منوعات

بين المجاز اللذيذ والحقيقة المؤلمة… عن الخمر الصوفي حتى البارات في سوريا والمنفى/ عبدالله أمين الحلاق

شهد التاريخ العربي الإسلامي حضور عدة شخصيات فاعلة فيه بالمعنى السياسي والفكري والأدبي، وكانت شخصيات خارجة من الدين، أو على الأقلّ لم تكن على علاقة طيبة به. بعض هؤلاء، أو معظمهم، كانوا “خمريين”. ثمة أسباب كثيرة تجعل الكاتب مشدوداً إلى الحديث عن العلاقة بين الدين والخمر، أهمّها “تحريم الإسلام للخمر”، وأيضاً، لأن خروج هؤلاء من الدين هو مناسبة للاحتفاء بالحقّ في الانشقاق عن “المِلّة”، في زمن تعود فيه المِلل والقبائل إلى الظهور اليوم على شكل تيارات دينية أو اجتماعية وسياسية.

يحاول هذا المقال أن يساهم في ملف “بصحتك يا ساقي” لـرصيف22 من زاوية تقول إن الحديث عن الدين والإسلام هو لزوم ما لا يلزم، لدى حضور الخمر كمادة للكتابة، وربط ذلك بالسياسة. ذلك أن الحداثة بالمعنى السياسي أو في الجانب السياسي لها، تفترض انتظام البلدان على أسس وقوانين وضعية، أرضية، تفصل الأرض عن السماء من دون إلغاء الحقّ في الإيمان أو عدم الإيمان بالسّماء والأديان على اختلافها. هذا منطلق أساسي للتعدّد واحترام الحرّيات الفردية، ولا اتساق مع الذات والكرامة الإنسانية والعلاقة مع الآخر المختلف من دونه.

المتصوفة يسكرون

وإذا كان لا بدّ من الربط بين الدائرة الإيمانية (وليس الشريعة الإسلامية) والخمر، سيكون المتصوّفة هم أول من ندقّ بابهم، ونأتي من عالمهم الشعري الفاتن بخمريات رمزية، مجازية، كانت تحضر فيها مناجاة الذات الإلهية، والتعبُّد ووصف لحظات التجلي مع الخالق، هم الذين “استخدموا الحبّ الإلهي كمنهج حياة يؤمنون به، واستخدموا لفظ “الخمر” بمعانٍ متعددة كان الغرض منها “الحبّ الإلهي”، وفق ما ذكره الدكتور خالد علي إدريس في كتابه “رمزية الخمر في الشعر الصوفي” الصادر عن جامعة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة.

والخمرة في الشعر الصوفي هي الخمرة التي لا يتذوّق ويستمتع ويغبط لمذاقها إلا من توحّد مع الإله. الخمرة التي نشربها نحن، كاتب هذا المقال والكثيرون من قرائه، هي خمرة متاحة للجميع لوناً وطعماً ورائحة وشعوراً مألوفاً في لحظات الخدَر الخفيف ثم السُّكر. هي بمعنى ما: خمرة “مؤمّمَة”. أما خمرة المتصوفة، فهي تبدو أرستقراطية، شأناً من شؤون الخاصة، متعالية على كل خمرة أخرى عيانية وملموسة، وعلى كل إيمان كلاسيكي وعبادات ميكانيكية يومية. وهي التي قادت شخصاً مثل أبي يزيد البسطامي لأن يقول في لحظة نادرة: “سبحاني ما أعظم شاني”.

وها هو ابن الفارض يقول في واحدة من أشهر قصائده التي يناجي فيها محبوبه، الخالق، وفي لحظة تجلٍ نادرة هي الأخرى:

“شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً/ سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ/ لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا/ هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجم/ وإن خَطَرَتْ يوماً على خاطرِ امرىءٍ/ أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ/… على نفسه فليَبْكِ مَن ضاع عُمْرُهُ/ وليسَ لهُ فيها نَصيبٌ ولا سهمُ.”

لو أننا أخفينا اسم الشاعر الذي كتب الأبيات أعلاه، لما خامرنا شكّ أن قائلها هو أبو نواس قبل توبته الشهيرة في أواخر أيامه، بينما قائلها هو أحد رموز التصوف وأعلامه الخالدين. الخمر وحّدت “المتناقضَين” هنا، أبو نواس وابن الفارض، وهذا أمر يجدر البناء عليه. فإذا كانت هي “المنكر” على ما يصفها أهل الشريعة، جاز القول، انطلاقاً من هذا الوصف، أن المتصوفة هم خارج الدائرة الإيمانية. وقد هوجم المتصوفة فعلاً، وكُفّروا واتُّهموا اتهامات كثيرة من هذا القبيل، ليس لأنهم ليسوا مؤمنين، كما اتُّهم المُتكلمون والفلاسفة وغيرهم وحوربوا. بالإضافة إلى أن المتصوفّة الذين كانوا يصلون إلى لحظات الــ Top في الوجد والمناجاة مع المحبوب-الإله، كان بإمكانهم استحضار رمز آخر غير الخمر، إلا أن تلك الأخيرة، وإن تكن رمزاً، لم تكن لتصنع ذلك التنافر بينهم وبين المحبوب، بل بالعكس، كان التقارب والمناجاة يتناسبان طرداً مع الشعور بــ”السكر” عندهم.

في هجاء رطانات ثلاث

لا يعطي الكلام أعلاه موضوع العلاقة بين الخمرة والتصوف حقه، فهذا يحتاج بحثاً طويلاً. ولهذا، وخارج موضوع العلاقة تلك، وبالهبوط من علياء التوحّد مع الإله إلى الأرض التي نقطنها جميعاً، خمريين وغير خمريين، مؤمنين وملاحدة، شاربي الخمر المبتدئين والمحترفين، ستواجهنا خطابات ثلاثة في البلاد العربية وبدرجات متفاوتة:

خطاب ديني: قد يبدو “متساهلاً” نسبياً في هذا الموضوع، ولأسباب سياسية في بعض البلدان التي لم يتح للخطاب الديني أن يحكمها بعد، ومتشدداً في بلدان أخرى نُظم الحكم فيها هي نُظم ثيوقراطية، وهي نظم معادية لفكرة التنوّع والتعدد بحيث تكون الحياة “عبادةً”، ما يلغي كلّ ما هو خارج المعيار والمقياس الديني ذاك.

خطاب اجتماعي: ليس منفصلاً كثيراً، بطبيعة الحال، عن الخطاب الديني، خصوصاً في البيئات المحافظة. هناك بيئات محافظة بالمعنى الاجتماعي ولكنها ليست متشددة دينياً، وفي المدن الكبرى، حلب ودمشق وغيرهما، كانت الحريات الاجتماعية “متاحة” بشكل أكبر من المدن أو المناطق الصغرى والقرى التي يغلب عليها الطابع والشكل العصبوي في العلاقات الاجتماعية وحتى في طريقة التعاطي مع الدين نفسه.

خطاب سياسي: في سوريا أيضاً، ثمة “نظامان” اليوم، ليسا الوحيدين لكنها الأوضح، أولهما النظام السوري في مناطق سيطرة الأسد وحلفائه، وثانيهما في مناطق خارجة عن سيطرة النظام وهي باتت قليلة اليوم، تقع تحت سيطرة قوى الأمر الواقع، ميليشات وفصائل إسلامية متشددة. تعمل الفصائل الدينية المتشددة على تطبيق الإسلام المعياري، الحركي، الجهادي، فيما يتعلق بشكلِ سيطرتها على تلك المناطق وما يتفرع منه من تدمير للحريات الفردية والعامة، وتتدخل مثلاً حتى في مزاج الشخص المحبّ للموسيقى والتي تُعزف سراً في بعض البيوت، إن عُزفت. أما في مناطق النظام، فيواظب الأسد على تسويق نفسه أمام جمهوره وأمام العالم على أنه رأس النظام “العلماني” الذي “يحمي البلاد من سيطرة المتشددين والإسلام الجهادي”.

وإذا كانت هذه البروباغندا مفضوحة لمن يعرف سوريا اليوم وقبل عام 2011، فإن مشهدية المطاعم والبارات في دمشق تتصدّر إعلامه وجزءاً من الإعلام الغربي اليوم، بحيث تكون “الكأس” و”الفرقة الموسيقية” غطاءً تغيب تحته مشاهد الإبادة الجماعية والتهجير في الغوطة وفي مناطق أخرى من محيط دمشق وفي عموم سوريا.

الكلام عن بارات سوريا اليوم هو كلام غير متوافق مع الحديث عن البارات في أي مكان آخر في العالم، وسيكون من الإجحاف تناوله من دون المرور على ما سبق ذكره من كوارث.

بارات المنفى

لكاتب هذه السطور ذاكرة طيبة مع بارات وخمارات كثيرة في سوريا قبل 2011، وحتى في جلسات الخمر الخاصة مع الأصدقاء. لكن، ثمة ما يلحّ عليه لنسيان تلك الأيام، على عكس الغزل والحنين الجارف للبعض من الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي حول أيامٍ خلت. المنفى، بيروت سابقاً، ثمّ ميلانو في إيطاليا، كان لحظة تأسيس شخصية جديدة على عدّة مستويات بعد أن تهدّم كل شيء في بلدنا. بارات بيروت ومطاعمها: “أبو نعيم”، “مزيان”، “تاء مربوطة”، وغيرها، وبارات ميلانو اليوم، المدينة التي أعيد معها بناءَ حياة جديدة.

ميلانو مدينة تفتقر إلى بارات عربية. ثمة مطاعم عربية بالشكل الكلاسيكي الذي عرفناه سابقاً في بلادنا، مطاعم تقدّم العرق البلدي. على الرغم من ذلك، تبقى البارات الإيطالية قبلتَنا الرئيسية، بعض الأصدقاء وأنا. النافيليو، بورتا جنوا، بورتا غاريبالدي، وغيرها وغيرها.

عفواً! غابت عني وسط كل الاسترسالات السابقة رطانة أخرى، وخطاب آخر كان يتمّ استخدامه أيضاً في مواجهتنا نحن، شاربي الخمر، ومفادّه أن “الخمرة مضرّة بالصحة”. وبذلك، يمكن الختام بعبارة شهيرة لبرناردشو مع تحوير بسيط في حيز الضرر المفترض، واستبدال التدخين بكأس النبيذ او العرق أو الويسكي أو الــ “فيكيا رومانا الإيطالية”: “قرأتُ الكثير عن مضارّ الكحول، حتى اقتنعت بالتوقف عن القراءة”.

يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم “رود تريب” بـ”رصيف22″ والمعنوَن: “بصحتك يا ساقي… بارات عربية لا بدّ من زيارتها”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى