مراجعات كتب

“الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة”:طفرة في دراسة الظاهرة/ ساري حنفي

 

 

يمكن القول إن لعزمي بشارة شخصيةً مزدوجةً: من جهة، الرصانة الأكاديمية التي تُوّجت بمشاريعه العلمية الكبرى، بداية كمنظر من المجتمع المدني، وصولًا إلى الدين والعلمانية لينتهي به المطاف اليوم في مشروعه حول الطائفية، ومن جهة ثانية المساجلة السياسية ودفاعه عن قضايا الأمة الكبرى. ولهذه الازدواجية محاميدها، فهو الأبعد عن أن يكون فيلسوفًا تنظيريًّا يأخذنا بمشروع فكري محلقًا بالألاعيب اللغوية والمصطلحات الجركونية المقعرة. فحتى في كتابه الفلسفي النظري بامتياز “مقالة في الحرية” (بشارة 2016) والذي يعد فلسفةً عمليةً تأخذ في الاعتبار مخاض الأمة العربية في حراكها الانتفاضي والثوري، ليصبح السجال السياسي ضرورةً لربط الفلسفة بالعلوم الاجتماعية وأدواتها الميدانية. جمع بشارة طاقةً هائلةً باستخدامه منهجًا مركبًا بمقاربات تاريخية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية لهذه الظواهر التي درسها، مستخلصًا سمات نماذج نظرية في فهم الدين والعلمنة والطائفية. سأقتصر في هذا النص على تناول كتابه الأخير “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة” (بشارة 2016) أو بالأحرى ست قضايا أعتبرها أساسيةً لي، ذلك أن طول هذا الكتاب،الواقع في ثمانمئة صفحة، يمنع من مراجعته كاملا، ولأنتهي بتقديم بعض النقد للكتاب.

التفكيك المفاهيمي للطائفة

يبدأ بشارة بعملية تفكيكية لمفاهيم لها وشائج مع الطائفة، بما يشبه جمبازًا عقلانيًّا دقيقًا وضروريًّا قبل معالجة إشكالية الطائفية. الطائفة بالنسبة إليه ليست مصطلحًا دينيًّا أو ثيولوجيًّا بل مصطلحًا سوسيولوجيًّا يتحدد كظاهرة بالسياق التاريخي، والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وبدرجة التنافس والصراع بين قوى اجتماعية وأنماط الوعي السائدة خلال الصراع. ولذا فهي متبدلة متغيرة عبر الزمان والمكان. ينقلنا بشارة من فهم جوهري للطائفة إلى فهم بنائي (constructionist) يقوم على إظهار حداثية بنائها. فهي تختلف عن مفاهيم الفرق والمذاهب والنحل والملل المستعملة في التراث الإسلامي، أو عن مفهوم “الفرقة” (Sect) الفيبري، أو عن مفهوم الجماعة الأهلية (community) لفرديناند تونيز، أو عن مفهوم الإثنية وعن مفهوم العصبية الخلدوني. هذا عمل مرجعي بامتياز فهو عرض وافٍ للنظريات الغربية والعربية والأدبيات التراثية، إضافةً إلى نقدها وتجاوزها. ويتميز بشارة برفض أي هرمية أو انبهارية، سواء للفكر الغربي أو العربي، فهو يصرّح بأنه يرغب في الجمع بين الديمقراطية الليبرالية والتراث العربي- الإسلامي في فهمه ونقده لظاهرة الطائفية.

التحوّل من الطائفة الدينية المؤسسة تاريخيًّا على مذهب إلى طائفة اجتماعية

يميّز بشارة بين الطائفة الدينية المؤسسة تاريخيًّا على مذهب وبين تحوّلها طائفةً اجتماعيةً. ومن هناك إلى دور المؤسسة الدينية الأساس في تكريس دينية واجتماعية الطائفة. ويأخذنا بشارة برحلة تاريخيّة شيّقة مبينًا كيف قام الصفويون والعثمانيون بعملية المأسسة، ولم يكن ذلك بعيدًا عن تأثيرات عالمية: ففي المرحلة ذاتها التي جرت فيها المذهبة الكاثوليكية والبروتستانتية، قام الصفويون بمذهبة بلاد فارس في القرن السادس عشر. وهنا ينتقد بشارة من يعتبر أن طبيعة الإسلام دينًا نافيًا للكهنوتية أو مؤسسة رجال الدين، فالمؤسسة الفقهية على شاكلة شيخ الإسلام ودور الفتوى أكسبتها هذه الصفة، ولو أن بشارة لم يأخذ بعين الاعتبار تاريخيًّا أن انتشار الطرق الصوفية، والتي لعبت دورًا أساسًا في نشر الإسلام وعلومه، هو شكل من أشكال نفي المأسسة في الإسلام ومؤسسة العلماء والفقهاء، وقد فصّل في ذلك كثيرًا أرماندو سالفاتوري (2017). وبينما يبيّن بشارة أهمية التمذهب تاريخيًّا يرفض التحليلات التي تعتبر أن الطائفية هي الوجه السلبي للدين: “فلا علاقة ضرورية بين الطائفية والتدين، وخاصة بعدما تقوم الطائفية بتحويل الطوائف إلى ما يشبه الإثنيات، بحيث يرجح مركب الهوية على مركب العقيدة” (148)[1]

ومن خلال تأسيسه لفهم الجماعة المتخيّلة، يستفيد بشارة كثيرًا من تنظيرات فرديناند توينز لمفهوم الجماعة الأهلية (community) وإمكانية وجودها مع مفهوم المجتمع. ففي الحداثة يمكن أن يتشكل وعي جماعي مشترك كفيل بتأسيس الجماعة المتخيّلة. هذه الجماعة سوف تجعل الليبرالية غير كافية لحل إشكاليات الحداثة، لأن الليبرالية تنطلق من الفرد وليس “الجماعة”، ومن الحقوق دون إعطاء اعتبار للواجبات. هذه الواجبات التي تنجم عن الانتماء إلى الجماعة، سواء أكان مترتبًا على تقاليد متراكمة تاريخيًّا، أم ناجمًا عن قيم مشتركة وفهم مشترك للخير العام؛ وهذه هي الأخلاق (مقارنة مع القانون) (158)، ولكن الجماعة ليست مغلقة ولا تنجم عن حياة تشاركية وقيم مشتركة بالضرورة، فهي متخيّلة لأنها “أعادت بناء منشأها وأصولها ونصوصها وسلسلة مؤسسيها وموروثها الشفهي والروحي بما يسبغ عليها بواسطة التخيل سمات التماسك والوحدة” (217). ولذا فإن الطائفيّة المعاصرة هي تعصبٌ للجماعة المتخيّلة والذي لا يعني بالضرورة التعصّب للمذهب. وهنا ينبهنا بشارة إلى عدم إسقاط المفهوم الخلدوني للعصبية، والذي هو عصبية للقبيلة التي تقوي الشوكة وتدفع للاستيلاء على الحكم، على عصبية الجماعة المتخيلة مثل القومية والطوائف الدينية الكبيرة المتجاوزة للدول. وبشكل عام يرفض بشارة تركيب العصبيّة الخلدونية على الطائفة والدولة الحديثة: فالنّظام الحاكم قد يُنتج عصبيّة في خدمته أو يُحيي عصبيّة قديمة، ويُضفي عليها معاني ووظائف جديدة لكنّ العصبيّة لا تُنشئ الدولة. (216)

علاقة الطائفية بالعلمانية

وفي علاقة الطائفية بالعلمانية، يبيّن بشارة بحق أن العلمانية في المشرق العربي مثّلت أولًا موقفًا وطنيًّا ضد الطائفية، ولكن ما لبث ذلك أن تغيّر لاحقًا، عندما تحوّلت إلى أيديولوجيا حزبية سياسية مستندة مرجعيًّا إلى نوع من الاعتقادية لم تكن محصّنةً من الطائفية ذاتها. وأصبحت الطائفية في السوق السوداء في السياسة في زمن حكم العسكر. ويعزو بشارة ذلك كما في الحالة السورية إلى “تطور بنية الانقسامات والاصطفافات فيها والتي أخذت أشكالا طائفية وجهوية فاقعة في إعادة بناء العصبية الحزبية على أساس استثارة تلك العصبية الطائفية بإهاب جديد” (358). ويكثّف بشارة ذلك في استنتاج مُرٍّ حول كيفية انتهاء الدولة العربية في المشرق في سياق أزماتها البنيوية العامة إلى استثارة عصبيات طائفية على يد الحكم والمعارضة، وحول كيفية انتشار علمانية في ظل الاستبداد لا تحمل القيم الإنسانية وتقدّس الدولة أو النظام. إنها ببساطة قناع لسيطرة أقليّة طائفيّة.

الطائفيّة: صنيعة إمبريالية أم ظاهرة أصيلة؟

يفكك بشارة نظرية المؤامرة التي اشتهر بها اليسار العربي، باعتبار الطائفية ظاهرةً غريبةً قد صنعها الاستعمار والإمبريالية الحديثة. إنها ظاهرة أصيلة في المجتمعات العربية تمّ تفعيلها من قبل الأنظمة العربية، بما فيها العلمانية منها، ومن قبل تيارات نشرت خطاب الكراهية ذا البعد الديني السياسي الشعبوي ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى. فالمطلوب ليس تحليل الدينامات المجتمعية الداخلية فحسب، ولكن أيضا دور الإمبرطوريات التي تتجاوز الاستعمار والإمبريالية، وهذا ما حثنا عليه أنطونيو نيغري ومايكل هارت (Hardt and Negri 2001). فمثلا، لقد لعبت إيران دورًا مهمًّا في خلق جماعات متخيلة عند الشيعة من خلال مفهوم ولاية الفقيه، وهذا ليس في زمن الدولة الإسلامية في إيران وحسب، ولكن قبلها أيضا (وخاصة في العراق حيث لعب الشاه والمؤسسة الدينية في إيران على تعيين المرجعيات في النجف). فكما ارتبط التبشير المسيحي مع الاستعمار الغربي للمنطقة العربية، يبيّن بشارة حجم التشييع ليس فقط السياسي (الولاء لسياسات إيرانية) ولكن الديني الذي يرافق طبيعة السياسات “الإمبرطورية” الإيرانية في المنطقة. ويمكن استخدام المنطق نفسه بقراءة تصرفات “الإمبرطورية” السعودية في نشر التمذهب السلفي، ودوره لاحقا في تطييف كثير من الصراعات. كل هذه التدخلات الغربية والشرقية، القديمة منها والحديثة، غالبا ما يربط بدعوات الاضطهاد الديني بغض النظر عما إذا كانت واقعية أم متخيلة.

الطائفية السياسية الحديثة

يشير بشارة إلى خطورة الطائفية السياسية الحديثة المعششة في كثير من دول المشرق العربي حيث تظهر بشكلين: أولًا، تفضيل الولاء للطائفة ومصالحها كما تصوغها نخبة سياسية طائفية، وإخضاع المواطنة لها. وثانيا، وهذا الأخطر، هو تجاوز المواطنة في الدولة إلى ولاء لكيانات سياسية ودول خارجها بحجة المشترك الطائفي. وهنا يؤكد بشارة أن الإشكالية لا علاقة لها بالمسألة الضميرية الفردية وإنما بقضية جماعية سياسية.(47) وينتج عن ذلك قومنة لتبعية الناس لدين أو مذهب وإسقاطها على الماضي لتأسيس حقوق لها في الدولة. ويفصّل ذلك في حالة “تقومن” البوسنة والهرسك ما يسميه بشارة بـ”القوميات المتأخرة” وما يطرحه ذلك من مشكلة اندماج الجماعات الدينية المختلفة وخطورة انتقال ذلك إلى العالم العربي. وهذا يبدو بوضوح أحد هواجس بشارة التي أتفق معه فيها، حول خطورة المقاربات الجوهرانية واللاتاريخية للطائفية السياسية، والتي يمكن أن تجعل مشاكل المنطقة العربية من سياسية تأخذ بعض الأحيان شكلًا طائفيًّا، إلى طائفية يتم حلها بالقومنة أو بحلول طائفية تحت مسميات كثيرة أنصعها الديمقراطية التوافقية. وهنا يقدم بشارة نقدًا بنيويًّا للمصطلح واستعمالاته، ويصوغ بشارة ملاحظات نظرية عدة للتمييز بين الديمقراطية التوافقية، كما في حالة إيرلندا، والتوافقية أو “تشارك السلطة” Power Sharing، كما في الحالة اللبنانية والتي لا تحقق بالضرورة الديمقراطية. وينتقد أيضا في الحالة العراقية كيف يقرأ فنار حداد الهوية الطائفية ليس باعتبارها هوية ثانوية، بل على أنها هوية متداخلة مع الوطنية ذاتها، مما يسوق هذا التحليل للاعتقاد بأن هناك عراقين بدلا من عراق واحد (464)، وهذا ما تنفيه نتائج استطلاعات قام بها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ عام 2011 الذي يبين أن إدراك الرأي العام العراقي للطائفية سياسي أكثر منه مذهبيًّا، ذلك أنهم يفسّرون التوتر على أنه نتيجة الصراع على السلطة (767-774). إن أية قراءة للصراعات الحالية على أنها صراعات طائفية (وليس باعتبارها واحدة من ديناميات وتمظهرات عديدة) ما هو إلا قصور جدي في فهم واقعنا. فكثيرا ما نجد في وسائط الإعلام استخدم صفة طائفة الشخص قبل ذكر اسمه، فمثلا قولهم “العلوي بشار الأسد” أو “الدرزي فلان” أو المليشيا الشيعية حزب الله، “الهلال الشيعي”، وكل ذلك محاولة لطمس معالم طبيعة الصراع الأساسي في سورية، والذي هو بين دكتاتورية متحالفة مع طبقات اجتماعية تتجاوز حدود أي طائفة وبين انتفاضة شعبية لها مطالب شرعية حسب الأعراف العالمية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. ولقد كتبت الباحثة اللبنانية ريما ماجد (Majed 2013) مقالة بديعة عن كيف يتم تأطير الصراعات العربية حالياً على أنه صراع سنّي – شيعي وكيف أنه اختزالي ويغشي أعيننا عن الأسباب الأساسية للصراع السياسي في المنطقة.

الطائفية والطبقة

يشن بشارة حملة على بعض الاتجاهات اليسارية الذي وقع في مغالطتين في مسألة الطائفية وهما “1. فرض التقسيم الطبقي على البنية الاجتماعية ما قبل الحديثة، واعتبار أن الطوائف تعبيرات عن صراع طبقي. 2. محاولة فهم التاريخ الشيعي كتاريخ للمظلومين وإسقاط التقسيم بين اليسار واليمين على التاريخ كأن الشيعة كانوا اليسار الإسلامي” (47) من خلال تحليل مضمون عميق لكتابات مهدي عامل ومسعود ضاهر وفالح عبد الجبار ومظفر النواب. ويستعين في ذلك كثيرًا بتحليلات الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار والمؤرخين اللبنانيين أحمد بيضون ووجيه كوثراني وأسامة مقدسي. ففي بعض الدول مثل العراق ولبنان واليمن (حاليا) تشكل الطائفية نمطًا من سياسات الهوية وهذه السياسات شكل من أشكال المشاركة الشعبية. وبما أن الطائفة الدينية هي جماعة متخيلة فإن الطائفية السياسية هي أيديولوجيا موجهة ضد جماعة معينة وذلك من أجل تجنيدها في خدمة مصالح سياسية، تقدم كأنها مصالحها بما فيها “طائفة”. وتجمع هذه الأيديولوجيا مقاولي مصالح الطائفة مع جمهورها. (468)

تفاقم الطائفية: الحالتان العراقية والسورية

في دراسات الحالة، وخاصة العراقية والسورية، يظهر بشارة قدرة فائقة على التعامل مع مفاهيم تاريخية، ولكن أيضا استثمار عظيم للإحصائيات المستقاة من المؤشر العربي (وهو مجموعة استطلاعات قام بها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ عام 2011) أو من مصادر أخرى. وهذا الاستخدام السوسيولوجي للأرقام يظهر حجم المواقف والانطباعات المتغيرة مع الأحداث والسياقات ويدعم تحليله حول الطوائف المتخيلة من قبل الجماهير ويظهر أنها قادرة على تفكيك ظاهرة الطوائف المتخيلة. في الحالة السورية، يذهل القارئ من عرض بشارة لاثني عشر جدولاً عن الانتماءات الطائفية للقادة العسكريين والأمنيين في سورية قبل الانتفاضة السورية في 2011 وبعدها، ليظهر هيمنة شبه كلية لطائفة واحدة هي الطائفة العلوية والتي لا تشكل أكثر من 12% من سكان سورية. (ص 364-371) ليستخلص أن هناك “أساسا واقعيا لتشكل الشعور لدى عامة الناس في سورية بأن أقلية علوية تحكمهم، وشعور بين عامة العلويين أيضا بعلاقة خاصة تجمعهم بالجيش ونظام الحكم” (371). ولكن يفصل بشارة كما فعل قبله صادق جلال العظم أن الصراع في سورية هو صراع سياسي على قضايا لها علاقة بالاستبداد والعدالة الاجتماعية، ولكن هناك علوية سياسية أنشأها النظام السياسي السوري، خصوصا منذ استلام حافظ الأسد الحكم. ومفهوم “العلوية السياسية” هو محاولة للخروج من التفكير بالعلويين كطائفة جوهرانية كلها مستفيدة من هذا النظام إلى علويين كأفراد ارتبطوا بمشروع السلطة الفاسدة والمستبدة. وهو أيضا محاولة لفهم أنه كما في حالة حافظ الأسد، ترافق مع العصبية الطائفية تهميش للمذهب العلوي ومحاولة دمجه في المذهب السني على الأقل على المستوى الطقوسي وإعطاء دور ديني مهم للنخبة الدينية السنيّة، ولكن على ألا تتدخل في السياسة. لقد استخدم النظام سياسة فرق تسد، حيث تعامل مع تلوينات هذه النخبة بسياسات لغايات الشرذمة والضبط وطبعا استمر ذلك إلى يومنا هذا. وسياسات التكفير لبعض الجماعات السنيّة ما هي إلا الوجه الآخر لسلوك النظام الإقصائي للمعارضة من الفضاء السياسي.

بعض النقد

يمثل كتاب بشارة طفرة في دراسة ظاهرة الطائفية، وتعميقًا لدراسات مهمة بدأها ناصيف نصار وبرهان غليون ومهدي عامل وفواز طرابلسي ونادر هاشمي وغيرهم، ولكنني أختلف معه في بعض النقاط، ولوأنها ليست أساسية. وسأكتفي هنا بنقطتين:

الأولى: أنا لا أتفق معه في نقده مفهوم الإثنية في علم الاجتماع، وخاصة إهماله الأدبيات الأوروبية البنائية. فهذه تعطي الإثنية المرونة الكافية ليشمل المفهوم العزيز على بشارة “الطائفة المتخيلة”. ينتقد بشارة عالم الاجتماع الأميركي روجرز بروبيكر (Rogers Brubaker) في كتابه “الإثنية بدون مجموعات” (Ethnicity without groups) (2002). وغير صحيح أن بروبيكر اعتمد فقط على نقد الخطاب، فهو بنى بحثه الذي يظهر أن إضفاء الماهية على الصراعات من خلال خلق مجموعات إثنية ليس إلا وهمًا يمنعنا من فهم آليات تشكل الصراعات وتغيّراتها من خلال تحالفات تتجاوز المجموعة على دراسة قبيلة النوير (Nuer) التي تعيش في أواسط شرقي إفريقيا وعلى غيرها أيضا. فبالنسبة لبروبيكر الجماعات هي بامتياز متخيّلة. ولهذا فقد انتقد كثيرًا من الدراسات التي أهملت تعقيدات التزاوج والتهجين الثقافي لتخلق تصنيفًا هوياتيّاً صلبًا للنوير ككل الذي يمنع الاعتراف بهويات متعددة لهم. هذا التحليل الاختزالي للهويات الإثنية يتناقض مع النهج الذي ينظر به إلى كيفية عمل الإثنية من خلال النظر لا في ماهيتها، ولكن في ديناميكية إعادة رسم حدود (نحن-هم) التي تتغير بشكل مستمر- بطيء أو سريع، متدرج أو درامي- ورصد هذه التغيرات؛ فعوضًا عن التركيز على التحولات الكبرى طويلة الأمد التي شكلت الإثنية، ينبغي النظر إلى الأحداث والتحولات التي تجري في الفترات القصيرة والتي سوف تؤدي إلى تشكل أو تصلب أو تهجين المجموعات الإثنية. إذا يشكل بروبيكر حليفًا لتحليلات بشارة وليس نقيضًا لها، وخاصة في اعتبار بشارة الطائفة ليست جماعةً بل “تحديد جماعة”، لأنها تتضمن أكثر من الحدود التي تفصلها عن غيرها لتشمل تضامنًا وعلاقات متبادلة وتواصلًا بين أفرادها. وبذلك فبشارة محق باعتبار أن الطائفية ترسم الحدود وتنتج جماعة متخيلة وذلك خلافًا للجماعة العضوية التي تنتج هي حدودها مع الخارج.

الثانية، لم يُعر بشارة اهتمامًا ولو نقديًّا لأطروحات الفيلسوف الألماني أكسيل هونيت، والتي تفسّر التدافع الاجتماعي بـ”الصراع من أجل انتزاع الاعتراف“. (Honneth 1996) نحن في المشرق العربي في مرحلة من صناعة التاريخ والحراك الثوري والاجتماعي، ولكنها مرحلة عصيبة بسبب الطائفية السياسية وأشكال الحرب الأهلية بين النخب التي لا تتحدث مع بعضها بعضا ولا تثق ببعضها بعضا. وما حصل في دول مثل مصر حيث تتحالف نخبة مع العسكر لتجريم وذبح النخبة الأخرى، دليل على أننا بحاجة إلى أخذ نظرية هونيت جديا. هذه الأطروحة مهمة لإشكالياتنا فهي تعتبر أن الاعتراف المتبادل بإنهاء الصراعات الاجتماعية وجعل الأفراد يحققون ذواتهم أمر ممكن، وذلك من خلال ثلاثة أشكال معيارية تميزه: “الحب والحق والتضامن. الحب بوصفه علاقة تفاعلية مؤسسة على نموذج خاص للاعتراف المتبادل، وهو بمثابة النواة لكل الحياة الأخلاقية التي يحقق الفرد من خلالها الثقة في النفس، وتتيح له المشاركة بصورة مستقلة في الحياة العمومية. ومن ثم الحق، الذي يعني الاعتراف القانوني، ويضمن حرية الأفراد واستقلالهم الذاتي، ويجعلهم يشعرون باحترام الذوات الأخرى لهم. وأخيراً، التضامن الاجتماعي، وأساسه التقدير من الآخرين بحسب الأعمال المُنجزة والأدوار، أي تلك العلاقة التي تنجدل فيها الذوات بالمسار الشخصي للآخرين، بحيث تقوم روابط التقدير الاجتماعي”. (عثمان 2015) بكلام آخر لعل هذه المستويات الثلاثة للاعتراف (الحب والحقوق القانونية والخصوصية الثقافية للفرد وتضامن الآخرين معها) كفيلة بتسهيل فهمنا لكيفية تجاوز الطائفية وإقصاء الآخر بالاعتراف بوجود الطائفة المتخيلة أو الخصوصيات الفكرية/الثقافية، وإعطائها شكلا من الوجود القانوني والثقافي. وهذا لا يتطلب جهداً من الدولة الوطنية وحسب، ولكن اشتغالاً أيضاً من قبل الطائفة أو المجموعة المضطهدة لتمكين المستويات الثلاثة من الاعتراف. لقد درس كريم صادق (Sadek 2012) كيف يمكن فهم السياسة التحررية لراشد الغنوشي، بصفته مفكرًا وناشطًا إسلاميًّا، ولكنّه مختلف عن الإسلاميين الكلاسكيين، باستخدام نظرية هونيت حول الاعتراف. فما يطلبه الغنوشي هو الاعتراف بالهوية الإسلامية في المجال العام والاعتراف بأهمية النص الديني، ولكن المفسَّر من خلال الاجتهاد ومفهوم المصلحة ويمكن التعامل معه ضمن تنظير الاعتراف لهونيت. وهذا يعني أن نؤسس للاعتراف بالآخر الفردي والجماعي في إطار الدولة المدنية وعلمنة جزئية (أي عدم وضع العلمانية في مقابل الدين أو كنقيض له) ومواطنة قومية وقيم إنسانية وخليط من الديمقراطية الليبرالية والأهلية، وذلك لتحقيق غايات الحرية والعدالة الاجتماعية.

المراجع

 Brubaker, Roger. 2002. “Ethnicity without Groups.” European Journal of Sociology 43 (2): 163–89.

Hardt, Michael, and Antonio Negri. 2001. Empire. Cambridge, Mass.: Harvard University Press.

Honneth, Axel. 1996. The Struggle for Recognition: The Moral Grammar of Social Conflicts. Translated by Joel Anderson. 1st MIT Press ed edition. Cambridge, Mass: The MIT Press.

Majed, Rima. 2013. “Did Arab Uprisings Deepen the Sunni-Shia Divide?” Aljazeera English. 2013. http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2013/12/did-arab-uprisings-deepen-sunni-shia-divide-20131217293301149.html.

Sadek, Karim Sadek. 2012. “Islamic Democracy: The Struggle for and Limits of Recognition.” Thesis, Georgetown University.

بشارة, عزمي. 2016a. الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة. بيروت والدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

———. 2016b. مقالة في الحرية. بيروت والدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

سلفاتوري, أرماندو. 2017. سوسيولوجيا الإسلام: المعرفة والسلطة والمدنية. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

عثمان, عفيف. 2015. “لا علاقات اجتماعية من دون اعتراف متبادل: مراجعة كتاب أكسل هونيث، فيلسوف الاعتراف.” جريدة المستقبل, November 20, 2015. https://almustaqbal.com/article/680314/.

 

ساري حنفي: أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع.

[1] يحيل هذا الرقم بين قوسين وما كان على شاكلته إلى صفحات من كتاب عزمي بشارة الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى