مقالات ونصوص سينمائية

غودار قال عن رواية «احتقار» إنها مبتذلة وصنع منها أفضل أفلامه/ سليم البيك

 

 

■ ما الذي يجعل مخرجاً سينمائياً غير معجب (جداً) برواية يقول بإمكانية أن يُصنع منها أفضل فيلم، ويفعل ذلك؟ هذا كان رأي المخرج الفرنسي جان لوك غودار في رواية الإيطالي ألبيرتو مورافيا التي أخذها وحوّلها لفيلم سينمائي اتّخذ له عنوان الرواية ذاته: «احتقار».

في حوار مع مجلة «دفاتر السينما» الفرنسية نُشر عام 1963، قال غودار وقد كان ناقداً وسينمائياً شاباً في أوج تأسيسه ورفاقه لسينما جديدة عُرفت لاحقاً بـ«الموجة الجديدة» الفرنسية، قال إن الرواية «لطيفة، مبتذلة تُقرأ في رحلات القطار، ممتلئة بالأحاسيس الكلاسيكية، بموضة قديمة، رغم الحداثة في الأوضاع، لكن مع نوع كهذا من الروايات يمكن لأحد أن يصنع فيلمه الأفضل».

لم يأخذ إذن غودار الرّواية ذاتها ليصنع منها فيلماً مادامت بتلك الأوصاف بالنسبة له، بل استلّ منها ما يمكن أن يأتي بالفيلم الأفضل، وكان فعلاً فيلمه «احتقار» من بين الأفضل لغودار. وفي النهاية لم يكن للرواية (التي أتت على كل حال بترجمة عربية متواضعة لسهيل إدريس) في تاريخ الأدب مكانة الفيلم في تاريخ السينما.

يقول غودار في المقابلة ذاتها إنّه «التزم بالفكرة الرئيسية مع تغييرات بسيطة في التفاصيل، على مبدأ أن ما يتم تصويره يختلف عمّا تتم كتابته، والفيلم بالتالي عملٌ أصيل». فما الذي فعله غودار أخيراً؟ أخذ الحكاية وشخصياتها، جعل السرد يتقدّم في خط زمني واضح، مزيلاً التداخل الزماني في الرواية، ثم أضاف بالمونتاج والتصوير واللقطات البانورامية لمساته الخاصة، وترك جوانب عديدة من الرواية هي أساسية في الكتاب، لكن ليس في فيلم يحكي عن أحداث تجري في يومين: واحد في روما والآخر في جزيرة كابري، في حين امتدت الأحداث في الرواية على زمان أطول ومتداخل.

أمّا ما تركه غودار جانباً فقد شغل ما يمكن تقديره بثلثي صفحات الرواية. إنّنا وإنّ كنّا سنشاهد في فيلم بساعة ونصف الساعة الشخصيات ذاتها وحكايتها بينها وبين بعضها، بما في ذلك بعض التفاصيل حتى في الديكورات، إلا أن الفيلم، كي يكون فيلماً أصيلاً كما قال غودار، لا بد أن يُسقط ما لا غاية من تصويره (برأي المخرج طبعاً)، وهي هنا معظم ما في الكتاب: الحوار الداخلي الذي يمتد على صفحات طويلة، خاصة أنّ الرواية عبارة عن رواية البطل لحكايته مع زوجته ومع احتقارها له، فكان لا بد من أفكار وافتراضات وتساؤلات أن تمر وتستطيل في روايته للحكاية.

«الحداثة في الأوضاع» التي نقصت الرواية كما قال غودار تتعلق في الأسلوب الذي أتى واضحاً في فيلمه، الذي أتى أكثر ثورية وأقل كلاسيكية من الرواية، أكثر حداثة ونقيضاً للموضة القديمة التي رآها في الرواية، ومتخففاً من نقاشات طويلة وعميقة في الرواية تناولت «الأوديسة» لهومر مسقطةً مسألة مغادرة أوليسيس لإيثاكا ثم عودته إليها، وعلاقته بزوجته، على بطلَي الرواية: ناقد الأفلام الذي سيتحول لكاتب سيناريو كي يجني مالاً أكثر، ويسدد أقساط بيت اشتراه ليسعد زوجته، وزوجته التي ظنّته يدفعها – لذلك السبب- كي تمضي وقتاً أكثر مع المنتج الذي يتحرّش بها، فتحتقر زوجها ويهجس هو بسبب احتقارها.

يمكن لهذا المثال (الرواية والفيلم) أن يكون من بين الأنسب لفهمٍ أفضل للعلاقة بين الأدب والسينما، أو بين الرواية والفيلم (كعملين يكملان بعضهما) المأخوذة حكايته وشخصياته عنها، ولا أقول الفيلم المأخوذ عنها، فما يُصوَّر ليس تماماً ما يُكتب، والفيلم هنا عمل متأصّل، مستقل بذاته، بُنيت حكايته وشخصياتها على تلك التي في الرواية، إنّما له حدوده السيادية فيما يخص التلقّي له كعمل إبداعي مستقل عن كل ما هو خارجه، أو كل ما هو خارج المئة دقيقة من عمره (في حالة فيلمنا هذا)، وذلك لا يفي الفيلم حقّه وحسب، بل والرواية كذلك.

بغض النظر عن رأي غودار برواية مورافيا، فإنها تطرح قراءة خاصة للأوديسة وتفسيرات متعددة لها تجمع بين الفرويدية والماركسية، فيها الحوار الداخلي (تيّار الوعي) وذلك السّرد السلس الذي يكون بين الرّاوي والقارئ، فيها التداخل بين الأزمنة الذي يزيد من حيويّة النّص، والأهم أن في الرواية إن كانت قـــراءتها لاحـــقة لمشـــاهدة الفيلم، فرصة للتعرّف على عوالم جديدة للشخصيات التي أحببناها، إذ يسعها الكتاب ولا يفعل الفيلم، كأنّ الرواية تعطي أبعاداً زمانية ومكانية وفكرية للحكاية في الفيلم، وليس صحيحاً دائماً أنّه علينا قراءة الرواية قبل مشاهدة الفيلم، أي رواية وأي فيلم.

لكن في النّهاية، ليس في الرّواية هذه «احتقار»، لا ألوان التكنيكولر في فيلم غودار، ولا بريجيت باردو، ولا الموسيقى التي لن يجدي الحديث عنها هنا كما لن نجدها في النّص الروائي.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

القدس العربي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى