الناس

عن الصراصير والقادة والذباب وحزب البعث/ مصطفى تاج الدين الموسى

 


في طفولتي، كان لدي صداقات جميلة مع الحشرات، كنتُ أتجول في حديقة بيتنا بين الأشجار ساعات طويلة، أتسلى باصطياد تلك الحشرات والتعرف عليها، والدخول معها في حوارات تبدو لي الآن غامضة وغريبة، لكنها آنذاك كانت حوارات منطقية جداً بالنسبة لطفل صغير.

أكثر حشرة كنتُ أحبها، هي صرصور داكن من النوع الذي يطير، لا أعرف ما هو اسمه العلمي، كنتُ أخترع له بعض الأسماء بحسب مزاجي آنذاك.

وكلما اصطدتُ هذا الصرصور، أربطه بخيط أبيض طويل، وأجعله يطير أمامي وأنا ممسك بالخيط، ثمّ أخرج لأتمشى في شوارع حارتنا، فيهرب الأطفال من أمامنا وكأننا ــ أنا وصرصوري الطيار ــ أشباح مخيفة.

ذات مساء خطر على بالي أن أمتحن صداقتي مع صرصوري الطيار، هل يمكن أن أثق به أم لا؟ كنت أتمشى خلفه في شارع بيتنا، وهو يطير أمامي مربوطاً بخيط أبيض طويل ينتهي معقوداً على سبابتي.

أغمضتُ عينيّ وتركته يقودني عدة أمتار، لم أتعثر بشيء، جربته مرّة ثانية وتركته يقودني مغمض العينين مسافة أطول، كان يقودني متحاشياً أن أصطدم بأيّ شيء.. أحببته كثيراً آنذاك، شعرتُ أنه قائد يستحق الثقة.

انتبه أطفال جيراننا وقتئذٍ إلي، واستغربوا كيف أمشي مغمض العينين، وصرصوري يقودني، أطلقوا عليّ لقب ساحر الصراصير.

عندما كبرتُ اكتشفتُ وجود قائد في البيت، وقائد في الشارع، وقائد في المدرسة، وقائد في الحارة، وقائد في الجامع، وقائد في البلاد، ثم قادة الفصائل.. إلخ.

كلهم (خلال ثلاثة عقود) قادوا حياتي بالتناوب من خرابٍ إلى خرابٍ آخر.

الآن، وبعد كلّ تلك الخرائب التي عبرتها حياتي، أشعر بالحنين إلى ذلك الصرصور الداكن الطيار، الذي كان يقودني إلى السلام والفرح والدهشة.

في طفولتي ــ أتذكر أيضاً ــ كان لدي هواية غريبة أمارسها بمتعة.

طيلة النهار أتجول في حديقة البيت لأصطاد بيدي، وبخفة بارعة، عشرات الذبابات وأجمعها في علبة كبريت.

وفي المساء أصرخ على إخوتي وأبناء الجيران، ثمّ أرفع أمامهم علبة الكبريت، وأنتظر دقيقة وهم يحبسون أنفاسهم في صدورهم، ثم أفتحها فجأة.. لتحلق الذبابات اللطيفة عالياً، وكأنها بالونات ملونة، في مشهدٍ رائع ومنعش للروح (هكذا كنت أشعر آنذاك).

والدتي حاربت هوايتي هذه بكل الوسائل، وعندما يئست، جلست إلى جواري لتحاورني وتقنعني بأن هذه الكائنات قذرة، فشرحت لها آنذاك:

ـــ الذبابة هي بالأصل كانت فراشة ملونة.. لكنها عندما أكلت من التفاحة المحرمة غضب الله عليها و..

لم تستوعب أمي فلسفة طفلها، لكن الرفيق والدي (وللأمانة) شجعني على ممارسة هوايتي، وقال لأمي إن هذه الهواية هي هواية بروليتارية بامتياز.

لكن، أول قصة كتبتها في 1997 كانت عن ذبابة وعندما قرأها قال أبي لي:

ـــ هل أنت ابني أنا، أم ابن “كافكا”؟

في صيف عام 1999 كنا طلاباً في الثانوية في مدارس حافظ الأسد، كنت بمعسكر للمواهب الأدبية في اتحاد شبيبة النظام، آخر يوم جاءت صبية جميلة ومعها مصور.. وفهمنا أنهما من برنامج للمنظمات الشعبية. مشرف المعسكر اقترح عليها أسماء بعض المراهقين لتقابلهم، وكنت أحدهم.

اقتربت مني، وريثما يجهز المصور آلته أجرت معي بروفة سريعة مكونة من أسئلة كلاسيكية، وكان أن سألتني:

ـــ ما هي هواياتك؟

أجبتها فورا..

ــ اصطياد الذباب..

شهقت:

ــ أتتكلم جادّاً؟

ـــ وهل يوجد بيننا مزاح؟ أجبتها بجدية.

امتعضت وقالت لي بغضب:

ـــ أثناء التصوير، قل من هواياتك: المطالعة الأدبية، وقد شجعني الحزب كثيراً واهتم بموهبتي..

ـــ حاضر..

بدأ التصوير وأعادت عليّ نفس الأسئلة، إلى أن سألتني:

ـــ ما هي هواياتك رفيق مصطفى؟..

أجبتها وبسرعة:

ـــ من هواياتي الحركة التصحيحية.. وقد صلح الحزب حركاتي.. عفواً.. وقد حرك الحزب تصليحاتي.. عفواً.. وقد خرب الحزب.. عفواً.. وقد تحزب الخرب.. عفواً… و… و… و…..

يومها ارتبكت كثيراً، أما هي فكادت أن تصفعني، وظللت بعد ذلك لسنوات أتابع برامج المنظمات الشعبية على قناة البرناج العام، لكن لم أشاهد اللقاء.

والدي قال لي مرة، إن اللقاء عرض في برنامج (طرائف من العالم).

أقلعت عن هوايتي هذه منذ سنوات.

البارحة كنت في السوق عندما بدأ القصف من طائرات النظام والطائرات الروسية، فرجعت إلى البيت مسرعاً، ثم دخلت باب البناء وأنا أتنفس الصعداء.

شاهدت ابن الجيران وهو يصطاد الذباب بمتعة في المدخل. انحنيت إليه وقلت:

ـــ الذبابات كائنات قذرة..

أجابني بغضب:

ـــ لا يا عمو، الطائرات التي تقصفنا هي الكائنات القذرة.. الذبابة بالأصل كانت فراشة ملونة، لكن الله عاقبها لأنها..

قاطعته:

ـــ لأنها أكلت من التفاحة المحرمة..

ابتسم لي فرحاً، وقد عثر أخيراً على من يفهم فلسفته، قبلته ثم صعدت الدرج، وقبل أن أغيب عن نظره ناداني (يا عمو) استدرت إليه، فقال بحزن:

ـــ لا أحد يعرف ما قد يحدث لنا في الأيام القادمة.. قد أذبح في أي لحظة، مثل الأطفال الذين ذبحهم النظام في المجازر.. لهذا، يا عمو، الذبابات أمانة في رقبتك

تلفزيون سوريا

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى