وجها لوجه

صوفي بيسيس: بين الكونية والثقافويّة الضيّقة

 

نائلة منصور

صوفي بيسيس مؤرخة، إلا أنها تمثل كذلك تياراً من النِسويات الكونيات الذي قد يُرى على أنه متقادمٌ أمام موجة نِسوية حديثة تعزز الثقافوي وتحتفي به وتنظّر لفاعليته. هل طرحنا الأسئلة الكافية حول موقع وأثر كل من هذين التيارين؟ التقيناها في شقتها الباريسية في شتاء 2017 لنتحدث عن اتجاهات النِسوية الإسلامية وموقعها من النِسوية الكونية الكلاسيكية، فأخذنا النقاش إلى الكلام عن الكونية والثقافويّة في السياسة والتاريخ، والكلام عن أحوال العالم العربي الإسلامي في منطقتنا.

كان الحافز وراء هذا اللقاء ما ذكرتِه في مناسبات عديدة عن المناحي الجديدة في النِسوية والنِسوية الإسلامية، والتي تفضي إلى القضاء على النِسوية الكونية باسم الثقافي والخاص المحلي، أردنا إذن أن نناقش معك هذا الأمر.

كما أرى الأمر، فإنّ الكونيّ محاصر بين هيمنة السلعة وهيمنة الدينيّ. وجهان للعولمة التي لا تمتّ بِصِلة إلى الكوني، هي مضاد للكوني، وهي أطروحة اشتغلتُ عليها في كتابي المأزق المزدوج، وفي الكتاب نفسه هناك مقاطع مطوّلة عن الثقافوي والجوهراني.

سنعود إلى كل ما ذكرتِه، ولكن قبل ذلك نتمنى أن تقدمي نفسك كما ترغبين، إذ يبدو لنا أن القرّاء الناطقين بالعربية، في المشرق العربي على الأقل، لا يعرفونك بما يكفي.

لا أعتقد أنهم يعرفونني، لدي كتابٌ واحد تُرجم إلى العربية هو الغرب والآخرون: قصة هيمنة، صدر عام 2000 وترجمته بشكل مقبول دار النشر المصرية «دار العالم الثالث». كيف أقدم نفسي؟ كل عمل، بحثي أو أكاديمي يستند بشكل أو بآخر إلى تكوين شخصي، ربما لو لم أكن ما أنا عليه، أو لو لم أتلق التكوين الذي تلقيته، لما كتبتُ ما كتبته.

ولدتُ في تونس، أنا تونسية أنتمي إلى الأقلية اليهودية في تونس، إلا أنني تربيّتُ ونشأتُ في وسط عائلي علمانيّ بشدّة، بالمعنى الواسع لمعنى علمانية. على مستوى والدَيّ، نشأتُ في وسط شيوعي. أمي وأبي كانا مناضلين شيوعين. هذا الجزء من تكويني وتربيتي مهم جداً، مهم بالنسبة لما أصبحتُه فيما بعد، لأنني أعتقد أنه في تونس وربما في كل البلاد العربية، كانت الأحزاب الشيوعية بكل ما لها وما عليها من أخطاء ونقائص، ونقائصُها كثيرة، المكان الوحيد الذي يتم فيه تجاوز الانتماءات الإثنودينية، وهذا عنصرٌ لا يمكن إهماله في تكويني الشخصي.

لم تُطبع طفولتي على الإطلاق بهذا الانقسام، من جهة بسبب محيطي العلماني واللاديني، ومن جهة أخرى لأن منزلنا كان مكان التقاء لكل الناس بكل الأطياف. لم يكن هناك فرق بين العرب والفرنسين اليساريين وكل الآخرين، وهذا ما ترك أثراً كبيراً في حياتي الشخصية. ثم كان للتاريخ ما له، وارتبطت حيوات ومصائر الأفراد بالتاريخ الجمعي كما هو الحال دائماً في بلداننا، وغادرت الأقلية اليهودية البلاد لأسباب عديدة، ولكني غادرتُ تونس دون أن أغادرها حقاً.

في بداية الستينيات، في عام 1962 تحديداً، تعرض والدي لبعض المشاكل، آنذاك كانت الجمهورية التونسية تحاول التخلص من كبار موظفيها اليهود، فغادرنا تونس تاركين وراءنا بيتاً. لم أنقطع عن تونس يوماً، اليوم حين أذهب إلى تونس، أذهب إلى بيتنا. لم أتخلَّ يوماً عن جنسيتي التونسية فأنا اليوم ثنائية الجنسية: فرنسية وتونسية. أصبحتُ فرنسية بعمر الثلاثين وليس قبل. أتممتُ دراستي في باريس، دراسة كلاسيكية ، حصلت على شهادة التبريز في التاريخ1 عام 1972. حين أنهيتُ دراستي أردتُ أن أعود إلى تونس. كان الأمر بديهياً بالنسبة لي، ولكنه لم يكن بالقدر نفسه من البداهة بالنسبة إلى تونس. لم يكن لديَّ أي رغبة بالبقاء في فرنسا، بالنسبة لي فرنسا بلد غريب عني. حتى اليوم أشعر بنفسي فرنسية لغةً وثقافةً ولكني لست فرنسية بمعنى العلاقة مع المكان. ولحسن حظي أن ثقافتي أوسع من فرنسا، فقررتُ الذهاب باتجاه أفريقيا جنوب الصحراء.

حين غادرنا تونس في 1962 دخل أبي في سلك الموظفين الدوليين، وعشنا في الكاميرون وفي أثيوبيا. وبالنسبة لي، كانت أفريقيا نوعاً من الكشف الكبير. لذا ذهبت للتدريس في الكاميرون، حيث بقيت عدة سنوات وهناك بدأتُ الجزء الأول من حياتي المهنية، بمعنى أني تركت التاريخ لبضع سنوات وعملت على مسألة التنمية وعلاقات الشمال بالجنوب من وجهة نظر اقتصادية. أصبحتُ اقتصادية بمعنى ما، وكنتُ صحفية، درّستُ في الكاميرون ومن ثم أصبحت صحافية في صحيفة أفريقيا الشابة2 حيث بقيت عدة سنوات.

يمكننا أن ندعو تلك الفترة بالسنوات الأفريقية، وتلك القارّة علمتني الكثير، قارة لا يعرفها العالم العربي أو لا يريد أن يعرفها، ففي العالم العربي هناك خوف دائم من مراجعة التاريخ. مثلنا مثل كل شعوب العالم، لدينا مراحل مظلمة ومراحل مشرقة في تاريخنا لا يريد العالم العربي أن يعرفها، وهذا ما يظهر جلياً في أيامنا حين نرى ما يجري في ليبيا من عودة إلى النخاسة والاستعباد وما إلى ذلك. يعرفُ الأفارقة هذا الجانب المظلم من التاريخ العربي حقّ المعرفة، ويتذكرونه. وهكذا فقد اشتغلتُ كثيراً على أفريقيا وأولى كتبي كانت عنها، غطيّتُ كل أفريقيا الغربية، ولمدة 25 عاماً طُفتُ شعاب أفريقيا السوداء جنوب الصحراء، وتمحورت كل كتبي حول الاقتصاد السياسي لما كان يدعى في ذلك الحين العالم الثالث، وعلاقات الشمال بالجنوب. إذا تفحصنا الناظم لما كتبت، فهو بلا شك علاقات الشمال بالجنوب.

هل عملتِ أو كتبتِ شيئاً مشتركاً مع سمير أمين الذي عمل طويلاً حول هذه المسألة؟

أبداً. أعرفه وأعرف عمله ولكن لدينا كثيرٌ من نقاط الخلاف، لقد كان مع أندريه غوندر فرانك منظّراً للتبادلات غير المنصفة بين الشمال والجنوب، ولكنه أغفل لوقت طويل من عمله التبادلات غير المنصفة في داخل المجتمعات نفسها والفروق الطبقية في داخل بلدان الجنوب. أعتقد أن هذا نقص كبير في عمله. ومن جهة ثانية لدى سمير أمين جانب ماركسي متقادم ليس لدي، وقد أهمل مسألة الفلاحين، وهي مسألةٌ اشتغلتُ عليها كثيراً. لقد ركّز الماركسيون كثيراً على الطبقة العاملة مهملين الفلاحين. كنتُ أقول لك إذن أنني اشتغلت كثيراً على مسائل الشمال والجنوب. أول كتبي تناول هذا الأمر وكان بعنوان سلاح الغذاء، وكان حول الرهانات الغذائية والزراعية في علاقات الشمال بالجنوب.

بالتوازي، خلال هذا المسار ولأنني صادفتُ المرأة كثيراً خلال عملي، فقد اهتممتُ بها في كتاباتي، كنتُ دائماً نسوية ولكن ليس على المستوى البحثي والعلمي، وبهذا كان الخط الثاني في عملي هو النساء في المغرب وفي أفريقيا جنوب الصحراء. كنتُ باحثة حرة دون أي ارتباط أكاديمي جامعي، فرغم أنني درّستُ في ظروف وأماكن عديدة، ولكنني كتبتُ كتبي خارج الأطر الجامعية. لهذا، وقد يكون أمراً يحدث لكل من لا يعمل في الأكاديميا، وسّعتُ حقل رؤيتي، بدأتُ أكتب كتباً أكثر عمومية، دائماً حول علاقات الشمال بالجنوب، قبل قليل حدثتكِ على كتاب الغرب والآخرون، وهو مقالة طويلة عامة جداً حول أسس هيمنة وفوقية الغرب. هناك جانب اقتصادي بطبيعة الحال، ولكنه كتاب عمومي وتاريخي كذلك. لقد عدت بطريقة أو بأخرى إلى التاريخ، لأن التاريخ جوهري في فهم كل الظواهر، حتى ما نعيشه منها في الراهن.

وعليَّ أن أضيف شيئاً مهماً حول هذا المسار، وهو أنني تابعتُ عملي حول تونس ومع تونس، حين كنتُ صحفية في صحيفة أفريقيا الشابة كنت أغطي تونس أيضاً، فيما بعد أصبحت صحفية مستقلة أكتب في عدة صحف ودوريات مثل لوموند ديبلوماتيك. علاقتي بتونس بقيت قوية، عملياً لم أهملها في عملي وزياراتي المستمرة، كنت قد ناضلت في شبابي ضمن الحركات اليسارية التونسية، أولاً في الحزب الشيوعي ومن ثم كنت مقربة من بعض اليسار المتطرف وكان لي كثيرٌ من الأصدقاء في هذه الأوساط. في عام 1986 بدأتُ مع صديقة تونسية، سهير بلحسن، وكانت تعمل في صحيفة أفريقيا الشابة أيضاً، بالعمل على كتابة السيرة الذاتية للحبيب بورقيبة، وقد لاقت نجاحاً كبيراً. في ذلك الوقت كان بورقيبة لا يزال حيّاً وفي سدة الحكم. كانت هذه السيرة الوحيدة المستقلة، وقد أُعيدت طباعتها في وقت قريب. أرجو أن يكون هناك سِيرٌ أخرى تكتب عن الحبيب بورقيبة فالشخصية تستحق ذلك، ولكن حتى الآن هي السيرة الوحيدة المستقلة، ومع سهير بلحسن كتبتُ كتاباً آخر هو رهان النساء في المغرب حيث تكلمنا عن عودة العامل الديني إلى الواجهة. فيما بعد، وقبل سنوات من الآن، تركت الصحافة ورجعت إلى موقعي كأكاديمية وباحثة، حيث كتبت عدة كتب منها المأزق المزدوج، والعام الماضي كتبتُ كتاباً صغيراً أخذ مني كثيراً من الوقت بعنوان القيّمات، والذي يستعيد تاريخ خمس نساء تونسيات طبعن التاريخ التونسي.

أريد أن أعود إلى نقطة ذكرتِها في معرض حديثك عن تكوينك الشخصي وخاصة علاقتك بالحزب الشيوعي التونسي، قلتِ إن هذه التكوينات السياسية كانت تتجاوز الانتماءات الإثنودينية. في بلادنا على العموم، على الأقل ما نعرفه في المشرق، كان جزء كبير من المنتمين لهذه الأحزاب من أبناء الأقليات. ألم تشكل لك سنة 1962 خيبة بهذا المعنى؟ أن يتوجب عليك مغادرة تونس بعد كل ذلك النضال، نضال أهلك، في تلك الحركات السياسية.

طبعاً. بالمناسبة كم أودّ أن يرى تأريخٌ لتاريخ الأحزاب الشيوعية في العالم العربي النور. هناك أبحاث وأعمال متفرقة ولكن لا يوجد عمل متكامل عن تاريخ كل الأحزاب، وهو عمل يستحق أن يُنجز. أميلُ إلى تفسير أن تكون دعامات الأحزاب الشيوعية في العالم العربي قد قامت على أقليات على النحو التالي: حين ينتمي المرء إلى أقلية دينية كالأقلية اليهودية، علاقتها بالأكثرية معقدة عبر التاريخ، طبعاً أنا ضد الرواية السوداوية التي ترى العلاقة علاقة رعب وفظائع، وضد الرواية المثالية التي ترى أن العلاقة كانت عبر التاريخ علاقة ودّ وتسامح وتناغم دائم. المناطق الرمادية في التاريخ أكثر أهمية. كنتُ أقول إنه حين يكون المرء يهودياً، من أقلية مضطهدة، وهنا أتحدث على المستوى الجمعي وليس الفردي، هناك حلّان، نجدهما حتى في التاريخ الأوربي لليهودية، في أوربا الوسطى وبولونيا وروسيا وكل البلدان حيث كان التواجد اليهودي مهماً ديموغرافياً حتى ما قبل المذبحة الهتلرية: إما الانكفاء على الجماعة الأهلية أو أن يصبح المرء أُممياً. في العالم العربي، كان من الصعب أن يصبح المرء قومياً، فالقومية العربية بقيت تحتفظ بتلك الدلالة العربية/المسلمة، رغم محاولات  فرض الزمنية «السيكولييه». فلم يكن لتلك الأقليات إلا خيار الجماعة أو الخيار اللاقومي الأممي. هكذا أقرأ الانقسام بين الشعوب اليهودية، من جهة خيار الجماعة الذي أفضى بطريقة ما إلى الشكل الصهيوني، فحسّ الجماعة عند يهود العالم العربي حضَّرَ أرضية ما للصهيونية، وهنا نحن بصدد ثقافة الخصوصية، ومن جهة أخرى هناك معركة نناضل فيها جميعاً لتحرّر كونيّ من أجل قيم كونية، مما من شأنه أن يخلّص من الانعزال الجماعاتي. هذا ما يفسّر برأيي انتماء اليهود في العالم كله، وليس فقط في العالم العربي، إلى الأحزاب الشيوعية. وليس من المدهش أن كل قوى اليمين المتطرف حملت ذلك الخطاب القائل بأن الشيوعية اختراع يهودي، شيطاني، ليس صنيعة البلاشفة فقط، ولكن البلاشفة اليهود تحديداً.

في عام 1962 كان عمري خمسة عشر عاماً. كنتُ مراهقة، وقِستُ خطورة ما يحدث حين غادرنا عبر يأس أهلي الذين انهار أمامهم كل ما آمنوا به، أي تونس متعددة حيث كل التوانسة سواسية. لقد قاتلوا مع رفاقهم من أجل الاستقلال، لذا فقد كانت الخيبة الكبيرة، وتكوّنُ مفهومي للظلم كان عبر أهلي والمقربين منهم والذين اضطروا للمغادرة شيئاً فشيئاً. السؤال الذي أطرحه على نفسي هو «هل كان من الممكن تجنب ذلك؟» هو سؤال يستحق أن يُطرح. لنأخذ دول المغرب، وهو الفضاء الذي أعرفه حق المعرفة في العالم العربي- درست باقي الدول ولكن معرفتي بها أقل حميمية. لقد أدت الاستقلالات إلى نوع من التطهير الإثنوديني، وأنا أَزِنُ كلامي لأني أعرف أنه قاسٍ. لزم عشر سنوات بعد الاستقلال لتصبح تلك الدول شبه أحادية الأديان، وهو ما لم يحصل في كل تاريخها. للجزائر خصوصية في هذا السياق، فالجزائر كانت مستعمرة، كانت ثلاث مقاطعات فرنسية، تونس والمغرب كانتا محميتين فرنسيتين، وبالتالي فالمنظومة القضائية القانونية مختلفة تماماً. هاتان الأخيرتان بقيتا دولتين وطنيتين تحت حكم الملك في المغرب وحكم الباي من السلالة الحسينية في تونس. الجزائر كانت مستعمرة بأكثر أشكال الاحتلال جذرية. ومع إصدار قانون «كريمو» في الجزائر عام 1870، جُنِّسَ اليهود بالجنسية الفرنسية، ماعدا يهود الصحراء، ولكن هذه قصة أخرى لن ندخل في تفاصيلها. مع الاستقلال رحل اليهود مع الفرنسيين لأنهم فرنسيون بالجنسية. طبعاً هنا يمكننا أن نطرح سؤالاً آخر من قبيل: «لماذا لم يكن الحال في الجزائر حال جنوب أفريقيا، كان الأبرتهايد شكلاً شنيعاً من أشكال الاحتلال، ولكن البيض بقوا في جنوب أفريقيا فيما بعد». لا أدّعي أني أملك إجابات على هذه الأسئلة ولكن يجب أن نطرحها. أهو العامل الديني غير الموجود في جنوب أفريقيا؟

 

أعود إلى المغرب وتونس حيث كان الأمر مختلفاً، فقد احتاجت الجماعات اليهودية لوقت أطول من يهود الجزائر قبل أن ترحل ولأسباب مختلفة، ولكن في النهاية، في نهاية التاريخ كما يُقال، في لحظة الاستقلال رَحَلَت. كان عدد اليهود في المغرب يبلغ 350000 نسمة، فهم الجماعة اليهودية الأهمّ عددياً في العالم العربي، وهي جماعات قديمة جداً في التاريخ، هي قبائل بربرية هُوِّدَت، اليوم يبلغ عددهم بين 4000 إلى 5000 نسمة. في تونس، كان هناك كحد أقصى 200000 نسمة آنذاك، أي بعيد الاستقلال، اليوم بالكاد يصل عددهم إلى 1000 نسمة. لذا، أنا أقول إنه تاريخ معقد جداً، لم يُكتَب إلا جزئياً. فثنائية القومية والدين كانت ثنائية رهيبة.

الوطنية مفهوم مختلف عن القومية، يذكرني هذا بجملة شهيرة لرومان غاري أحبها جداً، يقول فيها «الوطنية هي حب الوطن، القومية هي كره الآخر». قد تكون هذه الجملة اختزالية بعض الشيء، لكن فيها شيئاً من الصحة، فالقوميون إقصائيون. ماذا يمكن أن تفعلي، إن كنت من الأقليات في تونس ودستور البلاد بعد الاستقلال عام 1959، ينصّ في فصله الأول على أن «تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها»؟، لأن العمق الشعبي في تونس مسلم والإسلام متجذر في الوعي. لا أعرف. ولكن أي فرد غير مسلم، قد يكون بوذياً، لن يشعر بنفسه تونسياً بحق مع هذه الصيغة من الدستور. بأحسن الأحوال هذا الفصل سيخلق مواطنين من الدرجة الثانية. هناك مأزق في هذا البعد الإسلامي للانتماء الوطني. لا يبدو لي أن الأمر كذلك بالمشرق، الفرق الكبير بين المغرب والمشرق هو أن المغرب عُرِّبَ جزئياً وأُسلِمَ كاملاً ما عدا الأقليات التي بقيت حاضرة حتى السبعينات، أما المشرق فقد عُرِّبَ كاملاً وأُسلِمَ جزئياً. في الجزائر هناك 25% من السكان ناطقين بالأمازيغية، في المغرب هناك 70% من السكان من الناطقين بالأمازيغية، فكانت الحكومات مُجبرة على الاعتراف بهذه اللغة، تأخرت 40 سنة ولكنها اعترفت في النهاية. ولكن في المغرب، الإسلام ليس موضع تساؤل على الإطلاق، الأمازيغيون مسلمون بعمق. إن أخذنا القبائل في الجزائر على سبيل المثال فإن انتماءهم للإسلام عميق جداً، الانتماء إلى العروبة هو ما يُناقَش في المغرب.

بالعودة إلى موضوع التطهير الإثنوديني بعد الاستقلال، ألا تعتقدين أنها ترسيمة إنسانية؟ بمعنى إنه في كل مرحلة يتم فيها التأسيس لدولة/أمة تحصل أشكال من التطهير قد تصل إلى المجازر كما في الحالة التركية مع الأرمن؟

هذا سؤال شديد الأهمية. إن أخذنا مثال تركيا، فالامبراطوريات كانت دائماً متعددة الجنسيات والدول، وهذا طبعاً حال الامبراطورية العثمانية. هذا لا يعني أنه لم يكن هناك رعايا متفوقون ورعايا أدنى، ولكن طبيعة الإمبراطورية هي طبيعة تعددية، وكذلك كان حال الامبراطورية النمساوية المجرية. يكفي أن يُطاع السلطان لتستمر الحياة. تُضطهد الأقليات بين الحين والآخر، فهذا جزءٌ من التاريخ، وحين تبرز المشاكل نبحث عن أكباش الفداء، قد يكون الأرمن أو الدروز في لبنان، إلخ. المذبحة الأرمنية كانت صنيعة الأتراك الشباب الذين كانوا يحضّرون للكمالية، قبل ذلك اضطُهد الأرمن ولكن لم يصلوا يوماً إلى المذبحة حتى قبيل الكمالية. فيما بعد احتفظ التاريخ بالجوانب الإيجابية للكمالية من تحديث وعلمانية وحريات للمرأة، إلا أن مصطفى كمال ارتكب تطهيراً بحق اليونانيين كذلك، لقد كانت آسيا الصغرى يونانية منذ 3000 عام، ولكنه استبعدهم من هذا الفضاء وأُحرقت إزمير التعددية، وطبعاً أصبحت تركيا جمهورية علمانية مسلمة سنيّة.

بالعودة إلى سؤالك، هل رحيل الأقليات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنشوء الدول الأمم؟ هو سؤال حقيقي، لا أعرف إجابة واحدة له. إن رجعنا إلى الدول الأمم الأوروبية، فهناك نموذجان إيديولوجيان لنشوئها: إذا نظرنا إلى نموذج الثورة الفرنسية، فالفرنسي هو كل من يرغب في أن يكون فرنسياً ويتقاسم مع مواطنيه القيم نفسها. بالنسبة إلى النموذج الألماني على طريقة فيخته، فما يصنع الأمة هو اللغة والثقافة، وكل ما تعلق حينها بالرومانسية الألمانية، إلخ. هما إذن مفهومان متضادان للأمة: الأمة بالمعنى السياسي والأمة بالمعنى العضوي. استطاعت الأمة السياسية أو البريطانية تجنب إقصاء الأقليات؟ وهكذا، إن أُسست الأمة على الانتماء السياسي فيمكنها تجنب الإقصاء؛ ولكن إن بنيت على أساس عضوي، كالتشارك باللغة والثقافة إلخ، فالإقصاء واقعٌ حتماً. ويبدو أن الدول المعاصرة بنُيّت على أساس عضوي.

لنأخذ الصهيونية: ما عدا بعض الهوامش اليسارية في مطلع القرن العشرين والتي زالت بسرعة، فقد بنيت بطريقة عضوية كلاسيكية تماماً على طريقة القرن التاسع عشر. فهي أمة الشعب اليهودي. بالعمق قومية الصهيونية تشبه في أسسها القوميات العربية، فكل منها يقصي «الآخر». قيام دولة إسرائيل لم يُحسّن وضع الأقلية اليهودية في العالم العربي بأي حال. بعد وعد بلفور لم يهاجر إلا القليل من اليهود إلى فلسطين، ربما بضعة عشرات الآلاف، لا أعرف الأعداد بدقة، ثم أتت المذبحة الهتلرية، وهي برأيي العامل الأساسي في تأسيس دولة إسرائيل أكثر من وعد بلفور، فقد كان شعور الأوربيين بالذنب هائلاً، ما جعلهم يسمحون بقيام تلك الدولة. إلا أن الدولة تبنى بسواعد طبقة وسطى وعاملة وحرفية. وهذه الطبقة لم تكن تعدّ كثيراً بين اليهود المهاجرين الجدد، فمعظمها مات في المعسكرات النازيّة. أين يمكن أن تتواجد هذه الطبقة من اليهود؟ في العالم العربي. فجاءت الصهيونية لتغازل هؤلاء اليهود في بلداننا. على فكرة، ما يتم تناسيه دائماً هو أن الحركة الصهيونية كانت ناشطة جداً بين اليهود العرب. وقد كانت هذه هي الهجرة الأولى في أوائل الخمسنيات، ولم تكن هذه الهجرة ناتجة مباشرةً عن قومية يهودية مُعطاة سلفاً. ثم تكرسّت دولة اسرائيل كدولة مستعمرة متوحشة، مع المآلات التي نعرفها وهذا بطبيعة الحال لم يساعد بقية اليهود في العالم العربي، ونشأت الصدامات بين النظم القومية والأقليات اليهودية والبقية نعرفها. عربية أولئك اليهود أُنكرت في اسرائيل، وعلينا ألا ننسى أن الصهيونية، هذا الشكل من القومية، نشأ في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، وهو يحمل بالتالي المصفوفة الثقافية الأوروبية نفسها.

فعلاً إنّ التاريخ لعبة ليغو، لا يمكن دراسة جزء منه دون الأجزاء الأخرى! لقد نشأت الصهيونية ضمن سياق التوسع الإمبريالي، ضمن «هابتوس» ثقافي يتّسم بالفوقية والهيمنة الأوروبية المطلقة على بقية العالم. امتلك اليهود الأوروبيون وعياً ذاتياً بكونهم يهود، لكن وعيهم بأوروبيتهم كان أقوى. تيودور هرتزل هو مثقف فيينيّ بالنهاية. بالنسبة لهم، اليهود العرب والعرب على العموم هم بالدرجة نفسها من البدائية. هم أناس ينبغي تحضيرهم، بما أن الأوربيين وحدهم هم المتحضرون. وهكذا كان هناك تمييز بين اليهود الأوربيين واليهود العرب العمّال، كما هو حال اليهود الفلاشا حالياً. لذا، فأنا أعتقد أن إحدى أهم حجارة الأساس في إسرائيل حالياً هي حالة الحرب والصراع المستمر، إنه الحجر الذي يوحّد ضمن هذه الإيديولوجيا، فالخطاب المتكرر ضمن الحكومات والسلطات المتعاقبة في إسرائيل هو التالي ولا شيء غيره: «نحن في خطر». عندما نتمعّنُ في الخطاب الإسرائيلي، نجد أنه خطاب ثقافي ينحو إلى محوّ التمايزات الثقافية بين ما أسميه «العوالم اليهودية». هل يمكن ليهودية مثلي أن تشعر بالقرب من يهودية بولونية أكثر مما تشعر تجاه تونسية مسلمة؟ ما نشأتُ عليه ثقافياً هو حتماً مغاربي، ليس روسياً أو بولونياً إلخ. لقد حاولت إسرائيل خلق هوية يهودية قومية لم تُوجَد أبداً من قبل. ضمن هذا المشروع، الحرب المستمرة هي الأداة السحرية لخلق هذه الهوية. الصهيونية هي دليل آخر عن الجانب شديد السلبية في الفكر القومي. لذلك كنت دوماً مغايرة للقوميات، أممية أو كونيّة.

لقد كان منطلق حديثنا ومحرضه هو النِسوية. النِسوية بين الثقافوية والكونية، أودُّ الرجوع إلى هذه النقطة. ذكرتِ في مناسبات عديدة كيف تُحارَبُ النِسوية الكونية باسم نِسوية ثقافوية أكثر محلية. كيف تُخصَّص فصول دراسية كاملة في جامعات غربية للحديث عن الحجاب، كيف أن جمهور ومستمعي محاضرات هذا النوع من النِسوية يملأ المدرجات والمنابر، في حين أن جمهور النِسوية الكونية يكاد لا يُذكر. حدثينا على هذا.

الأمر معقّد. ولكني سأحاول تلخيصه. سأحاول ألا أتحدث بالعموميات عن الثقافوية وأن أجيب عن السؤال. ما هو الكونيّ؟ هي مبادئ يتقاسمها البشر، تخصّ الإنسانية جمعاء. حدث، ولأسباب تاريخية لا يسعنا أن نعرضها هنا، أن الصوغ السياسي والحديث لهذه المبادئ تم في أوروبا بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. هي المبادئ التي تقول إن الإنسان حرّ، وإن حريته لا تنفصل عن إنسانيته. في الوقت نفسه الذي صِيغَ فيه الكوني، أُقصي جزء من البشر منه، العبيد والنساء والشعوب المستعمرة. وهنا كانت المفارقة. هناك نِسوية تقول إن الكوني أصبح حكراً على الرجل الأبيض. الذكور البيض كائنات كونية ولكنها الوحيدة. هذا الحق لا يغطي النساء والعبيد والمستعمَرين. نصّ إعلان الاستقلال الأميركي نصٌّ بديع، ولكن جورج واشنطن نفسه كان مالكاً كبيراً للعبيد. هكذا سيّر الغرب: نصوغ الكوني ومن ثم نغلقه. شيئاً فشيئاً، امتلك الأفراد والمثقفون  والعالم كله هذا الكوني. وقد قام جزء من النضالات المناهِضة للاستعمار باسم الكونية وفق المنطق الصوري البسيط: إن كان الكوني موجوداً فلنا الحق به، وبأن لا نكون مُستعمَرين. ثم جاء إعلان حقوق الإنسان عام 1948 إلخ. هكذا وجد الغربيون أنفسهم مجرّدين من احتكار الكوني، وهذا ما يسميه بعض المؤرخين الهنود بـ «نزع الغربنة عن الكوني».

هنا كلُّ المفارقة، فكلُّ الخطاب الذي نظم تاريخ علاقة الغربيين بالآخرين من غير الغربيين قائم على دعامتين متناقضتين: الإيعاز بالتماهي والتقليد «إن كنت تريد أن تكون كونياً وبشرياً عليك أن تكون مثلي»، وفي الوقت نفسه هناك دعامة التكريس الهوياتي «ستبقى دوماً آخراً، مهما فعلت فأنت آخر». الآخر الغامض والدوني والمُختزَلَ بغيّريته. الغربيون، بغضّ النظر عن الإسلام والمسلمين، بحاجة لأن يبقوا المصدّرين الوحيدين للحقيقة. هذا التراوح بين الموقفين وفقدانهم لاحتكار الكوني، وهم كذلك ومنذ فترة في طور فقدانهم  للمركزية الأرضية، يجعل من النساء المحجبات كنزاً بالنسبة لهم. النساء اللواتي ينزعن الحجاب يشبهنهم كثيراً ولسنَ «آخراً» أصيلاً بالقدر الكافي، أتحدّثُ عن ذلك في كتابي المأزق المزدوج. منذ حوال 25 سنة، ومع بروز الجوهرانية، نجد جزءاً مهماً من اليسار الغربي يُدافِعُ عن الإسلام السياسي وينتقد بشراسة وعنف غير مسبوقين العلمانيين الزمنيين واللائكيين في العالم المسلم. هم لا يريدون التعامل مع أناس يشبهونهم جداً. أي أناس يعترضون على احتكارهم للكوني والقيم الكونية. كل سجالاتي مع اليسار الغربي في السنوات الأخيرة تدور حول أنهم ما زالوا يحتجزون أهل الجنوب ضمن دلالات هويّاتية، والتي يمكن أن أُلخّصها كالتالي فيما يخصّ المسلمين: أنتم مسلمون فالإسلام السياسي بداهةً هو مصيركم الطبيعي، لماذا تعترضون عليه؟ هذا جزءٌ من ثقافتكم. لهذا السبب أعتقد أن المثقفين العلمانيين الكونيين في العالم العربي الإسلامي هم في عُزلة، لأنهم أقلية في مجتمعاتهم وحلفاؤهم قليلون على المستوى الدولي، وهذا ما تجلّى في المأساة السورية، فللديكتاتور حلفاؤه بطبيعة الحال، وللإسلاميين حلفاؤهم. الوحيدون هم ذاك الجزء من المعارضة من غير الإسلاميين، من الديمقراطيين والكونيين. وهكذا فثقافوية أجزاء كبيرة من المثقفين الغربيين هي طريقة لحفظ احتكار القيم الكونية وإعادة الآخرين لانتماءاتهم المُفترضة.

عاملٌ آخر يأتي ليتراكب فوق كل ذلك، هو أننا ومنذ ثلاثين عاماً تقريباً نشهد اختزال الثقافة إلى الدين. حين نقول ثقافة فهذا يعني الدين. هذا قلب مدهش لنسق تعلمناه في الجامعات سابقاً وهو أن الثقافة تُنتج أدياناً. الآن نرى أن الأديان هي التي تُنتج ثقافات. بهذا، تُحرَمُ ثقافة بلد أو منطقة كلياً من تعدديتها ومن تعقيدها، وتُختزل ليس فقط في الدين الغالب، ولكن في النسخة الأكثر محافظة في هذا الدين. وهذه النسخة هي الأبعد عن الكونية.

ألا يمكن أن يكون وراء موقف المثقفين الغربيين هؤلاء ما هو أبعد من الرغبة باحتكار الكوني، ألا يمكن أن يكون هناك وعيٌ كامنٌ بأنه يجب الانطلاق من ثقافة العامة لبناء قيم كونية جديدة؟ أنت تعرفين وعملتِ في تأريخك عن تونس حول ذلك، بأن هناك فجوة هائلة بين ثقافة العامة والخاصة، بين النخبة والعامة؟

صحيح. هذا عنصر لم آخذه بالحسبان في إجابتي السابقة، حالياً أنا أعمل على تاريخ تونس وهذه الفجوة موجودة. حين نأخذ تاريخ النهضة والإصلاح في العالم العربي، في تونس ومصر منذ 1830، فإن هذه الحركة لم تمس إلا النخب. بل أكثر من ذلك: العامة انتفضوا في أحيان كثيرة على أفكار النهضة. وكل الرهان اليوم هو كيف يمكن لحركة كونية جديدة أن تنشأ غير حبيسة لمبدأ التقليد والتماهي مع الحركة الكونية الأوروبية. ولكني سأستحضر عنصراً في تاريخنا المعاصر لا يؤيد هذه الحجة التي تقول بأن العامة غير قابلين للانفتاح على الحداثة والكونية: في تاريخ تونس المعاصر، مرّت فترة بعد الاستقلال، لا أقول أنها لائييكية، فتونس بعد الاستقلال لم تكن يوماً لائييكية بشكل كامل، ولكنها مرحلة علمنة حقيقية. كنتُ طفلة ولكني أذكر تماماً كيف بدأت النساء نزع الغطاء وكنَّ يفعلن هذا بفرح. أحاول الآن أن أفهم لماذا؟ كنّ ينزعن «السفساري» وهو الغطاء الأبيض التقليدي في تونس؟ لماذا؟ لأن الحجاب لم يكن حقاً فرضاً دينياً، كان تقليداً وحين تودّ المرأة أن تكون عصرية كانت تخلع الغطاء. مهارة الإسلاميين الأقوى برأي، هو تمرير غطاء الرأس من حيز التقليد إلى حيز الفريضة الدينية، بمعنى آخر ابتداع غطاء رأس حديث وهو الحجاب الذي نعرفه اليوم. هذا الحجاب ليس غطاء الرأس التقليدي الذي نعرفه، لقد قابلت كثيراً من الشابات التونسيات المحجبات، ولا يمكن أن يقبلنَ بارتداء سفساري جداتهن. هذا لباسٌ متقادم بالنسبة لهنّ، وهذا نصرٌ للإسلاميين. كان غطاء الرأس تقليداً ثم أصبح فريضة دينية.

أعود للحديث عن هذه الفترة القصيرة بعد الاستقلال، أنا أتذكر جامعة تونس جيداً في الستينييات، لقد أتممتُ دراستي في باريس ولكن كان لدي كثيرٌ من الأصدقاء في جامعة تونس، كانت كافتيريا الجامعة تفتح خلال شهر رمضان وتقدم البيرة، لم يخطر في بال أحد إقفال هذه الكافتيريا. في تلك الفترة كان التوانسة في الجامعة من كل أنحاء تونس على الإطلاق، لم تكن حكراً على النخب. ومن كان يرتاد تلك المقاهي والكافتريات هم كل طلاب الجامعة وليس فقط النخب. هذه الفترة من العلمنة لم تكن حكراً على النخب، وهذا سيبقى لغزاً بالنسبة لي. كانت أمي تدرّس في المدرسة الصادقيّة في تونس، وهي ثانوية كبيرة ومهمة في تونس العاصمة، كانت مُدرّسة في ملحق الثانوية المخصص للذكور الآتين من المحافظات الأخرى البعيدة عن العاصمة. لم يكن رواد المدرسة في تلك الثانوية من برجوازية تونس العاصمة. في شهر رمضان، لم يكن عدد الصائمين يتجاوز الثلاثة، تدافع عنهم أمي في وجه اضطهاد الآخرين من غير الصائمين. أما اليوم فقد انقلبت الآية. ما الذي حصل بالضبط؟ نعرف أن عموم الشعب هو مسلم بعمق ونعرف بأن هناك فجوة تاريخية بين النخب والشعب، ولكن هذه الفترة التي أتحدث عنها مسّت الكل، الكل كان يصبو إلى الحداثة. طبعاً هناك كثيرٌ من العوامل المفسِّرة التي نعرفها، عوامل جيواستراتيجية؛ بزوغ الإسلام السياسي؛ قوة المال ونهاية الإيديولوجيات العلمانية الكبرى، والتي تركت المكان للإيديولوجيات الدينية. ولكنها غير كافية للتفسير.

الآن، هل ينبغي بناء قيم كونية بالنّهل من المرجعيات المحلية الداخلية لشعوبنا؟ أعتقد أنه ينبغي تملك الإرث العالمي كله والأخذ من كل المرجعيات لبناء قيم جديدة.

أودُّ أن أعرف أكثر عن رأيك بالحركات النِسوية الإسلامية، وعن رأيك بالنساء المشتغلات بالفقه والتفسير والاجتهاد.

الأمر معقد. هناك حالتان من المثقفين: الأولى والتي يتشارك فيها نسويون أيضاً تقول بأنه يجب تجاوز الدين وشؤونه، أنه علينا التفكير خارج حدود الدين لأنه بكل الأحوال يقودنا إلى طرق مسدودة؛ والحالة الأخرى التي تقول بأن الحل الوحيد للخلاص هو إعادة قراءة النص الديني والمدونة الدينية عل العموم والعمل على «الاجتهاد»، وهناك تيار من الاجتهاديين الذين يقومون بعمل رائع بالمناسبة.

لنأخذ تونس حالياً، حيث تتم أهم أعمال الاجتهاد، تقوم به نساء اجتهاديات مثل نائلة السليني وآمال قرامي وكثيرات غيرهما ممن يضعن القراءة الذكورية والكارهة للنساء للقرآن موضع التساؤل، ويقمن بقراءات نِسوية للنص القرآني، حيادية جنسانياً. وأعرف بينهم كثيرين يدركون بأنه أياً كان الدين التوحيدي فإننا لن نصل إلى مساواة مطلقة ضمن المدونة الدينية، ولكننا سنتقدم في بعض المناحي. يمكن أن يكون هناك كثيرٌ من النقاط المشتركة بين الاجتهاديين والعلمانيين، ويمكن أن يعملوا سوياً، ولكن في نهاية المطاف هناك مكان مسدود، فالأديان ليست للمساواة بين الجنسين.

لقد تحدثت مطولاً مؤخراً مع عالم الإسلاميات يوسف صديق حول آية «اضربوهنّ»، يمكننا أن نضع الأمور في سياقها، ويمكننا أن نجتهد ونجد قراءات مخففة، إلا أن الآية في النهاية تقول بالضرب، ولكن الأهم من ذلك أنها تتوجه إلى الرجال، المُخاطب هو رجل. لنفترض أن هناك آية تنص على «احترموهنّ» هي موجّهة للرجال، النص لا يتوجه إلى الإنسان على العموم، إلى الجنسين على السواء، إلا في الجزء الديني الصرف بالمعنى الروحاني. في التوراة والأناجيل نجد اللامساواة نفسها، هذه اللامساواة تأسيسية في الأديان التوحيدية، لأن الأديان قائمة على شرعنة نظام، نظام بطريركي تحديداً.

وحتى إن خرجنا من الأديان التوحيدية، على العموم الأديان هي شرعنة نظام بطريركي، طبعاً هناك أديان أكثر شدة في هذا من غيرها. إن دخلنا في مقارنة بحتة بين النصوص، نجد أن الأناجيل بمعزل عن أعمال الرسل لبولس، الكاره للنساء، هي أقل النصوص ذكورية. طبعاً فيما بعد جاء المنظرون ورجال الدين والقوانين الكنسية لتقوّي جميعها النظام البطريركي. ولكن النص كنص أقل ذكورية من باقي النصوص، ثم إن شخصية المجدلية مثيرة للاهتمام ضمن هذه المدونة الإنجيلية. ولكن في النهاية تبقى الصورة المهيمنة للمرأة هي صورة الأم.

ولكن الفعل بحد ذاته، فعل التأويل والتفسير والاجتهاد فعل أدائي اجتماعي مهم، هو خرق للدور الذكوري في الاجتهاد.

دون أدنى شك. أن تكون النساء هنَّ من يقمنَ بذلك عنصر شديد الأهمية وهذا ما قلته سابقاً، فتح باب الاجتهاد من جديد مهم جداً، وأن تكون النساء هنَّ المبادرات هو أمرٌ غاية في الأهمية. ولكني أودّ أن أستعيد ما ناقشناه عن النخبة والعامة لأربطه بموضوع الاجتهاد وتأويل النص الديني. إذا تناولنا التاريخ الأوروبي للكنيسة الكاثوليكية، لا أتحدث حتى عن البروتستانتية، كان الإصلاح مرتبطاً بتطور المجتمعات، بمعنى أن المجتمع الأوروبي هو الذي دفع الكنيسة باتجاه التطوير وأرغمها على قبول الأشياء والتنازل، لأن الكنيسة فهمت أنه إما الانصياع أو فراغ الكنائس من الرعية التي تبتعد عنها لأن كثيراً من الوصايا والتعاليم لم تعد متوافقة مع أنماط حياة الرعية وما تفكر به. وهكذا تراجعت الكنيسة عن موضوع منع الحمل، وتناقش في موضوع المثلية رغم الصعوبات الشديدة. في المجتمع العربي المسلم، هذا المشروع في الاجتهاد والتأويل لا يتوافق مع طلب اجتماعي، وهذا فرق كبير. ماذا سيكون أثر هذا الاجتهاد إن لم يكن قد نشأ بناء على طلب اجتماعي؟ هذا سؤال مهم، وهذا يعني أننا دوماً ضمن نطاق عمل نخبوي. لا يطلب العمق المجتمعي القراءات الاجتهادية أو يحثّ عليها. بدلاً من ذلك، ما زال هناك من يستمع إلى الدعاة الأكثر سريالية ورجعية، وحينها يتوجب على الشباب إيجاد فضاءات للهروب من القسوة. لقد فقد الدين بعده الروحي واختُزِلَ الإسلام بـ «يجوز» و«لا يجوز». هذا الانغلاق ضمن النصية والحرفية منذ أكثر من ثلاثين عاماً يُفقد الإسلام بعده الروحاني، وهو البعد الأساسي في كل دين.

وهل تعتقدين بأن التمسّك بالإسلام هو ردٌّ على جرح نرجسي كذلك؟

من المؤكد أن هناك شيئاً من ذلك. ربما ينبغي العودة لرودنسون في هذا السياق، في كتابه الماركسية والعالم المسلم على ما أعتقد. حتى القرن الثاني عشر، كان العرب، حسب ما يكتب رودنسون، قوة كبيرة في حوض المتوسط، ومأساة العرب هي هذه الرغبة غير المحققة باستعادة القوة، ذلك الحنين إلى السيطرة والقوة، وإذا قرأنا هذا على المستوى السياسي، نجد نتائح سوريالية مثلما حين يقول بن لادن في إحدى خطبه «إحدى أولوياتنا هي إعادة فتح الأندلس» وهذا نفيٌ للتاريخ. هناك باحث تونس، علي مزغاني، يقول إن العرب المسلمين في الماضي وليسوا أبداً في التاريخ. وهذا صحيح.

لماذا؟ ما هو الخاصّ عند العرب؟ هل هو العظمة الماضية بحد ذاتها التي تُسبب هذا النفي للتاريخ؟ أم الدين؟

لا أعرف. ولكن الأفارقة على سبيل المثال، أفارقة جنوب الصحراء، لم يكونوا أبداً قوة عظمى عالمية خارج القارة، لم يلعبوا يوماً دوراً على المستوى الجيواستراتيجي. قد يكون هذا ما يفسّر عدم وجود نوستالجيا لمجد غابر، مقاربتهم وفهمهم للعالم متحرر من هذا الماضي الامبراطوري. إذا تناولنا التيارات النظرية الإفريقية، نظريات الزنوجة لسنغور ومقابلها في الجزر الأنتيل، أي نظرية سيزير عن الزنوجة، فهي تيارات كونية. ما هو عمق خطاب هذه التيارات، تيارات الزنوجة؟ الخطاب هو التالي: «لقد أُقصينا من الكونيّ، تم اعتبارنا كائنات دونية، كان الرجل الأبيض يتحاور مع نفسه طوال الوقت. فليكن. لنتقبل أنفسنا كما نحن. كزنوج». لم يكونوا يخافون القول بأنهم زنوج، استعادة العار وصنع مفخرة منه هو العودة إلى الكوني مرة أخرى. المسارات الإيديولوجية بين العالم العربي والعالم الأفريقي جنوب الصحراء مختلفة جداً، وأعتقد أن مسألة الحنين إلى ماضٍ مجيد هي مسألة مركزية في تاريخ العالم العربي وفي الهابتوس الثقافي للعرب. والسؤال الكبير، لماذا انحدر العرب؟ لا أحد قادر على تفسيره بشكل كامل.

يقول بروديل في أحد مؤلفاته إن هذا من أحجيات التاريخ. حين خرج العرب من الأندلس، أي في نهاية القرن الخامس عشر، كان العرب والعالم المسيحي في المستوى التقني والثقافي نفسه، بعد ثلاثة قرون لاحقاً، أصبح هناك فجوة تُقاس بالقرون بينهم. كيف حصل ذلك؟ السؤال معقد وهناك تفسيرات كثيرة تختلف فيما بينها، منها من يقول إن الابتعاد عن جوهر الإسلام جعل العالم العربي غير قادر على إدخال أساسات أخرى وبالتالي دخول الحداثة. هل يمكننا أن ندع هذا السؤال جانباً ونلتفت لشيء آخر مُتحرّر من الحنين؟

ولكن أليس من المفارقة أن الأشكال الجديدة من الإسلام تعكس رغبة بكونية ما؟ أليس هذا ما يعكسه مصطلح «أمة» الذي يستخدمه الإسلاميون؟ فليس هناك محلية مركزية ولكن رغبة بشيء ما يغطي الكوكب كله وكأنه كونية؟

في الأديان التوحيدية لدينا اثنان بطموحات وادعاءات كونية، اليهودية أرست بعض الأسس لمبادئ كونية على صعيد المدونة الأخلاقية والدينية، الوصايا العشر وما إلى ذلك، ولكنه بقي ديناً محلياً إلى حد ما، إلا أن المسيحية والإسلام كان لهما طموحات كونية، لذلك هما في حالة تنافس دائم في التاريخ. لم يكن هذا حال الأديان الأخرى غير التوحيدية. لنأخذ الهندوسية، وهو دين كبير يخص 1,1 مليار شخص، إلا أنه ليس بصدد هكذا طموحات على الرغم من قابليته لهذا. على العكس من المسيحية والإسلام اللذين تنازعا وتنافسا عبر التاريخ. اليوم نجد من جديد تجلي هذا الطموح في الإسلام السياسي، ولكن عبر ماذا؟ عبر نفض الغبار عن «دار الحرب» والجهاد. حين أتحدث مع شباب مغاربة أُدهَشُ من قناعتهم غير القابلة للزعزعة بأن العالم سيصبح مسلماً يوماً ما. سأروي لك حادثة طريفة حدثت منذ ثلاث أو أربع سنوات، كان هناك توأمة بين مدرسة تونسية ومدرسة فرنسية، وكان من برامج التوأمة رحلات للبلدين، الأطفال التونسيون يسافرون إلى فرنسا والأطفال الفرنسيون يسافرون إلى تونس. بعد انتهاء البرنامج وفي استمارة تقييم التجربة كان الأطفال سعداء جداً بالتجربة، إلا أن كل الأطفال الفرنسيين ذكروا ملاحظة وهي استغرابهم من إصرار الأطفال التونسيين على محاولة هدايتهم إلى الإسلام. هذه الميكانيكيات عرفتها المسيحية، ولكن المسيحية عُولِمَت عبر التاريخ. ما زال هذا موجوداً عند الإنجيليين، ولكن المسيحية على العموم عُولِمَت بشكل كاف. طبعاً الأنظمة الديكتاتورية لها دور كبير في ترك الساحة للإسلاميين، بشرط أن تترك السلطة لهم، والقوى الغربية الكبرى تركت تلك الأنظمة الديكتاتورية مُردِّدةً الخطاب المكرور إياه «هي ليست أنظمة ديمقراطية ولكنها أنظمة علمانية». الدكتاتوريون النصّابون استخدموا قوى الإسلام السياسي لمصلحتهم وعلى طريقتهم، وها هي النتيجة التي تعيشها الأجيال الحالية.

مع ذلك، ما زلتُ متمسكة بتفاؤل الإرادة. إذا أخذنا لحظة اندلاع الثورة التونسية، والتي كانت لحظة انتشاء وحماس كبيرة، لم تكن تلك اللحظة دينية بطبيعتها، لم يكن الدين موجوداً، ولكن لم يكن هناك أي شيء ضد الدين. كانت فعلاً لادينية. شباب يصرخون «حرية، عدالة، كرامة وطنية»، ما هو الديني في ذلك؟ لم يكن التطلع العميق تطلعاً دينياً، فيما بعد أتى الدين من النافذة بفعل القوى التي نعرفها جميعاً.

كان الفضاء في اللحظات الأولى تلك، فضاءً كونياً. ما زلتُ أتذكر شباط 2011، بعد شهر من اندلاع الثورة، كان هناك ما سمي حركة «قصبة» في تونس العاصمة، وهي تعني التجمع والاعتصام في ساحة القصبة حيث كل الرموز الحكومية وذلك للمطالبة برحيل الحكومة التي نُصّبت بعد الثورة. جاء المعتصمون من كل البلاد واحتلوا الساحة لمدة 18 يوماً، والكلّ كان يجلب الطعام والأغطية للشباب المعتصمين. كانت الساحة ممتلئة بغرافيتي من كل اللغات وبشعارات من كل المرجعيات الثورية العالمية، من ثورة 68 ومن كل العالم، من كل مرجعية تمس حساسيتهم الثورية في تلك اللحظة، كان هذا رائعاً، وحين انفضّوا نظّفوا الساحة، وهي لفتات مدنية لم تعد موجودة في تونس اليوم. لهذا أقول لنفسي، البذرة موجودة، ويكفي وجود الظرف المناسب لكي تظهر. ربما بفعل إنجاز أو مكتسب ما، يزيح الخيبات المتوالية والغضب المتراكم. هذه الديكتاتوريات المدعومة من الغرب، مدعومة لأنها لم تكن لتبقى لولا ذلك، والمسألة الاسرائيلية، التي كانت موضع خيبات وغضب كبير وتراكبت فوق خيبات تاريخية أخرى، كلها عوامل كرسّت اليأس.

من المحزن أن نرى في بلدان المغرب العربي أن ثلثي الشباب ينوون الرحيل عن بلدانهم. أيُّ خيبة وفشل هذا بعد الاستقلال الذي لم يفِ بوعده. في زمن بورقيبة، الديكتاتوري- اليوم هناك نوع من التقديس لشخصه لأننا شهدنا من بعده ديكتاتورية مبتذلة بوليسية-أقول، في زمن بورقيبة كان هناك نوع من الارتقاء الاجتماعي ومن الجديروقراطية الجمهورية الحقيقية. كان هناك مدارس منتشرة في كامل الريف التونسي لتعليم البنات والصبيان. ولكن مع بدايات الثمانينات بدأ الوضع الاقتصادي بالانحدار الشديد. ترابط التاريخ المحلي بالتاريخ العالمي، هذه العولمة كرست اللامساواة على مستوى العالم بشكل يشابه ما عرف في القرن التاسع عشر، في زمن ديكنز وزولا. أصبحنا نسمع عن ثروات هائلة في بلدان شديدة الفقر. لا يكفينا إذن أن نتحدث عن شروخ بين النخب والعامة، علينا أن نتحدث أيضاً على فروق طبقية، عن كيف يمكن لفتى في السادسة عشرة من عمره يرى حياً من أحياء الأثرياء في مدينته ولا يتمنى أن يُكسّر كل شيء. حين لا يتمكن من تكسير كل شيء يذهب إلى الجهاد. فالجهاد والبروباغندا السلفية الجهادية تقدم إيديولوجيا عند الطلب، يمكننا أن نفسر ذلك باستخدام مفردات السوق. وهناك طبعاً عرض لطوباوية معينة في بعض الأحيان، هو عرض لطلب من شباب لم نقدم لهم أي قراءة صالحة للعالم، وها هو عرضٌ ما يقدم لهم قراءة للعالم بلغة يعرفونها هي لغة الدين.

سؤال الآن يتعلق بأولوية النضالات في بلداننا، بارتباط نضالات الكويرية والجنسانية مع النضالات السياسية والاجتماعية الأخرى. هل تعتقدين بوجود أولويات أم ينبغي على العكس فتح كل الملفات؟

سأعطيك مثالاً حياً من تونس. تونس بعد الثورة ما زالت في خطر برأيي، ولكننا ربحنا قضية هامة في هذه الثورة، هي حرية التعبير. في نطاق الجنسانيات و الكويرية، فإن المثلية في تونس تُجرَّم بسنة أو ثلاث سنوات سجن، اليوم نحن في صدد نقاش قانون ينزع التجريم عن المثلية. المثليون مضطهدون في تونس مثل كل الأقليات الإثنية أو الدينية، إلا أن هناك من الفتح (الآوتنغ) ما قد حصل، وهو شيء ضروري جداً للدراسة. من قبل لم تكن الأقليات مرئية في الحيّز العام، اليوم لدينا جمعيتان للأمازيغ. هناك جمعيات لحقوق الإنسان تعترض في كل مرة يُنتهك فيها حق أو يرتكب فعل معاد للسامية. هناك جمعيات LGBT مثل شمس وشوف. لقد دخلت مسألة الأقليات الجنسية في السجال العام. طبعاً ما زالوا مضطهدين، ليس فقط من الدولة بل من المجتمع بشكل أساسي، ولكن هناك تقدّم ملحوظ. مؤخراً عوقبت تونس من قبل جمعية حقوقية أممية بسبب الفحوصات الشرجية التي يتعرض لها المثليون، حيث أن الفحص الشرجي يعتبر نوعاً من أنواع التعذيب. بعد ذلك أصدرت الحكومة التونسية قراراً بمنع تطبيق الفحوصات الشرجية. اليوم هناك حركة حقوقية فيما يتعلق بالأقليات الجنسية مهمة جداً برأي، لذا لا ينبغي حتى أن يطرح سؤال: «الآن أم فيما بعد». هذا ما كان يقال للمرأة في كل مرة: بعد الثورة، بعد الاستقلال، بعد الاشتراكية. اللحظة المناسبة لن تأتي أبداً. الوقت دائماً مناسبٌ للكلام عن التمييز والاضطهاد. طبعاً هذا سيصدم الناس، تدافعون عن المثليين في هذا الوقت؟ اليوم كل الجمعيات الحقوقية في تونس أدخلت مسألة LGBT في جدول أعمالها: رابطة حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات. وفي الذكرى السنوية ليوم مناهضة العنف ضد الأقليات الجنسية هناك برامج محاضرات وما إلى ذلك. المهم أننا بدأنا نتكلم عن كل ذلك، ولم يعد ممكناً لأي أحد أن يقول أن هذا غير موجود في مجتمعاتنا. في هذا السياق، من المهم التأريخ للمثلية في العالم العربي، لا يمكن لأحد أن يقول هذا غير موجود في مجتمعاتنا. في السلالتين العثمانيتين، المرادية والحسينية، كل البايات كان لديهم محظيوهم، كان لديهم حرمهم ونساؤهم وأيضاً محظيون يعلنون لهم حبهم علناً. وطبعاً هناك الممارسة المثلية التعويضية في غياب النساء.

ما رأيك بالرأي القائل، أعتقد أن بورديو قال هذا يوماً، بأن المثلية قد تخفّف من الذكورية ومن حدّة البطريركية، ظهور المثلية في الحيّز العام قد يخفف من وطأة الذكورية على النساء؟

ربما. لا أعرف. لم أفكر بالأمر، هل يمكن لامحّاء الحدود الجنسية أن تخفف من وطأة البطريركية؟ لا أحب أن أجيب دون تفكير، ولكن علينا ألّا ننسى بأن المثلية الذكورية التقليدية على الطريقة الإغريقية كانت لتؤكد الفوقية الذكورية، فالنساء لاستمرار النوع، أما الحب الحقيقي فلا يمنح إلا للرجل، لندّ، وكان هذا الحب المثليّ أرفع درجة من الحب العادي المغاير. ولكن المثير للاهتمام في كل هذا هو المثلية الأنثوية التي لا تأخذ على محمل الجد كشكل من أشكال الجنسانية في مجتمعاتنا. هي نوع من الألعاب العاطفية. لو اعتُرِفَ بالمثلية الأنثوية هل سيتغير شيء؟ لا أعرف.

*****

  1. Agrégation en Histoire
  2. Jeune Afrique

هذا النص هو الأول ضمن ملف «الجندر، الجنسانية، السلطة»، وتنشر مواد الملف صباح كل يوم خميس على مدى الشهور الثلاثة المقبلة.

موقع الجمهورية

 

 

الجندر، الجنسانية، السلطة/ كرم نشار

في العشرين من شهر تشرين الأول الماضي، قُتلت صبية سورية تدعى رشا بسيس على يد أخيها، بسبب ما قيل إنها علاقة ربطتها بضابط تركي في منطقة جرابلس الحدودية. الأخ، بشار، أفرغ ثلاثة مخازن من الرصاص في جسد رشا بعد أن تسلّى بإهانتها وتعذيبها قليلاً، ووثق فعلته على شريط فيديو بمساعدة صديق محرّض، ونشر الشريط على شبكة الإنترنت بثقة واعتزاز.

قبل ذلك بحوالي عشرة أيام، اختُطِفَ صبيٌ عراقيٌ في الخامسة عشر من العمر يدعى حمودي المطيري وهو في طريق عودته إلى منزله في شارع اليرموك في بغداد. عثرت قوى الأمن بعد ذلك على جثته وعليها آثار طعن متكرر، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يُظهر حمودي وهو في لحظاته الأخيرة: يصوره قاتله ويسخر منه، يسأله بتهكم «من هو صاحبك؟»، ومن ثم يخبره أن ما يراه أمامه هو أحشاؤه. حمودي، الذي كان شاباً «ناعماً» بشكلِ أثار الشكوك حول ميوله الجنسية، طلب في اللحظات الأخيرة أن يرى أمه، لكن القاتل استمرّ في تصويره إلى أن أصبح جثة هامدة.

أثارت كل جريمة على حدة عاصفة صغيرة من الاستهجان مرّت سريعاً، بشاعةُ المحتوى تشّجعُ وعينا على نسيانه بلا شك. لكن ماذا لو كابرنا وحدّقنا مرة أخرى؟ وماذا لو جربنا أن ننظر إلى الجريمتين في الوقت نفسه، وحاولنا أن نفهم كل جريمة بدلالة الأخرى؟ ماذا، بكلماتٍ أخرى، لو سجّينا جسدي رشا وحمودي بجانب بعضهما وقارنّا بين الجروح؟ التقاطعات الكثيرة ستوحي وكأننا أمام نسختين مختلفتين لنص أصيل واحد: المشهدية المُروعة، يفاعة الضحايا وضعفهم الواضح، تباهي القتلة واقتناعهم بصواب أو «عدل» ما يفعلون، وطبعاً وقبل كل شيء الدوافع التي لا يمكن فهمها في كلا الحالتين دون العودة إلى تلك الكلمة التي لا زالت بعد نصف قرن من بروزها تُقضّ مضاجع كثيرين: كلا الجريمتين تحيلاننا إلى «الجندر».

أن ننظر إلى جريمتيّ رشا وحمودي سوياً يعني أن نتجاوز سياقاتهما الجغرافية والثيمية الضيقة وننظر إلى واقع إنتاج وممارسة الذكورة والأنوثة العام في المنطقة، ليس بصفته موضوعاً متعلقاً بفئة محددة من الناس، بل من حيث أنه مجال أساسي لإنتاج السلطة وأُسس العيش في المجتمع ككل، وأن نفعل ذلك بالإلحاح الذي يتناسب مع الفظاعة التي لطالما كان هذا المجال مؤهلاً لإنتاجها. قُتلت رشا لأنها اعُتبرت فاشلة في «أداء» أنوثتها حسب التوقعات والضوابط التي تربط الأنوثة بالعفة، كما قُتل حمودي لأنه اعتُبر فاشلاً في «أداء» ذكورته حسب التوقعات والضوابط التي تربط الذكورة بالخشونة أو «الرجولة» أو الميل الغيري، وارتكب القاتلون جرائمهم كإثبات لذكورتهم أو انتصاراً لها ولـ «مسوؤلياتها» حسب التوقعات والضوابط ذاتها. الجميع «خضعوا» للمعادلة الجندرية السائدة في مجتمعاتهم، والجميع كانوا «ضحاياها» بشكل أو بآخر.

ولكن إذا كانت الأنثى والذكر المُشكَّكُ في ذكورته انتهوا موتى حسب عملية الإخضاع هذه، في حين تحول الذكور الـ «المذكّرون» إلى قَتَلة، فهذا طبعاً ليس بالصدفة. نعلم جيداً من الإرث المتراكم للفكر النسوي أننا حين ننطلق من كون الذكورة والأنوثة مفاهيم اجتماعية ينتجها البشر، وليست خصائص بيولوجية فقط، فهذا يعني بالضرورة أن «القوة» تخترق عملية الإنتاج هذه بشكل بنيوي وتطبعها باللامساواة. ونعلم، وبالنظر فقط إلى رشا وحمودي، أن الجذر الناظم أو المؤسس للامساواة هذه هي الجنسانية، بمعنى أن هذه اللامساواة هي في جذرها سعيٌ لإعادة إنتاج ثنائية فاعل/مفعول به الجنسية على شكل أنظمة وشرائع وأفكار تعطي «الذكر المُذكّر» أحقية وأهلية «الفعل» وتُنكرها بأشكال ودرجات متفاوتة على من سواه. نعلم أيضاً أن هذه المعادلة الجندرية السائدة تُنتج، كأي ترتيب اجتماعي قائم على عدم التكافؤ، عقلانية داخلية خاصة تحاول من خلالها إخفاء لا-عدالتها من خلال الإحالة إلى الله أو الطبيعة أو المصلحة العامة، فتتسرب إلى فهم الذات لنفسها لدى الخاسرين منها كما لدى الرابحين، وتصوغ قيم الخير والحق والفضيلة للمجتمع كلل. وبقدر ما تبدو هذه الهيمنة فعالةً في إنتاج انضباط هائل ومستمر بالمقارنة مع نظم وأفكار آخرى، بقدر ما تحتفظ بطاقة توليد عنف قصاصيّ مريع للعصاة يبدو، كما في حالة رشا وحمودي، فريداً هو الآخر في قدرته على تحويل أقرب الناس إلى أكثرهم وحشية، واستجلاب كراهية وعنف غرباءَ عشوائيين في الوقت عينه.

هذه النقاط الأساسية، والتي نَدين بها كما ذكرت للفكر النسوي في موجتيه الثانية والثالثة على اختلافهما، ونستطيع تبينها بوضوح وكثافة في مشهدي رشا بسيس وحمودي المطيري، هي الأرضية التي تقف عليها مقالات ملف «الجندر والجنسانية والسلطة»، والتي تبدأ الجمهورية نشرها اعتباراً من الغد وعلى مدى الأشهر الثلاثة القادمة. تنطلق المقالات جميعها من قناعة أن النظر في مسألة الإنتاج الاجتماعي للذكورة والأنوثة، أي في الجندر، ليس بفذلكة أكاديمية ولا «صرعة» مابعد-حداثية، بل هو في الأساس ضرورة لفهم ومقاومة ديناميكيات اجتماعية وسياسية وثقافية وقانونية ملموسة تتسم في جوهرها باللاعدالة، ملموسة بقدر ما كانت أجساد رشا بسيس وحمودي المطيري ملموسة، ولا عادلة بقدر لا عدالة موتهما. ترتبط بهذه القناعة قناعة ثانية تساويها أهمية، أن نظريات الجندر والجنسانية ليست مجرد طريقة ملتوية جديدة للحديث عن حقوق المرأة، بل محاولة واعية لمركَزَة هذه الحقوق في سياق يشمل الذكورة والأنوثة معاً، بكل تلويناتهما الجنسانية، كما التعبيرات التي تتحدى ثنائية ذكر/أنثى أو تحاول العبور من واحدة للأخرى، وهي بالمعنى نفسه ليست «غيتوهات» خطابية وفكرية تتحدث فيها النساء وأفراد مجتمع الميم عن مشاكلهم بعيداً عن «الشأن العام»، بل هي في الواقع معنية بجوهر تشكُّلِ الفضاء العام ككل، وعدسة نستطيع النظر من خلالها إلى شتى أنواع القضايا النظرية والتاريخية والعيانية.

تتنقل مقالات الملف جغرافياً بين سورية ولبنان وتركيا ومصر وتونس وإيران وصولاً إلى الهند، وتتوزع بين نصوص ذات طابع تحليلي وأُخرى كُتبت كشهادات شخصية من موقع نسوي أو كويري. لا تتوانى المقالات عن مجابهة قيم المجتمع المحافظ، دون الوقوع في فخ الثقافوية السهلة التي تتعامى عن تواطؤ الحداثة في جُلّ تاريخها مع هذه القيم. ولا توفر اليسار في بنيانه النظري أحياناً وفي انتهازيته السياسوية أحياناً أخرى من نقدها، دون أن تتخلى عن الإطار التحرري الذي يربطها به ومن ورائه بقيم الأنوار الكونية. وفي حين تعترف لما بعد البنيوية بفضلها المنهجي في دفع التنظير النسوي والكويري خطوات واسعة إلى الأمام، فإنها تتوقف عند الأثر الإشكالي الذي كان لهذا التيار الفلسفي في إعادة تأهيل الفكر الأهلي المحافظ خارج «المتروبول» وداخله من باب مراعاة الخصوصيات الثقافية. لكن الأهم من هذا كله، هو أن النصوص رغم انحيازاتها الفكرية الواضحة لا تضيع في تيه كل هذه المعسكرات الخطابية على حساب صوتها الخاص: بوح كُتّابها الشخصي، تجاربهم المستندة إلى تفاصيل عيانية سياسية واجتماعية غنية، اشتباكهم مع سياقات محلية أو وطنية خاصة، أو قراءتهم لأرشيف تاريخي أو نص أدبي معين. أصالة الملف تتمركز في الصوت الخاص هذا، قبل السرديات الكبرى وبعدها.

*****

بدأت فكرة الملف مع ورشة حول الجندر والجنسانية في سوريا والمنطقة نظمتها مجموعة الجمهورية بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات في تشرين الثاني عام 2017، والآن وقد شارف العمل على الملف على نهايته، من الضروري التوجه بالشكر للشبكة على هذا التعاون المثمر، ولجميع المشاركات والمشاركين في الورشة، على عمق وشجاعة مداخلاتهم-نصوصهم، والتذكير أن نهاية الملف لن تكون نهاية اشتباك الجمهورية مع قضايا الجندر والجنسانية، بل مجرد محطة مكثفة سيتلوها محطات أخرى. ولا بدَّ من الإشارة أيضاً إلى أن الأعمال الفنية المرافقة لمواد الملف هي للرسامة السورية ديمة نشاوي، وقد تم العمل عليها خصيصاً لموقع الجمهورية.

وأخيراً، إذا كان يحق للمحرّر أن يُهدي نتاج عمله، فالملف مهدى لروح رشا بسيس وحمودي المطيري

موقع الجمهورية

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى