سياسة

مخافر ثورجية.. وجلادون/ علي سفر

 

 

 

يمكن تصور أن حالة المراوحة في المكان، التي عاشتها الثورة السورية خلال السنوات الماضية بفعل عوامل كثيرة مثل مساندة الإيرانيين والروس للنظام، وتقاعس المجتمع الدولي عن مساعدة الثائرين والتوجه صوب خيار إسقاط النظام، وكذلك سيطرة الفصائل الإسلامية المتطرفة على الأرض على حساب الفصائل المعتدلة! ستدفع بالعديد من الناشطين الثوريين إلى مراجعة أسباب عدم انتصار الثورة، والخلوص إلى نتائج ربما تفيد السوريين في مجمل حراك التغيير كفعل استراتيجي مستمر.

وفي جهة أخرى سيكون من المفهوم تماماً أن يصاب آخرون بإحباطٍ وفشل سيدفعهم إلى الكفر بالثورة التي تعاني ما تعانيه على أرض الواقع، وخلق مفهوم خيالي عن ثورة مغدورة، يتم التمترس وراء تفاصيلها في الماضي، والاحتفاظ بهالتها المضيئة على هامش البحث عن ملاذات شخصية، تعيد هؤلاء إلى الحياة، بعد أن أفضت سنوات الثورة إلى عزلتهم عما يجري خارج الحالة السورية، وأيضاً التمحور الكامل حول همومها.

وعلى هامش التفاصيل السابقة، وبعيداً عن الاحتمالات الممكنة، نشأت شريحة أخرى من السوريين، وجدت في عالم التواصل الاجتماعي مساحة لفعل يقوم على مراقبة مايجري، ووضع الذات فوقه، في منزلة تخول صاحبها القيام بمحاكمة الآخرين ثورجياً، وإصدار الأحكام بحق المخالفين الذين يتم توجيه الاتهام لهم بخيانة الثورة، ما يستوجب وصم المتهمين بالعار!

لقد وضع كل شخص من هؤلاء معاييره الخاصة في محاكمة الآخرين، وبات من الصعب على السوريين الذين ذهبوا إلى خيار الثورة على النظام الإرهابي القمعي أن يستوعبوا كيف تتم مراقبة تصرفاتهم وكتاباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة استخباراتية، ليتم استخلاص لائحة اتهامية لكل واحد منهم، تؤدي في النهاية إلى إعدامهم معنوياً، على يد أولئك الذين باتوا يمتلكون مخافر ثورجية، يستعيدون فيها كل أدوات التعذيب التي يحكى عنها في فروع الأمن، ولكن من خلال العنف اللفظي المكتوب بحق المتهمين!

تتعدد اللوائح الاتهامية التي يتم استخدامها في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل بعض السوريين ضد سوريين آخرين يخالفونهم وجهة النظر الثورجية، أو يختلفون عنهم في الممارسة السياسية، أو يقرأون السياسة بطريقة واقعية غير طوباوية. فالقاضي الذي يتحول إلى جلاد في السياق، ينطلق من الطهرانية والنقاء، وضرورة تطهير الثورة من الانتهازيين والمستفيدين، وشيئاً فشيئاً تتم مصادرة أي خيارات مختلفة في الرأي والممارسة! ودون أن يتم تقديم خيارات أخرى للمتهمين لكي يقوموا بما هو مناسب، سيتحول الجميع إلى خونة ووصوليين، بينما ستبقى الفئة الناجية من التلوث تطلُ على المشهد من الأعلى لتوزع صكوك البراءة الثورجية عبر الخطاب الشعبوي الذي يجر وراءه جحفلاً من البسطاء الذين يريدون أن يجدوا أسباب الهزيمة، فيعثرون عليها معلقة على مشجب “خيانات” السياسيين والمثقفين والتكنوقراطيين!

البحث في دوافع هؤلاء الذين يستسيغون القيام بأدوار الشيوخ والقساوسة والثائرين والمتمردين في آن معاً، يقود الباحث وبشكل سريع إلى ضرورة تحليل نفسي واجتماعي للظواهر التي تنمو على هامش الحراك الثوري، وبينما يكون هؤلاء فئة قليلة في زمن قيام الثورة، يتحولون إلى فئة كثيرة في زمن هزيمتها! ولكنهم وفي سياق رؤيتهم لأسباب الفشل يستعيدون إرثاً ثورياً قمعياً، يتم استيراده من تجارب الآخرين، فيصبح هؤلاء صورة معاصرة للخمير الحمر الكمبوديين الذين أبادوا ربع سكان بلادهم في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي بحجة تطهير البلاد والثورة من الأعداء من المثقفين المتعلمين والسياسيين! وعلى المستوى الشخصي يرى كل واحد من هؤلاء نفسه (روبسبير)، الذي يطهر الثورة الفرنسية من الخونة أمثال (دانتون) وغيره ممن يذهبون إلى الاعتدال.

لقد أدت فعالية هؤلاء المضطردة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى خلق مناخ قمعي، يتم تشبيهه بالواقع نفسه الذي كان يعيشه السوريون قبل قيام الثورة، إذ صار من الطبيعي مقارنة الإرهاب اللفظي الذي يتم استخدامه من قبل هؤلاء الناشطين، بإرهابي النظام وداعش، وبسياق ممارسات قمعية لطالما عانى منه الثائرون في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، على يد الفصائل المسلحة.

وقد يكون من الملفت حقيقة أن منزلة الثورجي الذي يمتلك مخفره الثورجي أغرت كثيرين من الصحفيين والأكاديميين والفنانين والأطباء من المنفيين خارج سوريا، فصاروا جزءاً من مشهد يتصدرونه، ويمارسون فيه نزقهم الذي يؤدي بالنتيجة إلى حالة عدمية تجرم أي نشاط لا يوافقون عليه، في سياق يعيد إنتاج تاريخ ممارسات النظام، ولكن على يد من يقولون عن أنفسهم إنهم أعداؤه!

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى