ثقافة وفكر

نتفلكس كمنتج ما بعد حداثي: نحو عزلة جديدة/ أحمد عبد اللطيف

 

 

هل أنتجت ما بعد الحداثة، كمصطلح، الفردانية؟ أم أن خيبة أمل الفرد في الجماعة دفعت الإنسان إلى ما اتفقوا على تسميته بـ ما بعد الحداثة؟

ربما تكون الإجابة الأسهل والأسرع أن الشيء يوجد ثم نعطي له اسمًا، وهي إجابة لا تخلو من منطق ووجاهة، غير أن تسمية الشيء، كما يقول الروائي الإسباني أندريس باربا، تمنح له مصيره. لقد بدأ الإنسان المعاصر يفقد ثقته بالحداثة، لأنها لم تستطع مقاومة حربين عالميتين مات فيهما، بأيد بشرية، ملايين البشر، وتهدمت مئات المدن، وتشردت ملايين أخرى. ربما إنسان ما بين الحربين شعر بالفقد والضياع والهزيمة، ربما بدأ يتجه إلى مشروعه الفردي والكفر بالمشروع الجماعي، لكن هذا الفرد غدا أفرادًا كثيرين حين تأمل نفس الإنسان خرائب الحرب الثانية. لم يكن محض صدفة أن يظهر مصطلح ما بعد الحداثة بعد هذا التوقيت، أن يستخدمه الناقد المصري الأميركي إيهاب حسن، وأن يكرس له ليوتار، وأن تقوم الفلسفة التفكيكية لدى جاك دريدا على أفكاره، وأن يعيد ميشيل فوكو سؤال التاريخ والشك من خلاله، وأن يكتسح تيار الواقعية السحرية اللاتيني أوروبا كأحد مظاهر ما بعد الحداثة الأدبية. إنه مخاض عالم جديد، يعادي السرديات الكبرى ليعود إلى التفاصيل الصغيرة، ليعيد بناء العالم الكبير من خلال أزمة الفرد كفرد وليس أزمة الفرد كأحد أفراد جماعة. وفي الوقت الذي تشكّلت فيه هذه المفاهيم، جاء المصطلح ليمنحها البعد الفلسفي، ليتمكن الإنسان من تعريف نفسه بأنه “ما بعد حداثي”، وهي لا تعادل الإنسان المتطور، بالطبع، إنما تعادل، حتى نستطيع تصور المصطلح، الإنسان المهزوم في عالم شره، الإنسان الذي تعرّف على هشاشته كإنسان وليس كإله، الإنسان المتشظي وليس بوسعه أن يجمع ذاته. وإذا كان هذا الوصف يناسب الشخصية الروائية أو البطل السينمائي، فإن ما بعد حداثي على المستوى الفكري هو المفكر الذي لا يركن للثابت إنما يفككه، والمؤرخ الذي لا يركن للتاريخ إنما للتأريخ، حيث الوثائق والأحداث التاريخية ليست دليلًا على الحدث، إنما قد تكون دليلًا على حدوث عكسه. من هنا كان سؤال قراءة التاريخ في عمق ما بعد الحداثة، وتطور البحث العلمي في هذا الاتجاه عززه ميشيل فوكو.

هذا التطور على المستوى الفكري وازاه تطور على المستوى التكنولوجي، خطف التلفزيون أولًا الفرد، ثم كان للسينما تأثيرها، مع هذا اتسعت رقعة القراءة، وكان التوسع في استخدام الإنترنت إحدى أهم الوسائل التي دفعت الفرد للانكماش في ربع القرن الأخير على الأقل. تلازمت مفاهيم الفردانية مع ما بعد الحداثة، حتى إنه أمكن تكوين صورة ذهنية عن الفرد “المعاصر” “الما بعد حداثي”، باعتباره كائنًا منفردًا، وحيدًا، إنه منتج طبيعي للرأسمالية، ليس فحسب في تأثيرها الاقتصادي، بل في صداها الاجتماعي، حيث المجتمع لا يتكوّن من مجموعة أفراد، إنما فرد وفرد وفرد يكوّنون مجتمعًا، إنهم مجموعة جزر منعزلة لا يربط بينهم إلا النطاق الجغرافي.

هذا المفهوم للانعزال، للتكوير حول الذات، لمحاولة النجاة الفردية، لم تكن خاصة بالعالم الغربي وحده، بل إن صداها كان أقوى في العالم العربي، خاصةً مع الفشل المتكرر في تحقيق نجاح سياسي يمنح للفرد الحرية الكاملة الكفيلة لتحقيق رضاه عن ذاته وشعوره بأنه فرد يساهم في بناء الجماعة. ربما هذا ما يفسر تكوين الجماعات الإسلامية من وجهة نظر أنثروبولوجية، إذ لا يشترط أن يكون الدافع للانضمام دينيًا، إنما اجتماعيًا، الشعور بالأساس بالانتماء لمجموعة من الناس تحت لافتة تعرّف هويتهم. إنهم أفراد شعروا بالوحدة والغربة في عالم ليس بوسعهم أن يفهموه ولا أن يجدوا له مدخلًا، فمنحتهم الجماعة هذا الانتماء. لا يختلف هذا الانتماء عن الانضمام لحزب سياسي، ولا لـ “ألتراس” فريق كرة قدم، بل ولا حتى تكوين اتحاد ملّاك بعمارة سكنية. لكن سريعًا ما تؤدي الجماعة إلى إحباط الفرد عاجلًا أم آجلًا، لكن هذا موضوع آخر.

وفي العالم العربي كان المناسب، منذ فترة ما بعد الاستقلال، هو طرح سؤال الهوية، أو ضياع الهوية. وهو سؤال يتردد كثيرًا عقب ثورات الربيع العربي، ويتجلى في الأعمال الأدبية بقوة. ولعل لحظة الثورات هي لحظة السؤال الجماعي الوحيدة منذ هزيمة 67، وخاصةً أن فترة التسعينيات كانت فترة الإحباط الكبرى من المشروع الجماعي، ويرجع ذلك، كسبب رئيسي، إلى حرب الخليج التي كانت التجسيد لوهن القومية العربية. وهو ما قابله في الأدب العربي سقوط السرديات الكبرى وبزوغ سؤال الفرد وظهور أدب الجسد، والحساسية الجديدة بمصطلح إدوارد الخراط. ووازاه في السينما ظهور موجة الأفلام الكوميدية التي امتدت حتى اللحظة.

مع ذلك، نحن الآن أمام لحظة أخرى أكثر تعقيدًا فيما يخص الفردانية بمعناها الانعزالي. يمكن رصدها منذ 2007 تقريبًا، مع انطلاق فيسبوك كوسيلة تواصل اجتماعية باتت مع الوقت الوسيلة الوحيدة، بديلة الواقع، أو كما يسميها أحد النقاد الإسبان “الواقع الممتد”. وعلى عكس اسمها، كانت وسائل التواصل الاجتماعي دلالة على الانعزال. إنها المسافات الكبيرة التي يضعها الفرد بينه وبين الآخرين، ليكون التعبير عن الذات والحكي من وراء شاشة تعجز عن خلق تواصل حقيقي، مع إيهام أنها تحقق “التواصل”. هذا التيار الجارف نحو الانعزال عززه، مؤخرًا، ظهور “نتفليكس”. بات من الممكن أن تحقق كل شيء وأنت بالبيت، بات من الممكن أن تستغني عن العالم الخارجي وأن تعيش في قبوك، أن تعيش كفرد لا علاقة له بالمجتمع. لقد استطاع “نتفليكس” في فترة قليلة أن يسحب ملايين المشاهدين، وأن تتراجع التجمعات الشبابية أو العائلية لمشاهدة السينما، وأن يتجمّعوا كأسرة بالبيت. قدّمت نتفليكس مجموعة من الأفلام المهمة منخفضة التكلفة، وسلسلة مسلسلات جذابة، وأرفقت بكل ذلك ترجمة للعديد من اللغات. التكنولوجيا الحديثة، نتيجة طبيعية للرأسمالية، تسعى إلى ملء كل فراغات الإنسان المعاصر، وتدعوه إلى “الحياة الجالسة”، إلى الراحة الممتلئة بكل ما يحتاج إليه. يشكّل نتفليكس، كبديل للتلفزيون وللسينما، ذائقة جديدة، وإنسانًا جديدًا يناسب العصر، وباشتراك شهري رخيص مقارنة بأسعار السينما، وبتخليه عن الإعلانات التي تملأ التلفزيون، خاصة التلفزيونات العربية، تخلق المنصة السينمائية والدرامية أسطورتها، أسطورة ستبقى لزمن طويل، لأنها أدركت ما يريده الإنسان الحديث في العالم.

وسائل التواصل الاجتماعية، خاصة فيسبوك، ونتفليكس كمنصة سينمائية، ليست فقط منتجات ما بعد الحداثة، بل منتجات قادرة على تعزيز وتقوية ما بعد الحداثة، ولا تمكن قراءتها إلا في سياق التطور الاجتماعي لهذا التيار، وفي ظل الفشل المتراكم للمشروعات الجماعية. وإذا كان انطلاق ما بعد الحداثة شديد الصلة باستقلال الفرد، وعمومية الأذواق، ونجاح جميع النماذج، وغياب المعايير الفنية والأدبية، ما يعني قبول الجميع وكل شيء، فإن التطور الطبيعي لذلك أن يأخذ كل فرد معاصر ما يناسبه وينأى به بعيدًا، دون أي محاولة لتبادل القناعات أو النقاشات حول المنتج، مع انتصار لفكرة المتعة الشخصية كمعيار للفن.

نجاح نتفليكس في استقطاب الملايين هو في الحقيقة نجاح للفردانية والانعزال، نجاح للقدرة على التعبير عن الإنسان المعاصر. ووسيلة ذكية للهروب، الهروب من المشروع الجماعي والتخلي عن أحلام الجماعات.

ضفة ثالثة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى