الناس

أجيال سوريا تكبّلها اتفاقيات الأسد غير الشرعية/ فراس حاج يحي

8 سنوات وأكثر، مرت على انطلاق الثورة السورية والصراع الذي دمر البشر والحجر، وهجّر نصف الشعب السوري. ولم يكتفِ نظام الأسد بتدمير حاضر سوريا، إنما امتد وصولاً إلى مستقبلها ومستقبل أجيالها، عبر إلزامهم باتفاقيات مع حليفيه، روسيا وإيران، ستمتد آثارها إلى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سوريا، لعقود مقبلة.

من أجل إيران وروسيا!

معلوم أن الدول ليست جمعيات خيرية، وإنما كيانات تحكمها المصلحة السياسية والاقتصادية بالضرورة، ولولا ذلك لما دعمت روسيا وإيران الأسد طوال تلك السنوات، ومع اقتراب نهاية العمليات العسكرية في سوريا بدأت تتكشف يوماً بعد يوم الأثمان الباهظة التي طلبتها هذه الدول، مقابل مساندتها الأسد، عبر اتفاقيات اقتصادية، تسترجع بموجبها مقابلاً مالياً لتدخلها من أجله، عبر عقود استثمار طويلة.

وأبرز هذه الاتفاقيات لمصلحة روسيا، استئجار ميناء طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط لمدة 49 عاماً، سبقه منحه الروس قاعدة مطار حميميم في اللاذقية، ومنح عقود استثمارية لشركات نفط روسية، تقضي بمنح الأخيرة حقوق التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري، لمدة 25 عاماً، بمساحة تُقدّر بنحو 2200 كيلومتر مربّع، وربما في المستقبل ستُوقَّع عقود جديدة سيكشف عنها.

وعلى الجانب الآخر، نجد نحو 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم وُقعت لمصلحة إيران، في مجالات اقتصادية، ثقافية، تعليمية. وهو ما أعلن عنه في ختام اجتماعات الدورة الـ 14 من أعمال اللجنة العليا السورية الإيرانية المشتركة في دمشق في كانون الثاني/ يناير عام 2019، ومنها مذكرة تفاهم في مجال الأشغال العامة والإسكان، وأخرى في مجال الترويج للاستثمار بين هيئة الاستثمار السورية ومنظمة الاستثمار والمساعدات الفنية والاقتصادية الإيرانية، وأخرى تتضمن تفاهماً بين المؤسسة العامة للخطوط الحديدية السورية والخطوط الحديدية الإيرانية. كما وُقّعت مذكرة تفاهم في مجال الجيوماتيك (هندسة المساحة الرقمية أو الهندسة الطبوغرافية الإلكترونية)، ومذكرة تفاهم للتعاون السينمائي، وأخرى بين هيئة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في حكومة النظام ووحدة التحويلات المالية الإيرانية، بشأن التعاون في تبادل المعلومات المرتبطة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب. ووقع الجانبان البرنامج التنفيذي للتعاون الثقافي، إضافة إلى البرنامج التنفيذي في المجال التربوي (التعليم ما قبل الجامعي) للأعوام 2019 و2020 و2021، ما يؤكد الطموح الإيراني في الاستيلاء الكامل على بقايا الدولة السورية المتهالكة والمجتمع السوري المنهك.

اتفاقيات الأسد وفق القانون الدولي

تعتبر اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الموقّعة بتاريخ 23/5/1969، والنافذة بتاريخ 27/8/1980، إلى جانب قواعد القانون الدولي العرفية، المرجع الأساس الناظم لقواعد، وأصول إبرام الاتفاقيات الدولية، ومضامينها، والحكم في مسائل المعاهدات عموماً.

وانضمت الجمهورية العربية السورية إلى هذه الاتفاقية في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 1970. وروسيا أيضاً طرف في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، منذ 29 نيسان/ أبريل 1986، فيما وقعتها إيران في 23 أيار/ مايو 1969، ولكنها لم تصادق عليها أو تنضم إليها.

وبناء عليه، فإن سوريا وروسيا طرفان في معاهدة فيينا مع ملاحظة وجود تحفظات للدولتين على المعاهدة تؤخذ في الاعتبار، وبالتالي تنطبق عليهما أحكام المعاهدة من حيث قواعد البطلان والانقضاء أو إيقاف العمل بها، وفي حال وقوع خلاف مستقبلي حول هذه الاتفاقيات، يمكن لإحدى الدولتين اللجوء الى محكمة العدل الدولية للفصل بها. أما إيران فلا تنطبق عليها أحكام هذه المعاهدة، بأي اتفاقية دولية تبرمها لعدم مصادقتها أو انضمامها إليها، وبالتالي إلغاء الاتفاقيات الموقعة معها أسهل بكثير من تلك الموقعة مع روسيا.

ويلاحظ أن اتفاقيات حكومة الأسد مع روسيا وايران، أقرب ما تكون إلى الاتفاقات السرية، إذ لم يتم ايداعها لدى الأمم المتحدة ولم تنشر لتكشف مضامينها الرسمية، علماً أن المادة 80 من اتفاقية فيينا، تنص على أن ترسل المعاهدات بعد دخولها حيز التنفيذ إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة لتسجيلها وحفظها ونشرها، وعلى رغم أنه ليس شرطاً واجباً ولا يؤثر في صحة المعاهدة ونفاذها، إنما فقط تحرم أطراف المعاهدة من التمسّك والاحتجاج بها أمام الأمم المتحدة وأي فرع من فروعها، وبالطبع فإن الغاية من الإجراء ومزاياه، هي التعرّف إلى الاتفاقيات، والضرر الذي قد تحمله لمصالح دولة ما، وهذا تفريط واضح من حكومة الأسد بحقوق الشعب السوري الحالية والمستقبلية.

ويمكن الطعن ببطلان هذه الاتفاقيات لافتقادها شرطاً أساسياً من شروط الصحة وفق معاهدة فيينا وهو شرط أهلية التعاقد والتي تتطلب أن تكون الدولة الموقعة متمتعة بتمام الأهلية الدولية، أي أن تكون تامة السيادة لكي تستطيع إبرام المعاهدات أياً كان موضوعها. والنظام السوري الحالي لا يملك سيادة تامة على الأرض السورية، فأكثر من 40 في المئة من مساحة سوريا خارج نطاق سيطرته، ولا يمكن التذرع بعضويته بالأمم المتحدة كونه فقد شرعيته بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، وعادت الشرعية للشعب السوري حال مطالبته بحق تقرير مصيره، وهذا ما أيدته ضمنياً قرارات الأمم المتحدة في بيان جنيف عام 2012، والذي دعا صراحة الى تشكيل هيئة حكم انتقالي في سورية، وبالتي نزع الشرعية ضمنياً عن حكومة الأسد أو على أقل تقدير جعلها في حالة تنازع مع قوى الثورة والمعارضة السورية، والشعب السوري.

توصيف الاتفاقيات دستورياً

تخالف هذه الاتفاقيات الواقع الدستوري الحالي، بموجب دستور عام 2012 والذي ينص في المادة الأولى على أن “الجمهورية العربية السورية دولة ديموقراطية ذات سيادة تامة، غير قابلة للتجزئة، ولا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها”، والمادة الرابعة عشرة منه، قالت: “الثروات الطبيعية والمنشآت والمؤسسات والمرافق العامة هي ملكية عامة”، وكذلك نصت الفقرة السادسة من المادة الخامسة والسبعين، على أن “يتولى مجلس الشعب الاختصاصات الآتية:- إقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تتعلق بسلامة الدولة وهي معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التي تتعلق بحقوق السيادة أو الاتفاقيات التي تمنح امتيازات للشركات أو المؤسسات الأجنبية، وكذلك المعاهدات والاتفاقيات التي تُحمل خزانة الدولة نفقات غير واردة في موازنتها أو التي تتعلق بعقد القروض أو التي تخالف أحكام القوانين النافذة ويتطلب نفاذها إصدار تشريع جديد.”

وعليه، فإن أي اتفاقية تتضمن تنازلاً عن أي جزء من إقليم الدولة وتلحق ضرراً بالملكية العامة للشعب السوري من ثروات طبيعية، ومرافق عامة يمكن الدفع ببطلانها لمخالفتها القانون الداخلي المتمثل بالدستور، إضافة إلى أن هذه الاتفاقيات لم تعرض على مجلس الشعب لإقرارها، وهذا يبطلها لأنها مخالفة تتعلق بقاعدة أساسية من قواعد النظام الداخلي السوري.

النتيجة

بناء على ما تقدم، نجد أن المعاهدة الدولية تتميز بأمرين، الأول أنها ذات طبيعة دولية لأنها تبرم بين الدول، والمنظمات الدولية، والتي يجمعها وصف أنها من أشخاص القانون الدولي العام، وهو ما لا ينطبق على حكومة الأسد فاقدة الشرعية، بعد الثورة، والأمر الثاني أن لها طابعاً وطنياً لأنها تحمل الدولة التزامات دولية، وقد ترتب عند تطبيقها آثاراً تتطاول حقوق المواطنين وحرياتهم، لذا فمن شروط صحتها أن يتم إبرامها بمراعاة أحكام القانون الداخلي للدولة، وفى مقدمتها الدستور وقواعد القانون الدولي الحاكمة لإبرام المعاهدات، والتي تضمنتها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية، والتي تجيز للدولة المتعاهدة في علاقتها مع دولة أو دول أخرى أطراف في المعاهدة، أن تتمسك ببطلان المعاهدة، إذا كان التعبير عن موافقتها على التزام المعاهدة انطوى على خرق لقاعدة ذات أهمية أساسية من قواعد القانون الداخلي، أو إذا وقع خطأ في إبرام المعاهدة، وكان الخطأ خاصاً بواقعة أو حالة افترضت الدولة وجودها وقت عقد المعاهدة، وكانت تشكل قاعدة أساسية لموافقتها على التزام المعاهدة أو إذا أبرمت الدولة معاهدة نتيجة سلوك تدليسي لدولة أخرى، أو إذا تم إفساد ذمة ممثل الدولة أو إكراهه أو إكراه الدولة، عبر التهديد بالقوة، وفق المواد  46 و48 و49 و50 و51 و52 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية.

وكل ما سبق ينطبق على الحالة السورية، إذ حيث يمكن اعتبار هذه الاتفاقيات أبرمت بالإكراه مع دول تحتل سوريا بقوات عسكرية، وكل ما يتم توقيعه من قبل حكومة الأسد من اتفاقات تنطوي على سلوك تدليسي منه، ومن الطرف الآخر الموقع على الاتفاقية، لانتفاء الشرعية عنه وعن حكومته. وبالتالي فإن موافقة ممثل الدولة السورية على المعاهدة ليست صحيحة وفقاً لأحكام قانون الدولة، وهي اتفاقيات يعتبرها باطلة ولا يعترف بها قسم كبير من الشعب السوري. وتاريخياً هناك سوابق قانونية لانسحاب دول من اتفاقيات نتيجة التغيير الثوري، على رغم أن القانون الدولي يقر بأن التغييرات في الحكومة لا تؤثر في التزاماتها في المعاهدات، إلا أن هناك اتجاهات تؤكد أن التغييرات الثورية في الحكومات تؤثر في التزامات تلك الدول بالمعاهدات وفق ضوابط محددة. ومن هذه الدول التي ألغت التزاماتها بعد التغيير الثوري (ومن المصادفات الغريبة هنا، أن هذه الدول هي حليفة الأسد)، الاتحاد السوفياتي عند قيام الثورة الروسية عام 1917 التي أنهت الحكم القيصري وانتهت بإنشاء الاتحاد السوفياتي، وإيران بعد الثورة عام 1979، والصين بعد ثورة 1949.

وعليه ومن الناحية القانونية في حال عدم نجاح الثورة السورية واستمرار نظام الأسد في الحكم، من دون الوصول إلى مرحلة انتقالية تتشكل بعدها هيئة حكم أو حكومة انتقالية، تطالب بإلغاء هذه الاتفاقيات التي وقعها مع حلفائه، أو على أقل تقدير مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت منذ عام 2011، وحتى الآن فإن أجيالاً آتية في سوريا ستعاني من فقدان السيادة واستنزاف الموارد والثروات الباطنية، ما يشكل خطراً على مستقبل الشعب السوري كاملاً وبأطيافه كلها.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى