سياسة

ثورة واشنطن على بشار!/ عمر قدور

 

 

 

منذ مجيء إدارة ترامب لم تخاطر بإقرار وإعلان استراتيجية خاصة بسوريا، الانطباع العام بقي أن هذا الشأن “الثانوي للرأي العام الأمريكي” متروك للرئيس، ولا يُستبعد أن يتخذ الأخير قراراته على وقع غرامه المعلن ببوتين. الخط الأحمر الوحيد الذي تمسك به ترامب يتعلق باستخدام بشار السلاح الكيماوي، وهو الخط الأحمر ذاته الذي فرّط به أوباما ويريد ترامب إثبات تمايزه عن سلفه بإبداء صرامة وجدية. لكن كما نعلم لم يتمكن ترامب حتى الآن من فرض مزاجه كلياً، ولو فعل لكنا في هذا الشهر مع موعد انسحاب قواته من سوريا؛ هذا ما لم يتحقق وبقي الموعد معلقاً إلى أجل غير مسمى.

في الأسبوع الأخير توالى مسؤولان أمريكيان على الإيحاء بوجود سياسة أمريكية إزاء سوريا، هما وزير الدفاع جيمس ماتيس والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري. المشترك في تصريحات المسؤولين هو استبعاد بقاء بشار في السلطة، وافتراض رحيله ضمن عملية سياسية بإشراف دولي، مع تنويه ماتيس بأن أية انتخابات تُجرى تحت إشراف بشار نفسه لن يكون لها أية مصداقية.

تعيدنا التصريحات الأمريكية إلى الأيام الأولى للثورة السورية، وإلى نقاشات سبقتها في أوساط بعض الناشطين السوريين. قسم من الآراء كان يراهن وقتها على وصول التركيبة الأسدية إلى الحائط، أي أن التغيير بات حتمياً. بل كان البعض، ممن لا يخفي ميله إلى بقاء الأسد، يرى في التغيير مصلحة أسدية قبل أن تكون مصلحة سورية. العقدة التي كان يصطدم بها النقاش تتمحور حول قدرة بشار نفسه على القيام بعملية إصلاحية مطلوبة قد تؤدي في النهاية إلى الإطاحة به سلمياً، أي أن المأمول من بشار كان يتراوح بين أن يصبح بطل نقلة تاريخية وأن يكون فادياً مخلّصاً.

وإذا استذكرنا أيام الثورة الأولى فسوف نجد أن شخصية بشار لم تكن مستهدفة في حد ذاتها، بل كانت ثمة مراهنات على تغيير سياسي يقبل به، ولا يمانع كثر في أن يقوده. ذلك تغير تماماً مع أول ظهور له ضاحكاً ومستهتراً بضحايا الاحتجاجات السلمية على أيدي مخابراته وشبيحته، وأيضاً مع تصريحه بمسؤوليته التامة عن القرار السياسي والأمني. لحظتها لم يعد هناك من فصل بالنسبة للثائرين بين بشار والنظام المراد تغييره فصار إسقاط بشار متضمناً إسقاط النظام، لحظتها أيضاً بدأ الانقسام بين من يريدون “تغييراً في النظام” ومن يريدون تغييره، مع ميل الفئة الأولى تدريجياً ومن ثم نهائياً لصالح التحالف مع بقائه كما هو تحت مختلف الذرائع.

التصريحات الأمريكية الأخيرة تستأنف ذلك الفصل بين بشار وأركان حكمه، أو ما يمكن تسميته فصل الأسد عن الأسدية، بحيث يكون الاهتمام منصباً على إصلاح الأسدية، مع التشكيك بشدة في قدرة بشار على أن يكون شريكاً في العملية. من أجل هذا الفصل كان يلزم أن تصمت تلك التصريحات عن العدد المهول من المجازر التي ارتكبها بشار وتنظيمه الأسدي، والتركيز فقط على استخدام الكيماوي، ومن الملاحظ أيضاً تلك الإشارة المتكررة إلى موضوع اللاجئين، بحيث تظهر معاناة اللجوء كجريمة مخفَّفة وبديلة عن طرح موضوع الإبادة الممنهجة.

تجاهل الإبادة الجماعية لا يخلو من مغزى، لأن مجرد التوقف عندها يؤدي تلقائياً إلى ضرب هذا النوع من التصورات الذي يتخفى وراء الواقعية السياسية. مشكلة بشار، وفق التصور الأمريكي، ليست في قتله مئات الآلاف على الأقل بل في أنه لا يستطيع أن يكون شريكاً في الحد الأدنى من التغيير الذي بات ملحاً. من الملاحظ أيضاً تجاهل علاقته بالعديد من التنظيمات الإرهابية، لأن التوقف عند هذه العلاقة يقتضي عقاباً أمام الرأي العام الغربي بينما تنصب الجهود من أجل الإبقاء على سوريا والمنطقة كأرض للإفلات من العقاب.

مشكلة بشار الأخرى، بموجب التصور ذاته، تبعيته لإيران، سواءً أكانت طوعية أو اضطرارية. هنا أيضاً تصبح إيران منبع الشر، ولا يؤخذ في الحسبان تاريخ من الأسدية لم تكن طهران هي التي تشرف عليه، وإنما كان نتاجاً وحشياً محلياً صرفاً. ومع التأكيد على صحة ما يُتهم به حكم الملالي، لجهة التخريب في المنطقة، إلا أن منحها الأولوية على التركيبة الأسدية المحلية لن يكون خبراً جيداً للسوريين، بخاصة مع اقترانه بتحويل الوصاية على هذه التركيبة من طهران إلى موسكو.

إشارة وزير الدفاع الأمريكي إلى أن “عملية إخراج بشار من السلطة” ينبغي أن تكون مُدارة تتوسم ذلك الفصل بين موسكو وطهران، وتتوسم في الأولى سلوكاً مغايراً وأكثر توازناً من السلوك الإيراني. قد يستند هذا التصور إلى عمليات السيطرة الروسية على مراكز القرار الأسدي، مع التركيز والتهويل الإعلامي المرافق لهما، وربما يحمل دلالة حقيقية على تراجع النفوذ الإيراني، لكن الضمانات الروسية التي اختُبرت في سوريا حتى الآن تفيد بأن الوحشية الأسدية تستكمل مهمتها برضا روسي، وفي كافة مناطق ما يُسمّى “المصالحات” التي أشرفت عليها قاعدة حميميم. دائماً ينبغي ألا نتجاهل النموذج الشيشاني المحبب لبوتين، وأن نتذكر مأساة التدمير والإبادة، وفوقها حقيقة أن الشيشانيين الذين اضطروا إلى اللجوء لم ولن يعودوا إلى العيش تحت الفظاعة التي يمثّلها حكم قديروف.

رغم ما في الأمر من غرابة فإن السياسة التي يعلنها مسؤولون أمريكيون هي: دعونا نجرّب المجرَّب. الإدارة الأمريكية تدرك النتيجة سلفاً، ولا تحتاج من يخبرها بأن النتيجة بعد أشهر أو سنوات لن تكون مغايرة لما هي عليه الآن، وبشار لن يقبل الذهاب في الحل الذي يضمن له الإفلات من العقاب إذا تضمن هذا الحل تغييراً حقيقياً وشراكة فعلية مع سوريين آخرين، لأنه منذ بداية حكمه يرى “محقّاً” التغيير والشراكةَ بمثابة انتحار له. إلا أن الإدارة الأمريكية بسياستها المتمهّلة لا تخسر شيئاً على الإطلاق، بما في ذلك تكاليف وجود قواتها في سوريا الذي تجد ممولين له ومشاركين فيه. من السذاجة والغباء معاً الظنُّ بأن الظروف ستجعل من بشار شخصاً آخر، هذا ما يدركه الساسة في واشنطن، أما من يظن ذلك لدينا فنستطيع مراهنته، وكسب الرهان بسهولة، على أن الزمن لو عاد ببشار إلى بداية الثورة ومطالبات الإصلاح لما فعل سوى ما فعله.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى