مقالات

وصفة نيتشه/ ممدوح عزام

 

 

اللافت أن أكثر الوصفات صرامةً من أجل كتابة الرواية جاءت من فيلسوف لا من روائي، فقد اشترط نيتشه على من يرغب في كتابة رواية أن يضع مئة مخطّط لها. وهو شرط صعب في الحقيقة لا يتبعه الروائيون في العادة، فمَن الذي يملك الصبر والجلد لكتابة هذه العدد المرعب؟ خصوصاً إذا علمنا أن الفيلسوف اشترط، إضافةً إلى هذا، أن يضع الراغب كلَّ واحد من هذه المخطّطات في صفحتين فقط، وأن تكون مقيّدةً بدقّة حرفية بحيث تبدو كلُّ كلمة فيها ضرورةً لا يمكن التخلّي عنها.

 

فإذا نفّذ هذا البند الصعب، فسيكون المرء قد تجاوز واحدةً من المراحل فقط، إذ إن عليه أن يدوّن كل يوم ومن دون انقطاع الملاحظات المتعلّقة بالرواية التي ينوي كتابتها، إلى أن يتوصّل بنفسه لإعطاء هذه الملاحظات الصيغة الأشدّ إثماراً وفعالية.

 

وبعد أن يُنجز هاتين المرحلتين بسلام، وإذا كان جادّاً، حتى الآن، في رغبته، فإن عليه أن يبدأ في جمع الأوصاف للأنماط والشخصيات البشرية التي ينوي أن يجعلها تشارك في روايته، وهي مرحلة مربكة في الحقيقة، إذ إن على الروائي أن ينجز عملية أخرى تالية لها، لم يأت نيتشه على ذكرها، وهي التخلُّص من تلك الأوصاف، أو دمج واحدة بأخرى، كي يستطيع التملّص من الرقابة أو من غضب الأشخاص الذين يرون أنفسهم أو أشباههم في الروايات.

 

لكن نيتشه لا يعنيه أن يغضب أي شخص من رؤية نفسه في مرآة الروائي، فيطلب منه أن يواصل تأمّل دوافع الأفعال البشرية في حلّه وفي ترحاله، وألا يترفّع عن أي تفصيل بشأنها، وأن يكون جامعاً لتلك الدوافع ليلاً ونهاراً.

 

وفي هذه الأثناء يجب أن يروي للآخرين، وأن يستمع إليهم وهم يروون له. وأن يُبقي عينيه وأذنيه مشرعتَين على تتبُّع الأثر الذي تتركه التفاصيل على الحاضرين. ويمكنه في هذه الحال، وفي غيرها، الاستعانة بالأسفار التي سيقوم بها كما لو كان رسّاماً للمناظر الطبيعية، أو مصمّماً للأزياء يبحث عن المبتكرات.

 

قرأت وصفات ماركيز، وفارغاس يوسا عن كتابة الرواية، ووصفة خلف الأحمر التي طلب فيها من أبي نواس أن يحفظ ألف بيت قبل أن يكتب الشعر. والأمر الأكيد الذي يمكن استخلاصه منها هو أن كلّاً منهم لا يمحض الموهبة الكثير من الامتنان، وأنهم جميعاً يعتبرون الوفاء للكتابة نفسها معياراً لاحتمالات الجودة في العمل الأدبي القادم. بينما يتحدّث يوسا عن “الميل الأدبي” بوصفه المكافأة الأفضل لمن يريد كتابة الرواية.

 

تتضمّن الوصفة النيتشوية شرطاً أخيراً قد لا يعجب أحداً ممّن يستعدون للبدء في كتابة الرواية، وهي وصية لا يلتزم بها، ولم يلتزم بها أحد من قبل، إذ ينصح الفيلسوف من يخطّطون لكتابة الرواية، أن يستمروا عشر سنوات على هذه التمارين، إلى أن يكونوا مستعدّين لإخراج عملهم للعالم.

 

من يملك هذه القدرة على رفاهية الانتظار والاستمرار في العمل؟ المحزن أن الزمن قد أخذ من الفيلسوف وقتاً أطول، إذ لم يكتب أيّةَ رواية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى