، سيكون علينا المضي إلى أبعد من ذلك.

في كتاب جديد تأمليّ بعنوان، “الإنكار: الحقيقة التي لا توصف” Denial: The Unspeakable Truth، يضع كيث كاهن هاريس تفريقاً مفيداً بين حركات الإنكار التقليدية – التي سعت إلى بناء “صروح شاهقة من الأدلة العلمية الزائفة” لدعم مطالبهم – وما أسماهم post-denialists أي المُنكرين في مرحلة ما بعد الإنكار، الذين هم أكثر من متعجرفين. فعلى سبيل المثال، بدلاً من تقديم حالة مفصلة عن تغيير المناخ، فإن المنكرين في مرحلة ما بعد الإنكار من كبار السن يجزمون بذلك ببساطة.

إن إصرار بوتين على إنكار هجوم ساليسبري وإنكار ترامب ضحايا إعصار بورتوريكو هما مثالان ممتازان على هذا الفكر الجديد من الإنكار ما بعد الإنكار، كما يقول كاهن هاريس. إنهم يعملون في “تأكيد قوتهم على تشكيل الواقع وفقاً لإرادتهم”. وإذا وضعنا دقة وصحة الحقائق والأدلة جنباً إلى جنب، فإن المُنكرين في مرحلة ما بعد الإنكار يقتربون أكثر من قول ما يفكرون به حقاً: ففي الوقت الذي يقول أحد مُنكري المحرقة من المدرسة القديمة إن معسكر أوشفيتز لم يحدث أبداً، فإن المُنكر في مرحلة ما بعد الإنكار قد يقول إن المحرقة قد حدثت بالفعل – وإنها كانت أمراً جيداً. ومع أخذ هذا في الاعتبار، فإن بوتين يقترب من قول: “بالتأكيد، لقد قمنا بهجوم ساليسبري: ماذا عن ذلك؟” أما مع ترامب، فسوف يقول إن “حياة ضحايا بورتوريكو لا تهمني كثيراً، لأن بشرتهم لونها غير مناسب”.

إذا كان هذا ما يحدث، فهو يتطلب استجابة مختلفة. إنه يعني الوصول إلى لُب المسألة، ومعالجة المعتقد الكامن، إذا كان بغيضاً، بدلاً من التركيز على الحقائق، أو الهفوات التي تطفو على السطح. إنه يعني أيضاً الاستجابة إلى ترامب وليس بالبيانات، ولكن بالنقاش الأخلاقي للقيمة المتساوية لحياة البشر أجمعين – والنقاش مع بوتين في القضية الأخلاقية ضد الأسلحة الكيماوية.

ربما ليس ذلك الصراع المناسب اليوم. ولكنه يُصبح بسرعة واحداً من الأسئلة المُلحّة في عصرنا: كيف ندافع عن الحقيقة في عالم من الأكاذيب؟

هذا الموضوع مترجم عن موقع theguardian.com ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.

 

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى