مقالات

ماذا يُفضّل الكاتب العربي.. الالتهاب في الحلق أم الموت مقتولًا؟/ سامر مختار

 

 

هناك تفسير نفسي لالتهاب الحلق، لا أدري إن كان مثبتًا علميًا أم لا، غالبًا ما يتم تداوله بالثقافة الشعبية، وكأنه التفسير البديهي، والمنطقي، والوحيد، وهو عندما يقول أحدهم لصديقه، حلقي ملتهب؛ فيجيبه الصديق، غالبًا هناك شيء تريد التعبير عنه بالكلام، لكنك إما خائف، أو محرج، أو عاجز عن التعبير عمّا يجول في داخلك. أما العبارة الأكثر شيوعًا هي” فيه كلمة واقفة بسقف حلقي”، أي هناك كلمة تم  احتجازها وتعذيبها في حلق المتكلم، ولا نعرف مصيرها، هل سيتم بلعها للداخل وتعود من حيث أتت، أم سيكتب لها الخروج؟!

في سوريا، كان التعبير بالكلام الشفوي، أو الكتابة، هو أحد الأسباب الأساسية، لانطلاق شرارة الثورة، مجموعة أطفال تأثروا من خلال متابعتهم لما يجري في تونس، ومصر، كتبوا على جدران مدرستهم “الشعب يريد إسقاط النظام”، لتكون العقوبة اعتقالهم، واقتلاع أظافرهم.

لكن حتى قبل بداية الثورات العربية، كانت الأنظمة العربية تعاقب من يتجرأ أن يكون لديه رأيًا مخالفًا، بما يخص الشأن العام، والكلام في السياسية. فإما أن تكون العقوبة الاعتقال، أو الاغتيال، أو المنفى. في عهد الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو، كان نظام مخابراته ينفّذ عمليات الإعدام شنقًا لمعارضيه داخل بيوتهم، ويظهر خبر “وفاتهم” تباعًا في الصحف اليومية، بأن المعارض الفلاني أو الكاتب الفلاني مات منتحرًا.

الملفت للنظر في عملية التعبير بالكلام أو الكتابة عن مسألة شخصية، أو عامة، هو أنه حتى في حالة الخوف من الكلام أو الكتابة، لا يستطيع المرء أن يكبت كلام يعبّر عن رأيه المناقض للرأي السائد، فلا تصل درجة الصمت عند الإنسان إلى نقطة الصفر، أو خنوع كامل للسلطة القامعة للكلام. حتى الناس البعيدين عن مهنة الكتابة، والذين يعملون بمهن لا تحتاج للتكلم بالسياسة بشكل يومي، حين تتدهور أوضاعهم المعيشية، ودرجات القمع المباشر وغير المباشر تزداد أكثر وأكثر،  فيذهبوا لانتقاد الوضع السياسي بأساليب مختلفة.

في الشارع المصري مثلًا، هناك دائمًا نقد للسياسة الراهنة، إما من خلال السخرية، الإفّيه/ النكتة، أو من خلال ترميز الكلام. في إحدى المرات، ركبت ميكرو باص، وكان الطريق شديد الازدحام، لدرجة أن جميع الركاب عرفوا السبب؛ وهو إغلاق شوارع رئيسية، بسبب وفد حكومي، أو رئاسي سيمر منها، وفي لحظة يأس من طول فترة انسداد طريق، قال أحدهم: “هنقول ايه بس؟! ربنا ياخد اللي ببالي!” فضحك جميع الركاب والسائق أيضًا، وتحمّس راكب آخر وقال”وربنا ياخد اللي بالي كمان!” وأضاف” بس خد بالك… اللي ببالي غير اللي ببالك! ” فأجابه الراكب الأول: “هو في غيروا؟!” وضحك الجميع مرة أخرى ضحكة تعبر عن نجاحهم في ارتجال نكتة معناها شديد الوضوح، وفي الوقت نفسه بإمكان المرء تحريفها!

يصنّف موقع ويكبييديا باللغة العربية نوع رواية “شرق المتوسط”  لعبد الرحمن منيف بأنها “خيال سياسي”، لكن لماذا لم يكتفِ الموقع بتعريف الرواية على أنها رواية سياسية مثلًا؟ الجواب بكل بساطة هي أن الرواية تناولت قصة معارض سياسي لنظام عربي ديكتاتوري، قُتل في المعتقل تحت التعذيب، من دون أن تحدّد من هو هذا النظام، هل هو النظام السعودي؟ أم العراقي؟ أم السوري؟

يحيلنا تصنيف رواية بأنها خيال سياسي، تحكي عن واقع معاش، وهو التعذيب في السجون، وقمع الحريات، وقد تمس أي شخص عانى من الاعتقال، إلى تجربة الأساليب الرمزية وغير المباشرة، في الكتابة الأدبية في الفترة التي سبقت قيام الثورات العربية.

رواية شرق المتوسط لم تمنع في سوريا، البلد الذي عاش فيها عبد الرحمن منيف منذ عام 1986 حتى وفاته 2004، بل تم تجاهلها، إذ أن السلطة في سوريا قد تكون ربطت أصل الكاتب – من السعودية – بأحداث الرواية، أي أنها ليست المقصودة، طالما المقصود من الرواية، إلقاء الضوء على القمع والتعذيب في البلدان العربية، ليستثني كل نظام نفسه من قائمة “البلدان العربية”.

بالنسبة لتعامل النظام السوري مع الأدب السوري، فإنه قد يسمح بمرور رواية من مقص رقابته، إن كانت تحكي عن الماضي، من دون مساس نتائجه في الحاضر، والمستقبل. وهذا ما أدى إلى ازدهار الرواية التاريخية، أما الرواية السورية التي يصنفها ويكيبيديا على أنها تنتمي إلى نوعين: خيال نفسي، خيال سياسي، هي رواية القوقعة للكاتب والروائي مصطفى خليفة، والتي استمد أحداثها من فترة اعتقاله في سجون النظام السوري لمدة 15 عامًا. لكنها بالطبع منعت بسوريا، لأن الروائي حدّد المكان التي تجري فيها الأحداث: سوريا. عدا أن كاتبها معتقل سابق.

وفي نفس السياق بالنسبة للدراما السورية، فلا مانع من كتابة مسلسلات تاريخية، وحين يأتي الكلام عن اللحظة الراهنة، فهناك مواضيع كثيرة ممكن الكتابة عنها بشرط الحذر من شرح أسبابها السياسية إلا بحدود المسموح به. مسلسلات اجتماعية سورية كثيرة ازدهرت بآخر عهد حافظ الأسد، وبداية عهد بشار الأسد، مثل مسلسل مرايا، وبقعة ضوء، الذي ينتقد مشاكل اجتماعية تارة، وتارة أخرى ينتقد فساد مؤسسات الدولة وبيروقراطيتها، ضمن قوالب كوميدية ساخرة، أما مسلسل “غزلان في غابة الذئاب” فاعتبر من أجرئ المسلسلات السورية التي تناول السلطة القمعية المطلقة لابن مسئول حكومي.

تأتي قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية، لإعادة التفكير بالثمن الذي من الممكن أن يدفعه أي كاتب أو صحافي أو مفكّر في حال فكر في الكتابة ضد نظام بلده، أو حرّض على التمرّد عليه.

والكلام الذي يجب أن يقال من وجهة نظر كاتب ضد النظام، إما أن يكتمه، ويظل عالقًا بسقف حلقه، أو يطلقه ليسبّب التهابًا بجسد النظام كله.

درج

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى