مقالات

خوسيه ساراماغو: تقنيات التخييل الروائي واحتمالاته/ علاء رشيدي

 

 

في العام الماضي، 2017، قدمت منشورات الجمل ترجمة محمد حبيب لرواية (الإنجيل برواية المسيح) للروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو (1922 – 2010). وفي العام الحالي، 2018، أصدرت منشورات الجمل روايتين له: رواية (العمى)، ترجمة علي عبد القادر صالح، ورواية (الكهف)، ترجمة صالح علماني.

لذا، يبدو الحديث عن تجربة هذا الروائي والأديب الاستثنائي مستحقاً. فلا تكمن أهمية خوسيه ساراماغو فقط في كونه من الأدباء الحائزين على جائزة نوبل، 1998، لأن هناك الكثير من الكتاب الذين لعبوا دورًا محوريًا في تاريخ السرد الأدبي دون أن يحوزوا هذه الجائزة، من أهمهم خورخي بورخيس (1899 – 1986)، إيتالو كالفينو (1923 – 1985)، وميلان كونديرا (1929 –). بالمقابل، فإن الكثيرين من الحائزين على نوبل الآداب لم يكن لهم تأثير يذكر على تاريخ الأدب كما تبين لاحقًا.

ولد ساراماغو في عشرينيات القرن العشرين، وهي السنوات التي شهدت ولادة عدد من الأدباء الذين أسهموا بوضوح في سرد القرن العشرين، من أمثال كالفينو، كونديرا، غراس، وماركيز. هذه الأسماء الأدبية ظهرت إسهاماتها الأبرز في ستينيات القرن الماضي. لكن ساراماغو سيتأخر عنهم عشر سنوات ليقدم ما هو متميز بمقدار مهاراتهم وإسهامهم الإبداعي. صحيح أن روايته الأولى (ساعة الشيطان) ظهرت عام 1962، إلا أن ساراماغو لن يتميز بأسلوبه ورواياته إلا مع صدور روايته العاشرة (دليل الرسم والخط)، عام 1977.

دليل الرسم والخط”: أسئلة الفن

والإبداع، الكتابة والرسم

Manual de pintura y caligrafia، هو عنوان هذه الرواية بلغتها الأصلية، والتي ترجمت إلى العربية من قبل شيرين عصمت وأحمد عبد اللطيف، من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011، تحت عنوان (كتاب الرسم والخط).

لقد تأخر تعرف القارئ العربي إلى هذه الرواية. وتكونت شهرة ساراماغو في العالم العربي من روايات أخرى كتبها تاليًا على هذه الرواية، التي وظف فيها العديد من أساليبه السردية الطليعية التي سيستعملها في رواياته اللاحقة، وكونت فكرته الخاصة عن كيفية صناعة الرواية، ونوعية القصص التي يختارها ليسردها.

(كتاب الرسم والخط) تتضمن أبرز الجوانب المهمة في تجربة ساراماغو الأدبية.

(سأواصل رسم اللوحة الثانية، مع أنني أعلم أنني لن أنتهي منها أبدًا. فقد أخفقت تجربتي، وليس هناك برهان على هذه الهزيمة أو الفشل أو العجز أفضل من الورقة، التي بدأت أكتب فيها)- هكذا يبدأ السطر الأول من الرواية. إن الراوي هو رسام يحاول كتابة سيرته الذاتية، والأهم أفكاره عن الفن، الجميل والقبيح، أسلوب الرسم، مصير العمل الفني، ومصير الفنان، وشخصيته: (أبلل فرشاتي وأقربها من القماشة، مشتتًا بين يقين القواعد التي تعلمتها من الكتاب، وحيرة ما سأختاره لأرسمه. وبينما أنقل بدقة نسب الموديل على قماش اللوحة، أسمع همهمة محددة بداخلي تصر على ألا شيء مما أفعله يعد رسمًا. لا أقول لنفسي إنه ليس عملًا ضائعًا، كما فعلت في مرات أخرى، لكي أستمر في الرسم مخدرًا ودخيلًا. الصورة بعيدة جدًا عن النهاية التي أريدها، وقريبة جدًا من النهاية التي قررتها).

يقدم المترجمان للرواية بفقرة مركزة وأساسية (يضع ساراماغو الحياة على لوحات الرسم والتواءات الخط من أجل فهمها، من أجل إيجاد المعنى الحقيقي لكثير من تعقيداتها بشكل فلسفي، من أجل مجابهتها بأسئلة كثيرة تبحث لنفسها عن إجابات من خلال حياة بطل الرواية رسام البورتريه الذي يرسم بيد تتمرد على الفرشاة وتمسك بالقلم وهي تقول: “في الرسم توجد دائما لحظة لا تحتمل فيها اللوحة خط فرشاة آخر، بينما هذه السطور من الممكن أن تطول بشكل لا نهائي”، وهكذا يكتب رسام البورتريه سيرته الذاتية لتتماهى حياته مع الأحداث المهمة، التي مرت بالبرتغال في الفترة التي سبقت ثورة القرنفل عام 1974، وليعكس وجه الكتابة وجه الرسم وليتردد صدى العمل في فكرة أن الأخلاق وعلم الجمال لا ينفصلان، وأن الفن ينبغي أن يكون صوت ضمير المجتمع، وأن الصورة وسيلة من وسائل تحقق المعرفة).

لكن، كيف يمكن لرسام أن ينقل أسئلته وأفكاره عبر الكلمات والكتابة، هو الذي يبرع بالتعامل مع الصورة؟ عن هذا يقول إيتش وهو اسم الراوي (أهب كل فني كرسام مقابل معرفة الأسباب العميقة التي تدفع المرء إلى الكتابة. لكن يمكن قول الشيء نفسه عن الرسم أيضًا). هكذا تتشكل رواية تطرح أسئلة الرسم والكتابة، وفي الفقرة الواحدة يدمج ساراماغو بين الصورة والكلمة بشعرية وفلسفية (الكتابة اختيار، مثل الرسم. تُنتقى الكلمات، الجمل، أجزاء الحوارات، مثلما تُنتقى الألوان ويحدد اتساع واتجاه السطور).

إذًا، ميزة رواية (كتاب الخط والرسم) أنها رواية عن الفن، عن الأسئلة التي تكررت وتتكرر عبر تاريخ الفن، عن شخصية الفنان، ومصير العمل الفني، وأسئلة المهارة أو الإخفاق. لذلك تعتبر رواية هامة في مسيرته، على مستوى الموضوعة.

خمس سير ذاتية للراوي

كذلك تحمل الرواية تجديدًا على مستوى الأسلوب السردي، لبطل الرواية، إيتش، وهو راويها، عبر خمس سير ذاتية، كل واحدة منها تحتل فصلًا مستقلًا عن الأخرى، يسميّها ساراماغو التمارين. إنه يحاول أن يجعل من السيرة الذاتية عملًا قابلًا للاحتمالات المتعددة، وبالتالي أن يجعل ماضي الحياة اختياريًا حسب ما تسمح له تمارينه الخمسة، التي يطلق على كل منها عنوانًا، أي عنوان كتاب السيرة الذاتية.

التمرين 1: حكاية سفر عنوانها: التواريخ المستحيلة، التمرين 2: في بينالي في فينيسا، التمرين 3: مشتري الكروت البريدية، التمرين الرابع: قلبا العالم، والتمرين 5: حكاية رحلة الأضواء والظلال. هذه هي المحاولات الخمس التي يحاول الراوي أن يبتكر سيرته الذاتية في كل مرة بتنويعة مختلفة عن الأخرى، ومقروءة في كتاب يحمل عنوانًا آخر. يسائل هنا ساراماغو الكتابة في أسلوب السيرة الذاتية، هل يمكن أن تُروى حياة بطريقة واحدة؟ ألا يمكن التنويع أو حتى الاختلاق بالحقائق، للوصول إلى تعبير أفضل عن البواطن؟

نقرأ في الرواية (كل شيء هو حياة معاشة، مرسومة، مكتوبة، عندما يكون الإنسان عائشًا، راسمًا، كاتبًا، هو بصورة أخرى معيش، مكتوب، مرسوم).

(سنة موت ريكاردو ريس)، 1984:

تجربة الحياة تقنع بالموت

أصدر ساراماغو هذه الرواية في عام 1984، وصدرت باللغة العربية عن دار المدى، ترجمة أنطوان حمصي، عام 1999. لنلخص حكايتها لا بد من العودة إلى مبدع برتغالي آخر، وهو الشاعر فرناندو بيسوا (1888 – 1935)، الذي كان ينشر قصائده ونصوصه بأسماء مستعارة، تحولت إلى شخصيات متكاملة، تمتلك ماضيًا، فابتكر لكل منها شخصية، وأحداث تاريخ، وذائقة، ومهنة، والأهم حساسية شعرية تميز الشخصية عن الأخرى، وأشهرهم ألبرتو كاييرو، ألفاردو دي كامبوس، وريكاردو ريس.

أثبت فرناندو بيسوا أنه كان فعلًا كما يقول عن نفسه (أنا شخصية رواية ما زال ينبغي أن تكتب)، وبعد خمسين عامًا من وفاته، التقط مواطنه البرتغالي ساراماغو الاحتمالات السردية في حكاية من هذا النوع. إن ريكاردو ريس، أي البديل الثالث عن بيسوا، سيعيش بعد الأصل لتسعة أشهر أو ما يقارب العام من وفاة مبدعه، أو أصله، أو مبتكره. فتبدأ الرواية إذًا بعد وفاة بيسوا، وفي اليوم الذي يصل ريكاردو إلى لشبونة، بعد فترة إقامة طويلة في البرازيل.

هكذا تستمر شخصية متخيلة في الوجود بعد موت متخيلها الأساس. ريكاردو ريس الذي أوجده بيسوا سيحظى بحياة كاملة طيلة تسعة أشهر، وسيتردد عليه بيسوا الميت في زيارات خاطفة خلال هذه الأشهر التسعة، حيث لا يكون الميت قد غادر الحياة تمامًا، وبإمكانه التواصل مع ريكاردو، فتدور الأحاديث والنقاشات بينهما.

هل نلمح هنا تشكل كامل ملامح الحكاية الفانتازية في تجربة ساراماغو؟ ليس بمقدار ما سيجربه في رواية (العمى). لأن مضمون (سنة موت ريكاردو ريس) يتعلق في نهاية الأمر، بالحياة، باليومي، بالأفق المحيط بالإنسان وخياراته الوجودية. فبعد أن تحرر ريكاردو ريس وامتلك كيانًا وإرادة، تمضي يومياته بعد فترة من العيش، كأنها تثبت له أنه (لا بد من الغياب) كما فعل بيسوا. فبعد سنة سيختار ريكاردو ريس الموت بقناعة.

في مقاله (المخيلة تنتهك التاريخ) يقدم سعد رحيم إجابات لماحة عن الأسباب التي دفعت ريكاردو ريس ليختار هو أيضًا الموت كما سلفه. والجواب يأتي عبر متابعة التفاصيل اليومية للشخصية الرئيسية، حيث يتلمس القارئ عبر صفحات الرواية حياةً غارقة في التكرار اليومي، في الروتيني، ومنها تلك العلاقة الجنسية التي يعيشها مع ليديا الخادمة في الفندق الذي يقيم فيه، وحينما يشعر بالتقارب العاطفي مع مرساندا، لا تكتمل بينهما تفاصيل الحب، فمرساندا مصابة بشلل في ذراعها اليسرى، وترحل في سبيل معالجتها.

هذا عن الحب، لكن ماذا عن القراءة؟ يقرأ ريكاردو كتاب (إله المتاهة)، ويختار ساراماغو عنوانًا يوحي بما يريد أن يقول عبر روايته، الله غائب، والمتاهة مستمرة. لكن ريكاردو يعجز عن إكمال الكتاب، وحين يقرر أن يحمله معه إلى العالم الآخر يخبره بيسوا أن سكان العالم الآخر لن يتمكنوا من القراءة. هكذا إذًا الحياة، كتاب مهما برعنا في قراءته، لن يكون بإمكاننا إتمامه، أو على الأقل اصطحابه إلى ما هو تال. وأخيرًا، يفشل تمرد بحارة لشبونة الذي يقيمونه ضد الحكومة، فحتى جانب الالتزام والنضال الذي يلتزم به ريكاردو لا يتكلل بالنجاح.

إذًا، صحيح أن الحكاية تمنح الحياة بطريقة إعجازية، فساراماغو نفسه قد كتب عنها (سنة موت ريكاردو ريس رواية تجعلنا نقبل فكرة، كشيء محتمل التصديق، فكرة حياة أخرى، وهي أكذوبة، وبالتالي حقيقة أخرى، قناعًا آخر، إن في هذه اللعبة دوارًا)، إلا أن هذه الفرصة الممنوحة من الرواية لشخصية متخيلة أن توجد، تثبت لريكاردو أن الحياة محدودة الاحتمالات، وربما لهذا يكتب بيسوا (اختيار عدم الفعل كان دائمًا شاغل حياتي وهاجسي).

(الإنجيل برواية المسيح)، 1991:

النموذج الإنساني والنموذج الإلهي

العام الماضي، أعادت منشورات الجمل تقديم ترجمة خالد الجبيلي لهذه الرواية، بعد أن صدرت في 2000 و2010 عن دار التكوين بترجمة سهيل نجم، الذي يكتب في تقديمه للرواية (يبين ساراماغو أن أنجيله يحاول ملء المساحات الخالية بين الحوادث المختلفة التي حدثت في حياة المسيح كما رويت في الأناجيل الأخرى. يتتبع ساراماغو حياة المسيح من الوعي إلى الصلب، مسلطًا الضوء على يسوع بسيط، لا يستطيع مقاومة تسلط الغرائز البشرية عليه، ولذلك نراه يعيش عيش الأزواج مع مريم المجدلية. أما الإله المستبد المتعطش للدماء والسلطة الذي يكون معه المسيح علاقة غير متوازنة ولا مستقرة، فهو طاغية سماوي).

يرى الناقد ألفراد الخوري أن محاولة ساراماغو إعادة كتابة حياة المسيح (تعلمنا أن التاريخ ليس شديد التماسك، إذ في الإمكان روايته و/أو كتابته بطريقة مختلفة طالما أنّ ذلك يتمّ بوساطة اللغة، وطالما أنّ كلّ سرد إنّما يتضمّن ذاتيّةً ما، انزياحًا ما، شقوقًا منسيّة تتسلّل منها الشاعريّة، ويتسلّل منها ضوء غريب، مشكّك، يصبح للأشياء تحته شكلٌ جديد وللكلمات مذاق حرّيف).

يضيف الناقد ألفراد الخوري (إن ما يميز رواية ساراماغو عن غيرها من الروايات التي عملت على إعادة صياغة حياة المسيح، هو انحيازها الواضح المعالم للأرضيّ ضدّ السماويّ، للمحسوس ضدّ المجرّد، وللإنسانيّ ضدّ الإلهيّ. هكذا نجد أنّ ساراماغو ليس مهتمًّا على الإطلاق بأن يعرف مَن “كان” يسوع حقًّا من المنظار التاريخيّ، بمقدار ما هو مهتمٌّ بأن يتساءل: مَن “يجب أن يكون” يسوع في المنظار الإنسانيّ؟!).

نقرأ في الرواية (يقول يسوع إنّني أنتظر، تنتظر ماذا، سأل الله، وكأنّه شارد البال. إنّني أنتظر أن تقول لي كم من الموت والعذاب سيتطلّب انتصارُك على الآلهة الأخرى، كم من الموت والعذاب ستتطلّب الحروب التي سيخوضها الناس باسمك وباسمي)، وهكذا يقف ساراماغو ضدّ فكرة “هذا الله”، الله الجشِع، السلطويّ، القهّار، كاره البشر، يَهْوَه، هو الذي هو، يقتات على الجثث، ويقيم مع عباده علاقةً قوامُها الخوف والترهيب والإحساس بالذنب.

(العمى)، 1995: حكاية

فانتازية لتحليل الواقع

في عام 2002، أصدرت دار المدى (العمى) بترجمة محمد حبيب. وهذا العام عمل على ترجمتها وتقديمها علي عبد القادر صالح، وصدرت عن منشورات الجمل، 2018.

يمكن اعتبار رواية (العمى) التطبيق الأمثل لمفهوم الحكاية الفانتازية المفاهيمية التي أسس لها بورخيس، وطور عليها العديد من الأدباء. هنا يطلب منا ساراماغو أن نحاول تخيل مدينة حيث مرض العمى ينتقل باللمس، وذلك لكي يدرس الاحتمالية السردية من وراء هذه الفرضية، بغاية الوصول إلى مقولات إنسانية واجتماعية.

يقدم المترجم علي صالح لحكاية الرواية (العمى رواية من دون أسماء شخصيات أو أمكنة، حيث موجة من العمى تصيب مجتمعًا لا على التعيين، فيتحول الجميع إلى عميان باستثناء امرأة تكون شاهدة على هذا الوباء. من الواضح أن ساراماغو نسج من روايته هذه حكاية فلسفية عن عمى البشر الأخلاقي وانحرافاتهم، مما يؤدي إلى نوع من التدمير الذاتي للإنسان).

كذلك يضيف عبد الله إبراهيم على التأويل ذاته للرواية: (بنى ساراماغو روايته على فكرة مستحيلة الحدوث على مستوى الواقع، فبجعله العمى وباءً معديًا نقله من دلالته الواقعية إلى مغزاه الرمزي، وبذلك يكون قد أطلق تحذيرًا بوجه مجتمعٍ حائرٍ التبس عليه أمره، فراح يتضارب حائرًا في ظلّ هلعٍ عام اجتاح المدينة، وأربك كلّ شيء فيها، فانتقلت من كونها مدينة مبصرين إلى مدينة عميان).

إذًا، هو حدث فانتازي يستعمله ساراماغو لكي يكشف لنا عن شرط الواقع وأحواله، وهذه هي تمامًا فكرة بورخيس عن الحكاية الفانتازية المفاهيمية. في نهاية الرواية يدور حديث بين الشخصيتين الرئيسيتين، كأنه يتضمن مقولة المؤلف (هل تريدني أن أخبرك بما يجول في ذهني. نعم، أخبريني. لا أعتقد أننا صرنا عميانًا، أعتقد أننا عميان أصلًا. نحن عميان لكننا نرى. عميان بوسعهم أن يروا لكنهم لا يرون).

في هذه الرواية يعرف أسلوب ساراماغو السردي الذي اشتهر به: رواية بلا فصول، جمل طويلة، وفقرات مسبوكة لا تفارق بينها فراغات الصفحة البيضاء، حتى الحوارات، فإنها تستمر على السطر نفسه، ودون إشارات الاقتباس، ويتم تبادل الحوار بين متحدثين من خلال الحرف الكبير الذي يضعه ساراماغو للدلالة على أن متحدثًا آخر بدأ قوله. وهو نادرًا ما يستخدم علامات التعجب أو الاستفهام، فيتداخل السرد مع حوارات الشخصيات في فقرة واحدة حتى نهاية الفصل، الذي لا يمنحه ساراماغو عنوانًا أو رقمًا. هذا الأسلوب السردي سيتابع ساراماغو العمل به حتى رواياته الأخيرة دون تغيير.

 (كل الأسماء)، 1997: الحب

والبحث عن مجهولة غائبة

ترجمها صالح علماني، عام 2002، مع دار المدى.

رواية (كل الأسماء) تحتمل أن تكون واحدة من أجمل روايات الحب. دون خوزيه موظف في دائرة المحفوظات العامة في السجل المدني، لكن بطاقة السجل الخاص بامرأة مجهولة تظهر في منزله الذي يعيش فيه وحيدًا. وبينما يحاول أن يستكشف كيفية وصول هذه الورقة إلى منزله، تنطلق الرواية في رحلة بحث عن امرأة مجهولة. يكتشف في منتصف الرواية أنها مدرسة، وأنه يرجح أنها فارقت الحياة انتحارًا. دون خوزيه يسير في إثر امرأة لم تعد موجودة، لكنه يشعر وكأنه سيعثر عليها. إنها قصة حب بين حي وغائب. في إحدى فقرات الرواية يدخل دون خوزيه إلى غرفتها في منزل العائلة، يفتح خزانة ملابسها المتروكة هناك، ويستنشق ما يعتقد أنه نفح من رائحتها.

في روايات ساراماغو دومًا هناك ذلك النوع الناضج من الحب، أغلب قصص الحب التي يبنيها تكون بين شخصيات متقدمة في العمر، أغلب شخصيات ساراماغو متقدمة في العمر، ذلك أنه بدأ الكتابة بعمر متقدم، فقدم لنا نوعًا خاصًا من الحب: قصصًا بين أشخاص عبروا النضوج واقتربوا من الكهولة، فيبرع بأن يبتكر لهم نوع الحب الخاص بهم، وبالتالي نوعية قصصهم الخاصة. كذلك الأمر في رواية (الكهف).

(الكهف)، 2000: الحداثة تخدعنا

كما كهف أفلاطون

صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة صالح علماني، 2009، وأعادت منشورات الجمل إصدار ترجمة علماني عام 2018.

الشخصية الرئيسية في رواية (الكهف) خزاف، وله من العمر أربع وستون سنة، يعيش مع ابنته وصهره، وتبدأ الرواية بتوقف ورشة الخزف لأن المركز التجاري لم يعد بحاجة لمنتجاته، ويبدو أن الزبائن أصبحوا يفضلون المواد البلاستيكية. سبيريانو أليغور شارف على أن يخرج من حيوية الأجيال، وخرج من متطلبات السوق والعمل. تتضح إرادة ساراماغو هنا، في إنتاج رواية تدين رهافة النظام الرأسمالي، يقول عنها (في الرواية، يبُنى مركز تسوّقٍ ضخمٍ فوق كهف أفلاطون. ويوجِد الناس معبدًا نظيفًا للحداثة في وسط الوساخة. إنهم يعيشون في شرنقة، وهي تقيهم من الواقع، ومِن تبعات جشعهم وإدمانهم، أنظر إلى الأحزمة الموحشة حول المدن الرئيسية لأوروبا الغربية، والتي ظهرت في وسط حقولها فجأةً هذه المُجمّعات التسويقية المُفعمة بالحركة. لماذا يَخلقُ الناس مثل هذا العالم لأنفسهم طواعيةً؟ أردتُ أن أُظهِر أن حريتنا يمكنها أن تجعلنا نختار بين الخير والشر، لكننا دائمًا نختار الشر ونُقنِع أنفسنا بأنه خير. إننا نظلّ مُحتالين مكفوفين كما في مثال كهف أفلاطون).

رواية بخط سردي موحد، لا تجري فيها الكثير من الأحداث التي تغير من مجراها، يتميز فيها ساراماغو بدقته في وصف مراحل صناعة التماثيل الخزفية وإعدادها، ولكن الأهم اللمحات المرهفة التي يلتطقها في ذهن رجل يجد الحياة تتجاوزه بين اليوم والآخر، ويتحول ليصبح عالةً على صهره وابنته، التي يضطرها حملها بجنين لأن تبتعد عن مساعدة والدها أليغور في المشغل كما كانت تفعل سابقًا. في المآل، يغلق مشغل الخزف، وتضطر هذه العائلة إلى الانتقال للعيش في غرفة الحارس في المركز التجاري. هي قصة عائلة بسيطة من ثلاثة أشخاص قبل لحظات من دهسهم من قبل النظام الرأسمالي، حتى تصبح استقلالية العجوز أليغور مثار قلق لمن حوله.

(الآخر مثلي)، 2002: ازدواجية

الذات بين الخير والشر

عنوانها الأصلي بالبرتغالية (O Homem Duplicado)، لكنّ النسختين الفرنسية والعربية حملتا عنوان (الآخر مثلي)، ترجمة بدر الدين عرودكي، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2007. هذه التنويعات في ترجمة العنوان، بين الازدواجية وبين التشابه، بين التماثل وبين الاستنساخ، هي أسئلة الحكاية التي يعمل عليها ساراماغو هنا.

الشخصية الأساسية أفونسو، أستاذ تاريخ متخصص إلى حد أنه يقترح تدريس التاريخ مقلوبًا أمام مديريه، يقترح عليه زميله أستاذ الرياضيات مشاهدة فيلم عن الخيال العلمي، بين كومبارس الفيلم يكتشف أفونسو شبيهًا له، في الحقيقة الشبه في الشكل، الصوت، ويوم الولادة حد المطابقة، إلا أن المغامرة التي يشرع بها للبحث والتواصل مع هذا الشبيه، ستسمح للقارئ بأن يكتشف ماضي أفونسو وماضي الشبيه، ليتأكد من أحدهما الجانب الخير للآخر السيئ.

*****

ختامًا، أرغب في أن أورد ما كتبه الشاعر رائد وحش بتحليل لماح لمفهوم القصة عند ساراماغو: (تنطلق الرواية الساراماغوية دومًا من فرضية أو من سؤال، وتاليًا يتحوّل النص إلى برهنة على تلك الفرضية، أو إلى إجابة عن هذا السؤال. ولعل هذا أخصّ أسرار صنعة صاحب “قصة حصار لشبونة”. ماذا يحدث لو أصبح الأشخاص الخياليون الذين اخترعهم فرناندو بيسوا أشخاصًا من لحم ودم؟ الجواب هو رواية “سنة موت ريكارو ريس”. ماذا يحدث لو انخلعت شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) من جسد القارة الأوروبية وذهبت إلى مكانها المناسب؟ الجواب هو رواية “الطوف الحجري”. هل يمكن تزوير التاريخ بجرة قلم؟ نعم.. عبر مدقق لغوي يضع حرف النفي في متن النص، وللتأكد من صحة الفرضية عليكم بـ”قصة حصار لشبونة”. وكيف سيكون حال العالم لو أصبنا جميعًا بالعمى؟ اقرأ روايته “العمى” لكي تعرف! وهل يمكن للموت أن يأخذ إجازة؟ طبعًا هذا ما تقوله “انقطاعات الموت”!!).

ضفة ثالثة

 

 

تحميل كتاب الرسم والخط

 

الرابط الأول

الرسم والخط

الرابط الثاني

الرسم والخط

 

 

لتحميل رواية سنة موت ريكاردو ريس

 

الرابط الأول

موت ريكاردو ريس

الرابط الثاني

موت ريكاردو ريس

 

 

 

لتحميل رواية الإنجيل برواية المسيح

 

الرابط الأول

الإنجيل برواية المسيح

الرابط الثاني

الإنجيل برواية المسيح

 

 

لتحميل رواية العمى

 

الرابط الأول

العمى

الرابط الثاني

العمى

 

 

لتحميل رواية كل الأسماء

 

الرابط الأول

كل الأسماء

الرابط الثاني

كل الأسماء

 

 

لتحميل رواية الكهف

 

الرابط الأول

الكهف

 

 

لتحميل رواية الآخر مثلي

 

الرابط الأول

الآخر مثلي

الرابط الثاني

الآخر مثلي

 

 

بعض روايات خوسيه ساراماغو الاخرى

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى