ثقافة وفكر

في اضمحلال الديمقراطية: عندما نفقد حقنا في «التجديف»/ محمد سامي الكيال

 

 

تملك عديدٌ من الدول الغربية قوانينها الخاصة ضد التجديف و»إهانة» المعتقدات الدينية، ورغم أن كثيرين يظنون هذه القوانين «رواسب» من عهود مضت، إلا أننا شهدنا طيلة العقود الماضية تفعيلاً مفاجئاً لها في مناسبات خاصة، ما يثير كثيراً من الجدل السياسي والاجتماعي. الجديد في أيامنا أن القوى التي عُرفت تقليدياً بمعاداتها لهذه القوانين، وعلى رأسها اليسار الليبرالي، فقدت حماستها في الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، ومواجهة سلطة الأديان المنظمة، وكثيراً ما أصبحت من معارضي إلغاء قوانين «التجديف»، كما في حالة حزب «الديمقراطيين الاشتراكيين» الدنماركي مثلاً.

القرار الأخير، الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، حول تأييد قرار المحاكم النمساوية بتغريم سيدة «أساءت» لنبي الإسلام، يُعدُّ ضربة كبيرة لجهود التخلص من قوانين التجديف، فهذا الحكم، في حال لم يتم الطعن به، سيؤدي لسابقة قانونية يتم القياس عليها في الحالات المشابهة، وسيدفع المتطرفين، من كل الأديان، إلى محاولة جعل أيديولوجياتهم فوق النقد.

الحق بالتجديف مرتبط بشكل بنيوي بحرية المعتقد، ليس فقط بسبب مبدأ «حرية الضمير»، بل أساساً لتحقيق التوازن في الحريات المدنية، فما دام من حق المتدينين أن يمارسوا معتقداتهم علناً، ويبشّــروا بها بحرية، ما يجعلها مؤثرة في حياة بقية أفراد المجتمع، فمن حق الآخرين أن ينتقدوا هذه المعتقدات بكل الأشكال، بما فيها السخرية والتهكم، وإلا ستصبح الحرية من طرف واحد فقط. فضلاً عن هذا فإن كل دين يحوي بالضرورة «إساءة» لبقية الأديان، مادام ينكر معتقداتها الأساسية، ويعتبرها «تحريفاً» أو «خرافات». دعك من أن مفهوم «الإساءة» نفسه مفهوم ذاتي، ولا يمكن ضبطه بمعايير قانونية يمكن أخذها على محمــــل الجد، فأي شيء يمكن اعتباره «إساءة» بالنسبة لمتدينين تزداد على الدوام رهافة حسهم. لا يعنينا هنا أن نقدم مرافعة لأجل حرية التعبير، فالحجج والبراهين بهذا الخصوص معروفة، وهي من جوهر حقوق الإنسان والمواطن، ما نسعى إليه هو بيان الخلفية الاجتماعية والثقافية لقرار المحكمة الأوروبية وعودة قوانين «التجديف».

مكنات الحساسية

يربط عديدون قرار المحكمة الأوروبية بتصاعد الإرهاب الإسلاموي، وضغط الجماعات الإسلامية في الغرب. ما يدفع المشرعين والقضاة الأوروبيين لتجنب الاضطراب الاجتماعي، من خلال هذا النوع من القرارات، إلا أن هذا التصور غير دقيق، والمسألة فعلياً لا تتعلق بالإسلام بحد ذاته، بقدر ما تتعلق بتغيرات ثقافية في صلب المجتمعات الغربية.

تآكل حرية التعبير لم يبدأ مع الإسلاميين، ففي كل مؤسسات الديمقراطيات الراسخة، مثل الجامعات ووسائل الإعلام والأحزاب السياسية، تتصاعد «الحساسيات»، وتُفرض الرقابة على القول والتعبير الفكري والفني، وتُنزل العقوبات بمن تجاوزوا «الخطوط الحمر»، بدءاً من منع المحاضرات وإلغاء المعارض والندوات، وصولاً إلى الطرد من العمل والتشهير والنبذ المؤسساتي. «سياسات الهوية»، القائمة على جعل الانتماءات المبنية على العرق والثقافة والدين والجنس والميل الجنسي هي الأساس الأول للسياسة والفرز الاجتماعي، تملك هندستها الاجتماعية الخاصة، التي تعتبر الاجتماع الإنساني إقطاعيات منفصلة لا يوحدها إلا الاستهلاك، وداخل كل إقطاعية توجد نظرات مستقلة للواقع والحياة، لا يحوز تفحّصها على الصعيد العام، وبالتالي نقدها والتشكيك بها، لإنها بكل بساطة يجب ألا تملك أي قيمة عمومية تعني المجتمع ككل، بل عليها أن تبقى حبيسة الفصل والتمييز الاجتماعي الذي تفرضه الهوية. هذه السياسات ليست أمراً بديهياً، و»جزءاً من الروح الإنسانية» كما يظن البعض، بل هي بناء اجتماعي تصوغه أجهزة أيديولوجية، وكل أيديولوجيا بالمعنى السلبي (أي بوصفها وعياً زائفاً) تحاول إخفاء طابعها المصطنع، وتقديم نفسها على أنها أمر «طبيعي» وفوق تاريخي.

اليوم لم يعد «تجريم التجديف» مقتصراً على الدين والرموز المقدسة، بل أصبح لكل جماعة هوية مملكتها المقدسة التي يُمنع المساس بها. حتى هويات «حديثة» و»تحررية» مثل المتحولين جنسياً صارت مناقشتها محرمة. الصراع بين قطاع من الحركة النسوية وأيديولوجيا المتحولين خير نموذج على ذلك، الذي وصل في مناسبات معينة إلى منع بعض النساء من إلقاء المحاضرات في الجامعات لأنهن يثرن «حساسية» المتحولين.

جعل ما هو شخصي سياسياً، الذي كان مبدأ تحررياً في السبعينيات من القرن الماضي، أدى في أيامنا إلى تحويل الحيز العام إلى مجال للحميمية بكل حساسيتها، فما دامت السياسة تتعلق بأجزاء أصيلة من الجسد، أو بمعتقدات قائمة على إيمان لا يمكن اختباره موضوعياً وفرضه على الآخرين، فسيصبح كل صراع سياسي أو جدل فكري تهديداً وجودياً يتعلق بالذات واستمرارها. ما يجعل الأفراد «مكنات حساسية»، يجدون في كل ما يقال ويُفعل انتهاكاً لذواتهم الفردية المسيسة. يضيع العمومي والمشترك، ويصبح الحيز العام أشبه برياض أطفال لا يكفون عن الشكوى والتذمر، لا يتمتعون بالصلابة اللازمة لمواجهة «الآخر»، ويملكون ذواتاً منتفخة، تريد كوناً «آمناً» على مقياس تصوراتها الخاصة.

تقوم «الأجهزة» المنتجة لهذه الأيديولوجيا بصياغة جغرافيا هذه التصورات الذاتوية، فتفرض «المساحات الآمنة» في المؤسسات التعليمية والحشود العامة، وتختلق أشكالاً جديدة، نقية هوياتياً، للحراك السياسي، مثل «مسيرات النساء» و»الملونين». وتقيم التجمعات الانتخابية على أساس «تحالف الأقليات»، التي تُعرّف بتعارضها مع هويات أخرى تملك «الامتياز».

فشل المنظومة القضائية

كل هذه التغيرات السياسية والاجتماعية لا يمكن أن تمر بدون تأثير بالسلطة القضائية. وهذا من أخطر نتائج سياسات الهوية وأشدها إثارة للقلق، فالقضاء يبقى المرجع الأخير للفصل في النزاعات الاجتماعية، وتخليه عن مركزه، بوصفه الضامن للبنية الحقوقية للمجتمع، يعني اضمحلال الديمقراطية. التأثير السلبي للهوياتية لا يقتصر على قرار المحكمة الأوروبية الأخير، فقد شهدنا في السنوات الماضية فشلاً مؤسفاً للقضاء الأوروبي في فرض حكم القانون، بدعوى الحساسيات الثقافية، كما في حالة الأحكام المخففة التي تصدر في قضايا جرائم الشرف والعنف الأسري في بعض المحاكم الأوروبية، إيذاء النساء على ما يبدو هو جزء من «هويتنا» التي يحترمها القضاة الأجانب، ويسعون إلى إعطائها غطاء قانونياً. كما تفشل السلطات القانونية الغربية في حماية الأطفال والمراهقين من العنف المادي والمعنوي، الممارس عليهم من العائلة والمدارس الدينية، أو حتى من قبل أقرانهم المتدينين. هذه الظواهر تشير إلى تآكل مبدأ أساسي هو «المساواة أمام القانون»، وعودة إلى ما يشبه نظام الملل، حيث كل طائفة لديها قانونها الخاص، وتتعلق العقوبة بهوية الفاعل والمجني عليه، فالإساءة للمرأة «البيضاء» له عواقب أكبر من الإساءة للمرأة «المسلمة». إنها العنصرية الجديدة باسم «الحساسيات».

الأسوأ في مبدأ «الإساءة للحساسيات» هو إلغاء التعريف الاجتماعي الموضوعي للجريمة، فيصبح تقرير الفعل الجرمي مرتبطاً بالحساسية الذاتية لـ»الضحايا»، وليس قائماً على معايير عامة. لا يقتصر هذا على «مشاعر المؤمنين» أو «حساسية جماعات الهوية»، بل حتى على أفعال مادية مثل التحرش والاغتصاب، أصبح تعريفهما مرتبطاً بشعور «الضحية»، الذي يمكن أن يتغير بأي لحظة ليصبح اتهاماً جنائياً. فيصير الفعل والقول المقبول سابقاً، أو الممارسة بالتراضي، تحرشاً أو اغتصاباً. طبعاً لا داعي في مثل هذه الأحوال للتفكير بمبادئ قانونية بديهية، مثل «عبء الإثبات» و»قرينة البراءة». فالمهم هو «الإحساس» الذاتي.

الحق في التجديف

بناءً على ما سبق، فالحق بالتجديف لم يعد مجرد مبدأ مرتبط بحرية التعبير والضمير، بل هو ممارسة ملحّة، يجب التركيز على أحقيتها، لحماية الديمقراطية وأساسيات حقوق الإنسان والمواطن. عندما يصبح المجتمع ملغوماً بالمقدسات والمحرمات، وتفرض كل هوية «حساسياتها» على الآخرين، فلن يبقى لنا سوى الصمت والخضوع. وعندها يمكن تمرير كل ممارسة قمعية وتسلطية بمبررات هوياتية. إنه الطغيان الجديد، في زمن يبدو فيه أن الديمقراطية باتت عبئاً على السياسات النيوليبرالية. حتى في عز الحرب الباردة، والصراع الأيديولوجي والسياسي المرير في القرن الماضي، كان يمكن للمثقفين التحرريين في الديمقراطيات الراسخة أن «يجدفوا» كما يشاؤون، ويشككوا بأساسيات المجتمع والدولة والنظام. اليوم بات ناقد أي مؤسسة سائدة، سواء الإعلام أو الأكاديمية أو «المجتمع المدني» أو الدين المنظم، يُنبذ بوصفه «شعبوياً»، أو من أنصار «نظرية المؤامرة». إنه مستوى غير مسبوق من «الهيمنة»، لم يتوقعه حتى مفكر مثل أنطونيو غرامشي، أهم منظري الهيمنة.

لن يتأثر الإيمان والأنبياء ببعض المجدفين والنقّاد، فالأديان لم تتطور وتزدهر تاريخياً إلا في جو الجدل والتشكيك و»الإساءة» المتبادلة، كما أن حياة أبناء «جماعات الهوية» لن تصبح أفضل بجعل مقدساتهم فوق النقد، بل سيزدادون عزلة وتخلفاً، ويصبحون تحت وصاية سلطوية خانقة بحجة «حمايتهم». الخاسر الأساسي هو المجتمع ككل، الذي سيفقد كل ما يمكّنه من التضامن، وستتآكل حرياته تدريجياً، ولن تبقى له إلا ثقافة معقمة بليدة، وسلطة لا يمكن «التجديف» بها.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى