ثقافة وفكر

جورج البطل وحزبه.. حصاد المحاكاة والعبث/ وضاح شرارة


من مواقف محاوَرة جورج البطل (1930-2016)- الشيوعي الذي تولى العهدة عن علاقات حزبه الخارجية في إطارها السوفياتي طوال عقود- محاوره ورفيقه وشريكه الشيوعي الآخر (“المنظمة”) في محاولة توحيد منظمتيهما في 1996، فواز طرابلسي، الموقف التالي (جورج البطل/ أنا الشيوعي الوحيد، دار المدى، بيروت، 2019): كان المحاوِر سأل صاحبه في مطلع الفصل التاسع، الموسوم بـ”الشيوعيون والحرب” عن عشية “الحرب” وسنواتها: مؤتمرات وحوادث و”دخول المقاومة الفلسطينية الأراضي اللبنانية”، و”بدء العسكرة” و”قيادة جديدة تسلمت المسؤولية بعد المؤتمر (الحزب الشيوعي) الثاني” (1998). فيتم جورج البطل إحصاء الوقائع الجديدة: إنشاء تنظيم عسكري سمي الحرس الشعبي بعد المؤتمر العتيد في إطار “العسكرة”، وأحد شروطها وربما عواملها تقوية العلاقة ببعث صلاح جديد الحاكم في سوريا (1966-1970) و”فتح” ياسر عرفات وصلاح خلف و”جبهة” جورج حبش “الشعبية” (ص 241-245).

و”الحرس الشعبي ليس إلا الحلقة اللبنانية، المحلية من عقد عربي يفترض أن يطوق حبله الكامل، فيحمل اسم الأنصار، أعناق البلدان العربية، القريبة (“بلدان الطوق”) والبعيدة، إذا جاز البعد في المسألة الفلسطينية، مثل السودان. وعلة إنشاء الأنصار على قول لا جدال في بداهته، أن “الشيوعيين، ينبغي أن يكونوا جزءاً من المعركة المصيرية”، وهم فطروا بطبعهم وسليقتهم ونحيزتهم على أن يكونوا “دوماً في الطليعة”. وجراء أمور غامضة أو مخالفة لطبيعة القوم ودورهم المركوز فيهم بالضرورة “لم يستمر تنظيم (الأنصار) لأكثر من شهر: “سُفِّر” عبدالخالق محجوب رأس الحزب الشيوعي السوداني إلى القاهرة، الأردنيون (الشيوعيون هم استعارتهم) فوتحوا بالأمر ولا يعلم القارئ جوابهم، والعراقيون “بدوا” جديين وقرينة جدهم (جديتهم) إيفادهم مندوبين “جديين”، والسوريون أو حزبهم “أَفشل المشروع نتيجة صراعاتهم… الداخلية (التي لم تسمح لـ(رياض الترك) بأن يتفرغ للمهمة أو أن ينجز أي إنجاز”. ويخلص “القيادي” التاريخي إلى نتيجة لا تترتب على المقدمة الطليعية والمصيرية الجامعة (السودان والأردن والعراق…): “في الحقيقة وبإيجاز شارك الجميع ثم هربوا”.

“الحركة الثورية العالمية”؟

وعلى الضد من التهافت العربي، والشيوعي الطليعي وجه منه وجزء، ولد الحرس الشعبي، إذاً اللبناني، مخلوقاً كاملاً وسوياً، و”استقر وأقام قواعد في الجنوب، وبدأ عملاً عسكرياً جدياً، شكل لنا بنية تحتية جاهزة للحرب من  وسلاح وأشخاص مدربة (كذا!) على السلاح. واستفدنا من مجموعة رفاق تقاعدت من الجيش (…). امتلكنا قاعدة كبيرة في قبريخا ووادي الحجير”. ويبقى سراً في ضمير الكتمان وأرشيف الحزب، غير المحفوظ على أرجح الظن، عدد المقاتلين ونوع الأسلحة وكمية الذخيرة ومساحة القاعدة ومستوى التدريب ومصدر التمويل وأكلاف “القاعدة” المفترضة وعملياتها غير السرية.

وتتضاءل هذه الأمور بإزاء الخبر الذي يزفه “المؤرخ” الظرفي إلى محاوره، وإلى قارئه من بعد: “خلال الفترة الواقعة بين عامي 1970 و1975م، خضنا معارك في الحركة الثورية العالمية”. ويتردد القارئ في شأن ما يُقصد به الاسم الطنان. فهل هو ذيول حروب الاستقلال والتوحيد والاستيلاء على فيتنام وكمبوديا ولاوس؟ أم هو حركات الطياحة والغوار والعصابات في بعض بلدان جنوب أميركا الكبيرة والصغيرة وفي بلدان إفريقية كثيرة؟ أو هو ذيول ربيع 1968 الداب بين اليابان شرقاً وبين الحصن الامبريالي غرباً (و”الشيوعية الأوروبية” من ثمراته) وبينهما الثورة الثقافية الكبرى، في حقبة ماو تسي تونغ الأخيرة وحرب الأرياف على الحواضر وتوسع الظل السوفياتي في شرق إفريقيا ووسطها وفي وسط آسيا.

لا هذه ولا تلك ولا هاتيك، لا خيَّب الله لك يا من قد يسأل ولا يتذكر ظناً ولا تخميناً! “الحركة الثورية العالمية”- وهي جماع ندوات مؤتمرات و”كونفرانس” ولقاءات الأمناء العامين في الأنظمة الشيوعية والسوفياتية الحاكمة ومندوبي أجهزتها الديوانية المتخلفة عن كومنفورم (هيئة تخابر) ستالين وكومنترن (الأممية الثالثة) لينين وزينوفييف وتروتسكي و… ستالين، وبعض الدوريات التي لم تمت معها، وعمل جورج البطل “مسؤولاً عن العلاقات الخارجية” في إحداها- هي منظمات يمولها “مال موسكو”، على قول أقحاح الرجعيين مثل حركة السلم (دفاعاً عن التسلح النووي الروسي) وحركة التضامن الإفريقي – الأسيوي (انتصاراً لبريجنيف وسوسلوف و”التطور اللا رأسمالي” على “الكتاب الأحمر” وحروب البؤر الغيفارية المغامرة). وهذه المنظمات تعقد مؤتمرات وقد لا تصنع شيئاً آخر، في ضوء أخبار صاحبنا ومحاور. ويحضر المؤتمرات الجوالة في عواصم العالم اختصاصيون عالمون بما ينبغي أن يقال وبما يحسن السكوت عنه، إلى أن تنزل الفتوى، وينزل القول الفصل، فلا يبقى ما يماحك به ويَلغي فيه اللاغون.

و”الحركة الثورية” هذه، وعلى خلاف كل منطق وعقل ثوريين “ترددت في موقفها من نضال الفلسطينيين” (يوم ضلعت منظمات هؤلاء المسلحة والسياسية في منازعات أهلية متصلة وحملت “الثورة” على القيام محل “الشعوب” الوطنية وجماعاتها السياسية والأهلية والتحكيم في خلافاتها وحسمها باسم ميزانها الأعلى ووحدة معركتها…). و”ربط السوفيات بين الارهاب والعمل الفلسطيني”، بل كانوا على رأس دعاة الربط الفظيع هذا. ويقول الشيوعي الوحيد، متواضعاً للثورة والثوار والأجيال الآتية: “وقد شاركت في هيئات قيادية داخل تلك المؤسسات”، ومن غير أداة وصل أو عطف يقول: “صدح صوتنا الفلسطيني عالياً”.

و”الصوت الفلسطيني”- وهو إذا عطف على ما سبق وعلى ما يلحق صوت المصير (المعركة الموصوفة) وصوت الثورة أولاً وأخيراً، وصوت الطليعة طبعاً، وصوت الدور التاريخي المتوقع والمأمول، وصوت السلاح (“السلاح أيضاً نضال”)… إلى أصوات عظيمة أخرى: الجماهير وحزبها وقائدها “الاستثنائي” (جورج حاوي) و”قرينه” السياسي- انتصر في الحركة الثورية العالمية، وثنّى فانتصر عليها: “بذلنا جهداً استثنائياً حتى أدخلنا ياسر عرفات للمرة الأولى إلى اوروبا تحديداً الى الاتحاد السوفياتي في مهرجان الشباب العالمي في العام 1973م وقد اقتضى هذا معركة مع الاتحاد السوفياتي وقبولاً من ألمانيا الشرقية…”. وتجشّم مناصب المكتب السياسي “السفر أكثر من عشر مرات” إلى برلين (وراء السور) قبل الغنيمة الكبرى بدخول الزعيم الفلسطيني أوروبا وليس أوراسيا مثلاً، “رسمياً وليس تهريباً أو حضوراً ثانوياً”.

“البناء الفوقي” والضباط

ويمهد هذا الشطر الثمين من محاورات موظف الاستعلامات والاتصالات والوساطات  السوفياتي- وأثبت هذا الشطر بحرفه وحلقاته مرآة أراها أمينة لبعض الأبنية والأمثلة والعوامل التي أنشأت الحركات الشيوعية واليسارية على نطاق أوسع ومتصل، “عالمها” وتصورات هذا العالم ولغته ومترتباته العملية- يمهد للأفعال الحاسمة. ومن التمهيد هذا فصول السلاح، و”التدريب في أكاديمية سوفياتية مهمة”، والنقل من اللاذقية، وزيارة حافظ الأسد، والثياب “الشبيبية” من ألمانيا، والسترات الواقية “للرصاص” (كذا!)، والمطابخ، والحفلات في رئاسة الدولة “الديموقراطية”. والمحصلة: “دربنا ضباطاً لقيادة جيش جرار”. فاحتاج الضباط إلى “عشرات الآلاف من العساكر ليقودوهم، على عكس الشائع والمعروف: يُدرب الضباط ويُعدون تلبية لاحتياج الجيش وعملياته ومهماته وجبهاته وحربه. وبداهة قول جورج البطل المعكوس والمخالف تدل دلالة ساطعة على النهج الشيوعي السوفياتي: “البناء الفوقي” ومرافقه وأجهزته أولاً، ثم يُبت في الأمور الملحقة والثانوية: المقاتلين و”الرتش”. ويذكر المذهب بـ”الدور الذي يبحث عن بطل”، وهو دور رسمت النظرية ملامحه وعوامله، وما على البطل إلا أداؤه. وعليه، فـ”الثورة” هي ما يقوم به “الثوريون”. وتعريفُهم من أنفسهم وتلقائهم، ومن نسبهم إلى جهازهم، وليس من صنيعهم وعملهم في وقت وفي مكان، واضطلاعهم بمهمات وتمهيدهم لأخرى في ضوء معايير تنحو إلى العمومية الجامعة والمشتركة (في الحقوق، في الحريات، في الطاقات…).

وينتقل المتحاوران من التمهيد التقني (السلاح، التدريب، المال…) إلى التمهيد السياسي. فيفصل جورج البطل بين بعدين في الحروب المتناسلة غداة 1967: بُعد فلسطيني وبُعد داخلي. ولكنه يترك البعد الفلسطيني من دون وصف ولا تعليل، ويقصره على إقامة المنظمات الفلسطينية “الدويلة”. وهذه الدويلة لا تاريخ لها، ولا سوابق، لا في لبنان ولا في الجوار العربي، ولم ترتب نتائج حيث أقامت (في الأردن) أو مرت (في سوريا). ولم يتنازعها متنازعون وأوصياء، ولا أعملها أصحاب مصالح وأهواء متقلبون في أغراضهم ومقاصدهم، إلخ. فهي هي: مصير وطليعة وجد وثورة. (أنظر أعلاه). ويلخص الرجل البعد الداخلي بـ”استعدادات (عسكرية) في المنطقة الشرقية”. فهذه سبقت “كل القوى في المنطقة الغربية فيما يتعلق بالإعداد والسيطرة على منطقة وإقامة كيان أو شبه كيان” (ص246-249).

ويخيل للرجل أن فصله اللفظي البعدَ الداخلي من البعد الفلسطيني يفك الواحد من الآخر. فإذا تأخر الإعداد العسكري “الغربي” (نسّبه إلى المنطقة الغربية، العروبية والإسلامية هوىً وسكاناً) عن نظيره الشرقي (المسيحي “اللبناني-اللبناني” على قول صحيفة العمل قبلها) – وهو تأريخ أو تحقيب مبتسر ومموه-. فالبؤرة العسكرية الفلسطينية كانت السباقة إلى النشوء والعمل. واستمالت “البعد” الداخلي، العروبي والإسلامي الأهلي والحزبي الإقليمي واليساري، في وقت مبكر، واستتبعته وألحقته في خدمتها من دون بقية استقلال بـ”داخل” مفترض أو مزعوم. فتحالفت الكتلة الفلسطينية- العربية، وهي قوى متقاتلة ومتناحرة ومتنافسة على الولاءات الأهلية والإقليمية المشرذمة، مع “جبهة أحزاب وقوى وشخصيات (وطنية)” لا تحصى خلافاتها، ولا يجمعها غير تشاركها الطمع في السيطرة على “الموقع” أو المفترق الاستراتيجي اللبناني، واقتسام ريوعه الفلسطينية والعربية المنتظرة والمتوهمة تحت قناع حرب تحرر مثلثة القارات.

“المافيا اللينينية”

وعلى هذا، انقلبت المنظمات العروبية- الإسلامية، في غضون سنة، أجهزة مرتبية المستويات والصلاحيات والوظائف والرواتب والخدمات (السيارات والشقق وجماعات المرافقين وصفوف الداخلين إلى المصاعد، على ما يروي الراوي من غير مواربة، ص 266 وص269-273 وص280، وغيرها). واحتذت على مثال الكتلة الغالبة. وهذه لم تلبث القوات المسلحة السورية أن تغلبت عليها. وانصرف “الثالوث” السوري-اللبناني- الفلسطيني إلى تصديع البلد المضيف ودولته و”مجتمعه” وجماعاته إلى حين إنجاز أتم الشبه بأرض سباء أو “ساحة” أو “ملعب”.

ويقول الرجل أن جورج حاوي، شيخ “المافيا” اللينينية (ص280 وص 104 في صيغة أخرى)، دعا المؤتمر الثالث إلى تبني “شعار” الرد على عنف الرجعية بالعنف الثوري”، في ضوء تمييز البعد الداخلي من البعد الفلسطيني. وعلى زعمه أن نقاشاً جدياً تفحص “طبيعة الحرب”، وتساءل أطرافه: “هل ستكون حرباً طويلة المدى أم إن البورجوازية أعقل من أن تدمر البلد وهي تعيش حالة انتعاش، لا سيما أن موسم الصيف على الأبواب؟”. واختيار “البورجوازية” (“وكلاء الشركات وأصحاب المعامل والمصارف” و”في قلبها المسيحيون”، ص248) أو انتخابها، في خضم حوادث تتزاحم فيها بالمناكب أزمات الدول والكيانات، والإخفاقات في إرساء أركان اقتصادات متوازنة ونامية، وتقتتل أجنحة الأحزاب العسكرية والمدنية المستولية على السلطات وعلى امتلاك وكلاء وعملاء مسلحين في الدول القريبة- هذا الانتخاب قرينة صارخة على سقوط المتحاورين في حفرة “ماركسية” كاريكاتورية.

فهما يفترضان كتلة اجتماعية وسياسية واحدة ومركزية، لا تشوبها ولا تعكر تراصها أواصر عصبية وأهلية ووطنية وطائفية متفرقة ومتنازعة، تتولى “قرار” الحرب، وتمولها. وهما يحسبان أن الشق المسيحي من “البورجوازية” هو الآمر الناهي في أجنحتها الاقتصادية والأهلية كلها، وفي الطبقات الاجتماعية “الشرقية” (المسيحية) من غير تمييز، وفي الهيئات والمؤسسات والتكتلات السياسية والدينية والثقافية. ويخالف التقدير الفظ والضرير هذا الوقائع المشهودة، وتدل كلها على انقسامات ومنازعات كثيرة دلالتها على تأثير الظروف والحوادث ومعانيها في تحريك الخطوط السياسية. ويتذرع التبوييب الطبقي بدور “البورجوازية” الحزبي إلى نصب عدو طبقي لها، لا يقتل افتراضاً وكاريكاتورية عنها، هو “حزب(جماهير) المثقفين والفنانين والشعراء والنخب في البلد” وأولاد العائلات، الحزب الشيوعي (ويسهو “القيادي” اللينيني عن … العمال والفلاحين، أصحاب المطرقة والمنجل وأهلهما!).

ويسأل المحاور، وهو لا يقل قيادية ولا لينينية عن صاحبه، الرجل سؤالاً شيوعياً نموذجياً وينتمي إلى باب التمارين على “النقد” (الذاتي، وهو المفضل) والاعتراف بعد خراب البصرة وبيروت وحلب وصنعاء وبغداد والقدس… بالهفوات والأخطاء، فيقول:”ألم يكن لنا تصور حداثي طبقوي مبالغ فيه حول عقلانية البورجوازية وقوتها؟ (…) كان هناك وهم مشترك أن قليلاً من الضغط العسكري يجعلهم يتنازلون للإصلاح.”. وأناقة “التصور الحداثوي الطبقي”، ومسحة النقد الذاتي في حلة إطراء النفس وكيل المديح لها (“العيب” المعاب هو إسباغ حزب “الإصلاح” على العدود الركيك والمتهافت و”الغبي”، على وصف حاوي النبيه والذكي، قواماً متماسكاً لا شأن للعدو به)، تقصران التوهم على العدو. أما “نحن”، كتلة “الإصلاح” و”التحول الديموقراطي” فالعقلانية والحداثة والطبقة الطبقية هي الميزان الذي نزن به وحدنا أفعال الآخرين، ولا يزننا غيرنا، وهو حكماً لا عقلاني ولا حداثوي ولا طبقوي، به.

فلا عقلانية العدو الطبقي هي نظير عقلانيتنا “الشيوعية” الصارمة. وهذا على نقيض سرد “القيادي” ملاحظاته على مشاهداته. فينقل عن كمال جنبلاط عتبه على وفد الشيوعيين: “يا عمي، عم تخربطوا البلد. ما لحقنا أيمتى إجا رشيد الصلح وعندنا وزيرين… في شوية خدمات وتوظيفات بدنا نعملها لأهل المنطقة” (ص 249). وحاوي “اندفع في (الحرب) بسبب تقديره أنها ستكون طويلة. بدت قراءته للحرب أصدق وأصح من قراءات آخرين… وبالتالي دَعَم العسكرة. وللأسف الشديد… خسرنا الكثير من الكوادر الواعدة التي تبعثرت حول العالم… لأنهم لا يريدون الانخراط في الحرب…” (ص250). وبعد “بدءٍ نظيف” بدأته الحرب “واكبنا على الفور لصوص بيروت كلهم، وبدأت عمليات النهب والسرقة” (ص255)… عقلانياً وطبقوياً وحداثوياً، طبعاً.

وغياب طبقة بورجوازية وطنية وتقدمية تمول الحرب الثورية، بديلاً ربما من طبقة عاملة “واعية”، أوجب على الحركة الثورية الوطنية (الحزب الشيوعي وحليفه القريب) انتظار “الكرم” الليبي القذافي “المتأخر” (ص 257)، ومجيء “المبالغ الأولى المنتظمة من العراقيين”  الصداميين وذباحي الشيوعيين العراقيين و”دفع حصصنا” (نفسه). وفي لقائه حافظ الأسد (صيف 1976 “حمل” كمال جنبلاط “أحقاد العائلة الجنبلاطية (على) الأمراء المسيحيين و(على) الأمراء الدروز الذي تنصروا” (ص 261). وهذا غيض من فيض العلامات والقرائن على العقلانية والحداثة الثوريتين اللتين لبستا حزب الإصلاح والتحول الديموقراطي، وعوَّل عليهما القادة حين دخلوا الحرب، وحين أعدوا العدة لها واستعجلوا قدومها.

انعطاف في فنجان

ودعت إلى الوقوف عند الفصل اللبناني من الحروب الأهلية الإقليمية الواسعة في مذكرات الرجل مكانة الفصل والحروب من وجه، ودلالتها على “خفة” الحركات اليسارية والعروبية وأجهزتها القيادية العسكرية والحزبية (وهي موضوع الكتاب). وعادت الخفة هذه على المجتمعات والدول وأهلها ببعض ما لم تنهض منه، على أضعف تقدير. ويصل الراوي فصل الحروب المحلية بفصل آخر سبقه يتناول مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني الثاني (1968). والفصول الثلاثة التي عقدها الكتاب للمؤتمر نفسه، السادس (ص 133-156) والسابع (ص157-186) – والثامن (ص 187-240)، لا تستوفي الحوادث التي تتعلق بالمؤتمر، تمهيداً ومجرى وذيولاً. فهذه تتغلغل في أوردة الرواية وتظلل وقائعها. وهي ألصق بالراوي من الوقائع الأخرى. وذلك لأن المؤتمر العتيد هو الفصل الذي يوحد السيرة الشخصية بالسيرة السياسية من غير فرق أو تمييز، ويجلو شلة الرفاق والأصحاب والأصدقاء في صورة قيادة حزبية “تاريخية” و”استثنائية”، على ما بقي أفرادها يحسبون. ولا يقتصر الدور القيادي على لبنان وبلدان الجوار العربي، فيتعدى الدائرتين إلى “المستوى” العالمي. فلا يشك جورج البطل، “المسؤول” عن كتلة بلدان في جهاز مطبوعة “قضايا السلم والاشتراكية”، في انتصاب شلته الحزبية التي تغلبت على “شلة حسن (قريطم) وصوايا (صوايا)”، وشريكهما الباهت نقولا الشاوي، مثالاً احتذى عليه وجوه ربيع براغ في 1968. فهو يردد أن دوبتشيك وأصحابه يصنعون “ما نصنعه نحن” (يومها)، ويعزو إلى أصحابه تعريف الكتلة السوفياتية بياسر عرفات…

وحمل شلة “الشباب” في أواسط العقد السابع من القرن العشرين، على خلع الثلاثي “الهرم” (“الخيول الهرمة”، على قول الشاعر ميشال سليمان المعاصر) والانقلاب عليه عوامل كثيرة لعل أرجحها تركة 1958 (“الحوادث” الأهلية اللبنانية)، وعزلة الحزب الشيوعي بين الجماعات الاهلية والسياسية الناصرية و”الوحدوية”. وهذه الجماعات مسلمة في معظمها. أما الجماعات المسيحية فـ”النظام” اللبناني، الاجتماعي قبل السياسي، استمالها، وأوحت التيارات الإصلاحية الدينية (فاتيكان-2) بجواز صيغ وطنية تؤلف بين النزعات الاجتماعية وبين الديموقراطية التمثيلية. ونجمت العزلة، على ما رأى شطر من الحزبيين، عن نهج خالد بكداش، وتحفظه الشديد عن الوحدة المصرية – السورية. وجدد ما أثاره التحفظ من تنديد قومي وعروبي حاد بعض الإدانة التي بعث عليها اعتراف موسكو في 1948 بالدولة العبرية. فخلص جيل من الشيوعيين لم يشهد “النكبة”، ولا خاض فعلاً في 1958، ولكنه ورث ذيولهما وآثارهما في أواخر ومستهل عقدين قوميين، إلى أن علاج القضايا الكبيرة والصغيرة هو “السباحة” مع التيارات القومية  وفي مياهها العميقة والموّارة.

ولم يكن أثر الغيفارية والكاستراوية الرومنطيقيتين، والماوية على نحو أضعف، ضئيلاً. ومن وجه آخر، لم “يجحد” الشيوعيون الشباب- وهم كانوا خالي الوفاض من أي تراث سياسي وتاريخي يتعدى الشعارات الظرفية- التراث الجهازي والإداري الذي تحدر إليهم ولا علم لهم بغيره، وكان ذريعتهم ووسيلتهم إلى تعريفهم أنفسَهم وشق طريقهم إلى دورهم وإلى معاشهم. وأقنعتهم الانقلابات الحزبية، العسكرية والتنظيمية، والحركات المسلحة في العالم الثالث، بتخطي الإمساك و”التواضع” اللذين قيدا الأحزاب الشيوعية العربية إلى يومها، وصرفاها عن الاستيلاء على السلطة، بينما تمكنت أحزاب قومية، هزيلة القوام و”الفكر”، من الاستواء أحزاباً حاكمة.

وقد يكون جورج حاوي خير تمثيل علىى مزيج هذه النزعات والدواعي والحسابات والأبنية.

وما يصوره الراوي انعطافاً تاريخياً، يرويه فعلاً على شاكلة “انقلاب قصر” (والقصر في هذا المعرض حوش عشائري). وحصة التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية منه لا ترى بالعين المجردة ولا بالمجهر المكبر. فالنقابات، على سبيل المثل، ظلال باهتة. والحركة الطلابية خيال بعيد. ومحاولات تجديد التحركات والبرامج “الشعبية” لم تبلغ أصداؤها آذاناً “قيادية” صماء. وهذا ثمرة قران الانحطاط السوفياتي والاستتباع “العربي” في منتصف الحرب الباردة.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى