مراجعات كتب

ماذا تعرفون عن تاريخ “سورية المجوفة”؟

 

 

صدر عن دار الفارابي كتاب “تاريخ البقاع وسورية المجوّفة”( تقديم فوّاز طرابلسي وتحقيق وإشراف زهير هواري وابراهيم مهدي)، وهو مخطوطة للمؤرخ اللبناني عيسى اسكندر المعلوف، كانت محفوظة في منزل ابنه الشاعر الراحل رياض المعلوف، وخلال الحرب الأهلية عندما كانت مدينة زحلة تحت الحصار والقصف، فكر نجله والمؤرخ فواز طرابلسي في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكتبه جده، فاشترى حقوق عدد من المؤلفات، ونقلها بواسطة بعض الأصدقاء إلى باريس.

يروي طرابلسي أنه لم يوفق بدار نشر مستعدة لنشر “تاريخ البقاع وسوريا المجوفة”، فاكتفى بترتيب أولى للمخطوطات بانتظار فرصة، لم تتح إلا بعد فترة من الزمن ليست قليلة، وتم الاتفاق مع الصحافي والمؤرخ زهير هواري في مهمة الإشراف على المخطوطة وتجهيزها للطبع، وهو قام بجهد من حيث الترقيم وإعادة التنظيم والتبويب والبحث عن الكلمات المبهمة، في مخطوطة نسخت على آلة استنساخ بدائية، وضبط الأخطاء، ووضع العناوين والهوامش الضرورية وغيره.

وكتاب”تاريخ البقاع وسورية المجوفة” بحسب زهير هواري في مقدمته الممهدة والشارحة لفصول المخطوطة وتكوينها، هو من أمهات المخطوطات التي شغلت حيزاً واسعاً من جهد المعلوف، ولم يتسن له نشره في حياته، وبعد مرور مائة عام على كتابة خاتمته في العام 1917…”، وقد بدأ جمع مواده، وباشر التأليف قبل ترسيم حدود اتفاقية سان ريمو في عشرينات القرن العشرين. دون أن يتوقف عن رفده بما يتوافر له من معلومات ووقائع يجمعها من مشاهداته، ومئات المخطوطات والكتب التي يقرأها. ما يجعله بمثابة مصدر رئيسي ووحيد في تاريخ هذه المنطقة. والمخطوطة عبارة عن مجلدين وهي سلسلة أبحاث مستفيضة في تاريخ سورية الوسطى أو المجوّفة وطبيعتها وعمرانها وحضارتها وسكانها وحكامها وآدابهم وعلمائهم وسياسييهم وآثار البلاد بتفصيل وافٍ وتحليل أسماء الاعلام المكانية من مقاطعات وقرى ومزارع ونحوها، بحسب علم الاشتقاق العصري المبني على علم اللغات ومعارضاتها، والأساطير القديمة (الميثولوجيا) والعاديات وما يساوقها من العلم الصحيح العصري، وفلسفة التاريخ التي تُمحِّص الحقائق بكثير من التنقيب وتسبك الكلام ذهباً إبريزاً. ويفرد المؤلف صفحات واسعة للمعالم الأثرية، مازجا بين علمي التاريخ والآثار، ومتوقفا عما هو معروف منها وما عثر عليه في القرى والمدن. كما يركز على الجوانب العمرانية والحضارية والاقتصادية والزراعية والتجارية والحرفية والمناجم وغيرها من أوجه النشاط البشري. وبالطبع يتوقف عند التاريخ السياسي وجملة الصراعات التي شهدها البقاع في مختلف المراحل. ولا يغفل عن الإشارة إلى الكوارث الطبيعية (الزلزال السيول الجارفة وموجات الجفاف)، وما تخلفه من نتائج وضحايا من البشر وتدمير الممتلكات وجرف المنازل والحيوانات والبساتين.

أما عنوان المخطوطة فكان “تاريخ سورية المجوفة”، وأضيف إليها في التحقيق “تاريخ البقاع”، وقد اعتمد المعلوف التعيين الجغرافي الاغريقي القديم “سورية المجوفة” بما هي منحفض بين سلسلتي جبال لبنان الغربية والشرقية، اي ما سمي بالبقاع “البعلبكي والعزيزي” أو ببساطة سهل البقاع. وفي العنوان الأصلي لكتابه عرف المعلوف سورية المجوفة على أنها تشمل البقاع وبعلبك وسهول الزبداني وما يتصل بها وهي وادي الليطاني والزبداني والعاصي وبردى وجبل القلمون”، كانت عواصمها الكبرى مدينة دمشق والزبداني والكرك وعنجر، مع ان معظم مادة الكتاب تكاد تنحصر في تاريخ سهل البقاع من شماله الى الجنوب. من خلال التسميات يلاحظ ان المنطقة التي يؤرخ لها المعلوف، تضج بالثقافات والتقاليد، فاسم سورية المجوّفة المشتق من “أشوريا” نسبة إلى سكانها الأشور. وأول من أطلق عليها هذا الاسم هو هيرودتس المؤرخ اليوناني الشهير. وإذ يتناول المعلوف في بحثه الاماكن حيث امتد قدماء الآراميين واللودانيين او الروتانيين وأعقابهم ممن جاء من الأمم وتركوا في هذه السهول آثار عمرانهم ودياناتهم وخرافاتهم الناطقة الآن بمجدهم العريق في القديم. ويعتبر المعلوف هذه المنطقة ذات جذر حضاري واحد، منذ المرحلة الوثنية، الى الأديان السماوية التي عدّلت وحورت بعض معالمها لتتلاءم مع معتقداتها التوحيدية. وهكذا تحول المعبد الوثني إلى كنيسة وبعضها إلى مسجد. ويقدم المعلوف أبحاثاً إضافية في الجزء الثاني لتراجم المشاهير من أبنائها في العصور المختلفة، وصولا إلى المرحلة العربية بمختلف مسمياتها: أموية عباسية، أيوبية، مملوكية وعثمانية وفرنسية، كذلك من تولوا شؤون أسقفياتها والمفتين ورجال الدين والأكليروس، لكن ما يحظى باهتمامه الخاص هم العلماء والفقهاء قديماً والشعراء والصحافيين حديثاً.

ألف عيسى اسكندر المعلوف في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والآثاريات والموسيقى والتربية والمرأة والرياضيات والثقافة الشعبية. وكان سباقاً في ارتياد هذا الميدان بأدوات ومنهجيات حديثة. فهو واحد من رواد علم الفولكلور، وقد جمع الأمثال والعادات والتقاليد الشعبية وحللها، إضافة الى الشعر العامي بتنوعاته المختلفة. يذكر أن للمعلوف تأريخه لفخر الدين المعني الثاني والأمير بشير الثاني وإبراهيم باشا المصري وظاهر العمر في فلسطين، ومن المعاصرين، الأسرة اليازجية والبطريرك غريغوريوس الرابع حداد وغيرهم.

والمؤلفات التي أصدرها المعلوف في حياته محدودة، بالمقارنة مع الجهد البحث والتأليفي والكتابي على امتداد عمره المثمر، إذ لم تتجاوز التسعة عشر كتابا فقط، لكن مخطوطاته تبقى هي الأساس، اذ تربو على ستين مخطوطا، بعضها يتكون من أجزاء عدة، كمخطوطة الأخبار المدونة والمروية في أنساب الأسر الشرقية، الذي نشره فواز طرابلسي تحت عنوان “تاريخ الأسر الشرقية” في سبعة أجزاء في العام 2008.

المدن

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى